عبدالله بن عبّاس في مجلس شورى عمر

البريد الإلكتروني طباعة

الحبر في مجلس شورى عمر

1 ـ أخرج الفسوي بسنده عن ابن عباس قال : « دعاني عمر وكان يدعوني مع أشياخ أصحاب محمّد حتى كان بعضهم يجد من ذلك في نفسه ، وقد كان أمرني أن لا أتكلم حتى يتكلموا.

قال : فدعاني وهم عنده فقال : إنكم قد علمتم ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ليلة القدر اطلبوها في العشر الأواخر وتراً. ففي أيّ العشر ترونها ؟

قال : فلم يتركوا شيئاً في وتر العشرة إلا ذكروه. فقال لي : ما لك لا تتكلم يابن عباس ؟ قال : قلت إن شئت تكلّمت. قال : ما دعوتك إلا لتتكلم » (1).

وفي لفظ عند ابن سعد : « فقال عمر لابن عباس ألا تتكلم ؟ قال الله أعلم قال قد نعلم إن الله أعلم ، إنّما نسألك عن علمك فقال ابن عباس : الله وتر يحب الوتر ، خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن ، وخلق الأرض سبعاً وخلق عدة الأيام سبعاً ، وجعل طوافاً بالبيت سبعاً ورمي الجمار سبعاً ، وبين الصفا والمروة سبعاً ، وخلق الإنسان من سبع ، وجعل رزقه من سبع.

قال فقال عمر : فكيف خلق الإنسان من سبع ؟ وجعل رزقه من سبع فقد فهمت من هذا أمراً ما فهمتُه. قال ابن عباس : إنّ الله يقول : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ... ) حتى بلغ إلى قوله : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) ثم قرأ : ( أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (3).

فأمّا السبعة فلبني آدم ، وأمّا الأبّ فما أنبتت الأرض للأنعام ، وأمّا ليلة القدر فأراها ـ إن شاء الله ـ إلّا ليلة ثلاث وعشرين يمضين وسبع يبقين » (4).

فقال عمر : « أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الّذي لم تستو شؤون رأسه. ثم قال : إنّي نهيتك أن تتكلم فذا دعوتك معهم فتكلم » (5).

ولئن كنّى ابن عباس من أدبه عن الذين وجدوا في أنفسهم من حضوره بكلمة ( بعضهم ) ، فإن ابن حجر حكى عن عبد الرزاق في حديثه : أن الساخطين هم جماعة المهاجرين ولفظه : قال المهاجرون لعمر ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس ؟ فقال : ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول (6).

أمّا البخاري فقد روى في صحيحه بسنده قال : « كان عمر رضي الله عنه يدني ابن عباس فقال عبد الرحمن بن عوف : إن لنا أبناء مثله ؟ فقال : انه من حيث تعلم ... » (7).

ومهما يكن الساخط واحداً أو أكثر فليس بعجيب لو تسخط ، إنّما العجب أن يكون عبد الرحمن بن عوف ساخطاً ويبدي سخطه ، وهو الّذي بعدُ لم يزل يقرأ القرآن عند ابن عباس.

ألم يروِ لنا البخاري في صحيحه حديث الفلتة في باب رجم الحبلى. وفيه : « أنّ ابن عباس كان يُقريء جماعة من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف » (8) وذلك في آخر حجة حجّها عمر من سنّي ولايته.

2 ـ أخرج ابن سعد (9) والفسوي واللفظ له عن ابن عباس قال : « كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال بعضهم : أتأذن لهذا الفتى ومن أبنائنا مَن هو مثله ؟ فقال : فيه ممن قد علمتم ، فأذن لهم يوماً وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) (10) فقالوا : أمر الله عزّ وجلّ نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا فتح الله ( عزّ وجلّ ) عليه أن يستغفره وأن يتوب عليه.

فقال لي : ما تقول يا بن عباس ؟ فقلت ليس كذلك ، ولكنّه أخبر نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بحضور أجله فقال : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح ـ فتح مكة ـ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ـ أي فعند ذلك علامة موتك ـ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) (11).

فقال لهم : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون » (12).

3 ـ أخرج الحاكم والطبري عن ابن أبي مليكة وعطاء : « انّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلا هذه الآية : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) إلى ها هنا ( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) (13) ، فسأل عنها القوم وقال : فيما ترون أنزلت ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ) ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فغضب عمر وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي شيء منها يا أمير المؤمنين. قال : يا بن أخي قل ولا تحقّر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل » (14) ، وفي رواية الطبري عن عطاء : « هذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره وأقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرقه. أحوج ما كان إليه » (15).

وهذا الحضور البارز هو الدافع لحسد المهاجرين ، أو بعض أشياخ أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو خصوص عبد الرحمن بن عوف ، وهو اللافت لنظر الحطيئة الشاعر وقد مرّ على مجلس عمر فنظر إلى ابن عباس وقد قرع القوم بكلامه غالباً عليهم ، فسأل عنه وقال : من هذا الّذي برع الناس بعلمه ، وعلاهم في قوله ونزل عن القوم بسنّه ؟ قالوا : هذا ابن عباس فقال أبياتاً منها :

إنّي وجدت بيان المرء نافلة

 

تُهدى له ووجدت العيّ كالصمم

والمرء يبلى ويبقى الكلم سائرة

 

وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم (16)

وبقي حضور ابن عباس بين شيوخ المهاجرين والأنصار ماثلاً ومؤثراً عند عمر فقد كان عند الخلاف يرجع إلى قوله ويعتدّ به على حداثة سنّه على حد قول يحيى بن أبي بكر العامري (17) ولم يمنع ذلك التقريب والتقريض ، وذلك الإختصاص من ظهور مواقف متضادة بين الرجلين ، إذ لم يكن ابن عباس موائماً لعمر في مزاجه ، ولا موافقاً له على جميع تصرفاته ، بل كانت تحدث بينهما محاورات إحتجاجية ربما وصلت إلى حدّ المشادّة العنيفة ، لكنها لم تصل إلى حدّ القطيعة التامة ، والآن إلى شواهد تلك.

الهوامش

1. المعرفة والتاريخ 1 / 519 ـ 520.

2. المؤمنون / 12 ـ 14.

3. عبس / 26 ـ 31.

4. طبقات ابن سعد 1 / 140 ط 5 تحـ السُلمي وإسناده حسن ، وأورده السيوطي في الدر المنثور نقلا عن ابن سعد وعبد بن حميد ، وأورد الحاكم في المستدرك جزءا منه في 3 / 39 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الذهبي في التلخيص أيضا.

5. قارن الفقيه والمتفقه للخطيب 2 / 132 ، ومستدرك الحاكم 3 / 539 ، وسنن البيهقي 4 / 313 ، وتفسير ابن كثير 4 / 533 ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي 6 / 374 ، وفتح الباري لابن حجر 4 / 211.

6. الإصابة 2 / 325 ط مصطفى محمّد.

7. صحيح البخاري 4 / 204 ط بولاق باب علامات النبوة في الإسلام.

8. نفس المصدر 8 / 168 ط بولاق.

9. طبقات ابن سعد 2 ق 2 / 120.

10. النصر / 1 ـ 3.

11. النصر / 1 ـ 5.

12. المعرفة والتاريخ 1 / 515.

13. البقرة / 266.

14. مستدرك الحاكم 3 / 542.

15. تفسير الطبري 3 / 47 ط الميمنية.

16. عيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 229 ط دار الكتب ، والأصابة 2 / 325 ط مصطفى محمّد ، والأستيعاب بهامش الإصابة 2 / 346 ، وأنباء نجباء الأبناء لابن ظفر المكي ط مصر. ومن الغريب أن هذين البيتين لم يذكرا في ديوان الحطيئة بتحقيق نعمان أمين طه ( ماجستير في الأدب العربي ـ جامعة القاهرة ) ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1378 هـ.

17. الرياض المستطابة / 52 ط الشاهجاني بهوبال الهند سنة 1303 هـ.

مقتبس من كتاب : [ موسوعة عبدالله بن عبّاس ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 82 ـ 86

 

أضف تعليق

عبدالله بن عبّاس

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية