الإمام علي عليه السلام في عهد عمر بن الخطاب

البريد الإلكتروني طباعة

في عهد عمر بن الخطَّاب

« فواعجباً ، بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها ، فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسُّها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها » (1) !!

نعم عجباً ، فبالأمس كان « الشيخ » يرجع إلىٰ علي عليه السلام في شتَّىٰ الأمور ليلتمس منه الصواب ، حتّىٰ كان يقول له : « لازلت موفَّقاً يا ابن أبي طالب » وكان يستقيل الخلافة في حياته إذ كان يقول : « أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم » فكيف ـ والحال هذه ـ يعقدها لعمر بعد وفاته ... !

وبلا شكٍّ فأنَّ هناك سابق اتِّفاق بينهما ـ بين الخليفة والوزير ! ـ فقد كرهوا أن تجتمع النبوَّة والخلافة في بيت واحد ! هذا القول قد نطق به أحدهم بأعلىٰ صوت وأصرح بيان !

وأخيراً ـ وكما هو منتظر ـ عهد أبو بكر بالخلافة من بعده إلىٰ عمر بن الخطَّاب وكان عُثمان بن عفَّان من أشد أنصار هذا الاتِّجاه ؛ لأنَّه شريك الدرب القيادي كما سيتَّضح قريباً !!

وبهذا الحال تمَّت الخلافة لعمر بن الخطَّاب ، وتحقَّقت ضالَّة قريش المنشودة في إبعاد أهل بيت النبوَّة الذين ظهر منهم شعاع الإسلام .. ويا ليتهم لم ينبسوا بكلمة واحدة تدين غصبهم لحقِّ أهل بيت النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم ، لكنَّهم وللأسف الشديد اعترفوا بكلِّ نواياهم المبيّتة ..

مضىٰ عمر بن الخطَّاب في سياسته علىٰ نفس الخطِّ الذي مشىٰ به أبو بكر ، حذراً كما أوصاه صاحبه : « إحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم » وكأنِّي أراه لا يقصد إلَّا عليَّ بن أبي طالب !

وشدَّد عمر علىٰ هؤلاء النفر ، حسب ما أوصىٰ إليه ابن أبي قحافة ، فأوَّل ما بادر إلىٰ فعله : حبس هؤلاء الثَّلة المؤمنة في المدينة ولا يسمح لهم أيضاً أن يقاتلوا الكفَّار مع المسلمين كي لا تنتفخ أوداجهم ! ويقول لمن يلتمس منه الجهاد : لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يكفيك ، نعم ما يكفيه من الثواب والشرف !! عجباً وألف عجب !!

نرجع القول مرَّة أُخرىٰ : قد اعترفوا بحقِّ عليٍّ عليه السلام في الخلافة ، فهذا عمر بن الخطَّاب ، في حوار مع ابن عبَّاس دار بينهما ، يعترف بظلامة ابن أبي طالب .. وفي الحقيقة نلتمس من جواب ابن الخطَّاب علىٰ أسئلة ابن عبَّاس تبريرات عديدة في إقصاء عليٍّ عليه السلام عن حقِّه في خلافة الرسول.

يقول عمر أمام ابن عبَّاس : « لقد كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمره ذروٌ من قول ، لا يُثبت حجَّةً ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربعُ في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه ، فمنعتُ من ذلك .. » وكذا أيضاً في حديث ابن عبادة (2).

وفي عدَّة مواضع مع ابن عبَّاس :

قال ابن عبَّاس : إنِّي لأُماشي عمر في المدينة ، إذ قال لي : يا ابن عبَّاس ، ما أرىٰ صاحبك إلَّا مظلوماً.

فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها. فقلت له : يا أمير المؤمنين ، فاردد إليه ظلامته ! فانتزع يده من يدي ، ومضىٰ يهمهم ساعةً ، ثُمَّ وقف فلحقته ، فقال : يا ابن عبَّاس ، ما أظنُّهم منعهم عنه إلَّا أن استصغره قومه !

فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولىٰ ، فقلت : والله ، ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك (3).

وفي مرَّةٍ أُخرىٰ يقول لابن عبَّاس : أتدري ما منع الناس منكم ؟

قال ابن عبَّاس : لا.

قال عمر : لكنِّي أدري.

قال ابن عبَّاس : وما هو ، يا أمير المؤمنين ؟

قال : كرهت قريش أن تجتمع فيكم النبوَّة والخلافة فتجخفوا جخفاً (4) ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت فأصابت !

قال ابن عبَّاس : أيُميط عنِّي أمير المؤمنين غضبه ، فيسمع ؟

قال : قل ما تشاء.

قال : أمَّا قولك : إنَّ قريشاً كرهت ، فإنَّ الله تعالىٰ قال لقوم : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) وأمَّا قولك : إنَّا كنَّا نجخف ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنَّا قوم أخلاقنا مشتقَّة من أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي قال فيه الله تعالىٰ : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).

وأمَّا قولك : فإنَّ قريشاً اختارت ، فإنَّ الله تعالى يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) وقد علمت يا أمير المؤمنين أنَّ الله اختار من خلقِه لذلك مَنْ اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفِّقت وأصابت.

ثُمَّ قال : وأمير المؤمنين يعلم صاحب الحقِّ من هو ، ألم تحتجَّ العرب علىٰ العجم بحقِّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، واحتجَّت قريش علىٰ سائر العرب بحقِّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟! فنحن أحقُّ برسول الله من سائر قريش (5).

وأمثال ذلك من الأعذار التي كان يلتمس منها ابن الخطَّاب سبباً يبرِّر موقفهم من الإمام عليٍّ عليه السلام ، وهي كثيرة يطول بذكرها المقام ، وقد عدَّها سبباً في إقصاء الإمام عليٍّ من الخلافة (6).

وبعد مدَّةٍ وجيزة واصل عمر حروب الفتوح ، فبعث المثنىٰ بن حارثة الشيباني في مواصلة تلك الحروب في نواحي العراق ، فهزمهم الفرس ففرُّوا إلىٰ الأطراف ، فوقف عمر من أمره حائراً ، وأخذ يستشير الصحابة في أن يخرج هو بنفسه في مواصلة الحرب ..

ولمَّا استشار عليَّاً عليه السلام نهاه عن الخروج قائلاً : « نحن علىٰ موعدٍ من الله ، والله منجزُ وعده ، وناصر جنده ، ومكان القيِّم بالأمر مكانُ النظَام من الخرز ، يجمعه ويضمُّه ، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز وذهب ، ثُمَّ لم يجتمع بحذافيره أبداً ، والعرب اليوم ، وإن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام ، عزيزون بالإجتماع ، فكن قُطباً ، واستدر الرحا بالعرب.

إنَّك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتّىٰ يكون ما تدع وراءك من العورات أهمُّ إليك ممَّا بين يديك. إنَّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشدُّ لَكَلِبهم عليك ، وطمعهم فيك » (7).

وبحقٍّ إنَّ كلَّ كلمة من كلمات هذه الخطبة تعكس لنا عظمة علم الإمام عليه السلام .. وتنمُّ عن شخصيّته المجلَّلة بالكمال والحكمة والصدق ، وبحقٍّ إنَّه كما قيل : « هو القرآن الناطق ، وما بين الدفَّتين القرآن الصامت » فهو عليه السلام لم يأخذ إلَّا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو معلِّمه الأوَّل والأخير الذي يستقي كماله من الله عزَّ وجلّ ..

فاستبشر عمر بهذه النصيحة العظيمة وعمل بها ، وكان باباً للفتوح وقنطرة لانتصارات عدَّة ..

أمَّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد قنع من الدنيا أن لا يتكلَّم إلَّا بلسان البررة الأطهار ، ليقدِّم للمسلمين ، ويحافظ علىٰ الشريعة المطهّرة ، ويمنع من مخالفتها قولاً أو فعلاً ، في أكثر الموارد التي أوضح فيها المشكلات على عمر وحال دون تطبيق أحكام منها على خلاف الكتاب والسنّة ، بحيث لو سكت لكانت أحكاماً تتّبع ، حتّىٰ قال فيه عمر : « لولا عليٌّ لهلك عمر » ، « أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن ».

كذا رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس ، متجاهلاً حقَّه ، من أجل حفظ بيضة الإسلام ، وقد ساهم الإمام عليه السلام بكلِّ ما بوسعه ، وادَّىٰ ما عليه من البلاغ ، من تعليم وتفقيه ، بل وقضاء أيضاً ..

ومن الأمور التي أشار الإمام علىٰ ابن الخطَّاب هو أن يدوِّن التاريخ الإسلامي ، وأن يجعل أوّل عام في تاريخ المسلمين هو عام الهجرة ، حيث لم يكن للناس تاريخ خاصّ يؤرِّخون فيه ، فبعضهم كان يؤرِّخ بعام الفيل ، وآخرون يعتمدون في تاريخهم تأريخ الدول المجاورة لهم .. ممّا سبَّب الكثير من المشاكل والخلافات ، لذلك عزم ابن الخطَّاب علىٰ أن يضع للمسلمين تاريخاً يعتمدونه في أمورهم.

ولمَّا رأىٰ اختلاف الصحابة توجَّه إلىٰ الإمام عليه السلام ـ كعادته ـ بعد أن خاف أن يتفرَّق أصحابه ؛ لأنَّهم وقعوا في اختلاف شديد .. لمَّا أقبل علىٰ عليِّ بن أبي طالب عليه السلام اتَّجه إليه يسأله ، فقال عليه السلام : « نؤرِّخ بهجرة الرسول من مكَّة إلىٰ المدينة » فأعجب ذلك الخليفة وكلُّ الصحابة ، وهتف عمر يقول : « لازلت موفَّقاً يا أبا الحسن » ، فأرَّخ بأهمَّ حدثٍ تاريخي عظيم ، هجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبداية عهد جديد في انتصارات عديدة ، كما مرَّ سابقاً ..

وفي هذه الفترة ظهر من الإمام عليٍّ أمور كثيرة وتعلّم الناس منه الفقه والحديث والتفسير ، وكان مرجع المسلمين والمحافظ على الاحكام وسبباً للنجاة من القتل والخلاص من الموت ، فمثلاً :

روي أنَّه أُتي عمر بن الخطَّاب بحاملٍ قد زنت ، فأمر برجمها ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « هَبْ لك سبيلٌ عليها ، أيُّ سبيل لك علىٰ ما في بطنها !؟ والله تعالىٰ يقول : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) » ، فقال عمر : لا عشتُ لمعضلةٍ لا يكون لها أبو حسن ، ثُمَّ قال : فما أصنع بها ؟ قال : « احتط عليها حتّىٰ تلد ، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم الحدَّ عليها » فسُرِّي بذلك عن عمر ، وعوَّل في الحكم به علىٰ أمير المؤمنين عليه السلام (8).

وتوفِّي عمر في ليلة الأربعاء ، لثلاثٍ بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين ، طعنه أبو لؤلؤة ، مولىٰ المغيرة بن شعبة ، بخنجرٍ مسموم ، فمات علىٰ أثرها (9).

الهوامش

1. نهج البلاغة : الخطبة 3.

2. انظر شرح نهج البلاغة 6 : 44.

3. شرح نهج البلاغة 6 : 45 ، 12 : 46 ، مسند أحمد 1 : 3 ، 331 ، و 3 : 212 ، 283 ، سنن الترمذي 5 : 636 / 3719 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 76 ، الإصابة 4 : 270.

4. جخف : تكبّر.

5. انظر : الكامل في التاريخ 2 : 458 ، تاريخ الطبري 5 : 31 ، شرح ابن أبي الحديد 12 : 53 ـ 54 ، والآيات حسب التسلسل ، سورة محمَّد : 9 ، سورة القلم : 4 ، سورة الشعراء : 215 ، سورة القصص : 68.

6. انظر شرح ابن أبي الحديد 12 : 78 ـ 79 ، 6 : 45 ، 12 : 46.

7. نهج البلاغة ، الخطبة : 146.

8. إرشاد المفيد 1 : 204 وما بعدها.

9. أنظر قصَّة مقتله في الكامل في التاريخ 2 : 446 ، سير أعلام النبلاء 2 : 88 ، وغيرها من كتب التراجم والتاريخ.

مقتبس من كتاب : [ الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ ] / الصفحة : 156 ـ 162

 

أضف تعليق

الإمام علي عليه السلام

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية