مشروعية البناء على القبور

طباعة

مشروعية البناء على القبور
 

السؤال : لقد حصل لي موقف مع أحد إخواننا السنة ، وكان يحاججني على موضوع البناء على القبور ، فاستدل بالسنة النبويّة ، في قوله صلى الله عليه وآله بما معناه : « لعن الله النصارى إذ اتخذوا قبور أوليائهم مسجداً » ، واستدل بما يحدثه من بعد من الشرك وغيرها .
 

الجواب : من سماحة الشيخ هادي العسكري

 

الحديث كما ذكره البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وآله :«  لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » ، والمناقشة في هذا الحديث واضحة ، ولا يمكن الاعتراف بصدوره عنه بل الواجب رفضه وطرحه على الجدار ؛ لما ثبت وتواتر منه صلى الله عليه وآله من رفض كل حديث يخالف الكتاب والسنة ، وهذا منه .
وحيث إنّ غرض المستدل به لا يختص بنفي اتخاذ قبره عليه وآله السلام مسجداً بل الهدف من وراء ذلك هو الطعن في الزيارة ، والقدح في السيرة الإسلامية ، والتهكم بعمل المسلمين المؤمنين قاطبة .
فنجيب عنهما جمعاً ، ولا نفرد أحدهما عن الآخر، فنقول : كيف يصح هذا الحديث المزعوم مع مخالفته لعشرات الآيات في توبيخ اليهود ، وتعيريهم بقتلهم الأنبياء ، وتعذيبهم وتشريدهم ، وتشهير اليهود بقساوتهم ، وطغيانهم واستكبارهم ، وتقبيح أعمالهم من سفك الدماء ، وعدم الوفاء ، ونقض العهود ، وبث النفاق ، ونشر الشقاق ، ونبذ الميثاق ، والتكذيب ، والعناد ، والمعاداة مع أنبيائهم.
فمثل هؤلاء الطغاة القساة العتاة مع هذه الظاهرة فيهم لأنبيائهم كيف يتخذون قبور أنبيائهم مساجد حتى يلعنهم الرسول صلى الله عليه وآله ؟ ! هل من المعقول أن يعذبوا ويقتلوا أنبيائهم ، ثمّ يتبركون بقبورهم ، ويتخذوها مساجد ، أليس كان الأنسب أن يعيرهم الله بهذا ، وينزل فيهم آية ، أو أكثر ؟
ثمّ من هم هؤلاء الأنبياء ، وأين هذه المساجد ، وفي أي زمان ، وفي أي بقعة ومكان كانت هذه القبور ، وهذه المساجد ؟ هذا أوّلاً .
ثمّ لو فرضنا وسلمنا وجودها ، واتفقنا أيضاً على صحة الحديث ، فعلينا أن ننظر ونتعرف على سيرة اليهود في هذه المساجد ، ونرى أعمالهم وكيفية تعظيمهم لها حتى يتضح لنا معنى لفظ المساجد في الحديث ، هل هم يزورون القبور ويتبركون بها ، أم يسجدون على القبور ويجعلونها مسجداً لجباههم ، أو يجعلونها قبلة ويصلون إليها ؟ !
كما وردت في مرسلة من المراسيل النبوية التي لا اعتبار لها اضافة لإرسالها ؛ كونها نبويّة غير مقبولة ، وعلى فرض ثبوتها واعتبارها فهي خارجة عن موضوع بحثنا ومورد نقاشنا .
فالاحتمالات في لفظ المساجد في الحديث ثلاث : احتمال يسجدون فيها ، واحتمال يسجدون على القبور ، واحتمال يسجدون إليها ، وبغضّ النظر عن المرسلة التي تكون قرينة على الاحتمال الثالث فهو ساقط عن الاعتبار ، وليس قابلاً للاستدلال ؛ لما فيه من الإجمال . هذا ثانياً .
ولو فرضنا الحديث نصاً صريحاً في المعنى الأوّل ، فهو مرفوض وغير مقبول ، لمخالفته للكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين ، والسيرة العملية لقاطبة المؤمنين .
أمّا مخالفته لكتاب الله الكريم ففي : ما حكاه الله في قصة أصحاب الكهف والرقيم عندما قال : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } آية 21 سورة الكهف ، فذكر في تعظيم شأنهم ،  واكبار قدرهم مع أنّهم فتية آمنوا بربهم اتخاذ المسجد عليهم ، واثبت فعل الغالبين على أمرهم ، وأقرّ عمل المؤمنين مزاراً لقبورهم ، ولم يندد بهم ، فكيف يلعن رسول الله صلى الله عليه وآله اليهود لاتّخاذ المسجد قبور أنبيائهم المقتولين المعذبين أشد العذاب بأيديهم . وهذا ثالثاً.
وكذلك يخالف الكتاب الكريم في قوله : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } آية 84 سورة التوبة . فمنع الله النبي الكريم منعاً دائماً وأبداً عن الصلاة والقيام على قبور الفرحين المخلفين ، وخص النهي بالمخالفين القاعدين وعلّل النهي بأنّهم كفروا بالله وبرسوله ، فهم من المنافقين فباختصاص المنع بقبور الكافرين ، والتعليل بكفرهم يعلم جواز الصلاة ، والقيام على قبور المؤمنين المسلمين . هذا رابعاً .
وأيضاً يخالف الكتاب الكريم في قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} آية 64 سورة النساء . في ما وعد الله من التوبة والرحمة ، وذكر لمن جاء رسوله ، واستغفر واستغفر له الرسول ، يجد ما أراد ، ويرجع ، ولا ذنب له ، ولا خوف عليه ولا خطر ، فبصريح آية القرآن زيارة النبي مع الاستغفار توجب الغفران ، وتستوجب الرحمة من الرحيم الرحمن ، وهي تسبب الأمان على رغم كل معاند ومنافق وشيطان ، ولا اختصاص في الآية في الذهاب إليه في حال الحياة استغفر الله ، استغفر الله ، هو ليس بميت بل هو حي حتى يوم الحَيَوان . وهذا خامساً.
أضف إلى ذلك كيف يمكن قبول هذا الحديث مع أنّه يخالف سيرة أئمة أهل البيت المطهرين وعمل الصحابة كلهم أجمعين ، وفعل قاطبة المسلمين منذ وفاته صلى الله عليه وآله إلى هذا الحين ، بل إلى يوم الدين ، فجعلوا قبره مسجداً أيضاً هي مسجد الكعبة قبلة المصلين ، واتفقوا على أنّ الصلاة فيه بعشرة آلاف صلاة ، ولا يعدله ولا يساويه مسجد بعد مسجد ربّ العالمين . وهذا سادساً .
وبعد هذا لا نحتاج إلى تثبيت مخالفة الحديث للأحاديث الواردة ، والسنة الشريفة عنه عليه السلام من قوله : « من زار قبري وجبت له شفاعتي أوحلت له شفاعتي » .
وقوله :«  من زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي  » . بل كيف ينسجم مع أمره بزيارة القبور من قوله : « زوروا القبور؛ فإنّها تذكركم الآخرة » . بل هو زار قبر اُمّه ، فبكى وابكى من حوله ، وقال : « استأذنت ربي أن استغفر لها ، فلم يأذن ، واستأذنت ربي أن أزورها فأذن لي  ، ( هذا مع أنّها غير مؤمنة كما يزعمون ) فزوروا القبور فإنّها تذكركم بالموت ».
قال النووي في شرح صحيح مسلم : « هذا حديث صحيح بلا شك ، رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ».
وروى مسلم إنّه : « كلما كانت ليلة عائشة منه صلى الله عليه وآله كان يخرج من آخر الليل إلى البقيع ، ويسلم على أهل البقيع ، ويعلم عائشة أن تزور ، وتقول : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين » .
ومثله حديث : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ؛ فإنّها تُزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة » .
وهذا على فرض صحة صدور النهي عنه عليه وآله السلام ابتداءً ، فلا بدّ وأن يكون النهي عنها في بدء الدعوة ورسالته عندما كان أموات المسلمين السابقين كافرين مشركين ، فلم يأذن لزيارتهم ونهى عنها ، وبعد فترة عندما كان الأموات مسلمين ، وتشرفوا بالإيمان وماتوا ، أذن بل أمر بزيارتهم واستعاض عنه
قوله : « اذكروا هادم اللذات الموت الموت » . وإذا كان على الإنسان أن يذكر الموت ، ويجعله نصب عينه دائماً فأي مكان أنسب ، وأي محل هو اذكر للموت من المقابر ، وترى أكد كثيراً عليه ؛ لأنّها تذكّر الآخرة .
وصدق الرسول كما صدق الله العلي العظيم زيارة القبور تذكّر الآخرة ، وتذكّر الموت ، فمطالعة عاقبة الأمور ، وتذكّر نهاية هذا الغرور ، ومشاهدة أصحاب القصور تحت الصخور ، ورؤية كل مشهور ومغمور في التراب مستور ، والتفكر في فناء هذا الدور ، إنّما يحصل بزيارة القبور ، وزيارة القبور أكبر واعظ ، وأقوى زاجر ، واحسن منذر ، وأفضل مذكّر للموت .
نعم زيارة القبور تبعّدنا عن المعاصي ، وتلزمنا أخذ الحذر ، وهي أقوى من الحُمرة رمزاً للخطر ، وتعلمنا من الانباء ما فيه مزدجر ، وتخيرنا بتهيئة الزاد وحاجات السفر ، وتقرّبنا إلى الطاعة كلمح بالبصر ، فما أبدع من هذا التأثير والأثر ، ولا ينكر ما قلنا إلا من ينكر الشمس والقمر ، ومن ختم على قلبه الرحمن وأعماه عن النظر ، أوسلب الشيطان عنه بالمعاصي البصيرة والبصر ، هذه حجتنا في الزيارة لمن أراد الحجة ، فمن شاء فليؤمن ، ومن عاند ولم يؤمن ، فليذهب إلى جهنم وسقر.
وبعد هذا:  نحن أيّها المسلمون فرحون مرحون لدفع كل شبهة ، ولرد كل سؤال والإجابة ، ولقرع الحجة بالحجة ، وستجدون فينا اُذن سامعة واعية ، والحمد لله وعلى رسوله وآله ألف ثناء وسلام وتحية.