اغتيال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

البريد الإلكتروني طباعة

اغتيال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

أطلّ على العالم الإسلامي شهر رمضان المبارك الذي أنزل الله فيه القرآن هدى للناس ورحمة وكان وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على يقين لا يخامره شكّ بانتقاله إلى حظيرة القدس في بحر هذا الشهر العظيم ، وقد أجهد نفسه ، وأرهقها إرهاقاً شديداً على الإفطار على خبز الشعير ، وجريش الملح ، وكان لا يزيد في طعامه على ثلاث لقم ، كما كان ينفق لياليه ساهراً في العبادة والتضرّع إلى الله تعالى في أن ينقذه من ذلك المجتمع الذي جحد حقّه وتنكّر لقيمه ، وزاد في وجيبه وشوقه إلى ملاقاة الله تعالى ما عاناه من العصيان والتمرّد من جيشه الذي مزّقته الأهواء ونخرته الدعايات المضلّلة.

لقد اشتاق هذا الإمام الممتحن إلى ملاقاة الله وملاقاة رسوله ليعرض عليه ما عاناه من المحن والخطوب من امّته التي جرّعته نغب التّهمام.

ويقول الرواة : إنّه لمّا حلّت ليلة التاسع عشر من رمضان أحسّ الإمام بنزول الرزء القاصم ، فكان برما تساوره الهموم والأحزان وهو يقول :

« ما كذّبت ولا كذّبت ، إنّها اللّيلة الّتي وعدت فيها ... ».

وراودته تلك الليلة ذكريات جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وما قاساه من طغاة قريش وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب من الجهد والعناء ، فقد التحم معهم في ميادين الحروب التحاماً رهيباً في سبيل نشر كلمة التوحيد وحماية النبيّ العظيم من كيدهم ومكرهم.

وعلى أيّ حال فلندع الحديث إلى السيّدة الزكية أمّ كلثوم (1) تحدّثنا بما شاهدته من أبيها في تلك الليلة الخالدة في دنيا الأحزان ، قالت :

لمّا كانت ليلة التاسع عشر من رمضان قدّمت إلى أبي عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن ، وملح جريش ، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره ، فلمّا نظر إليه حرّك رأسه وبكى وقال :

« ما ظننت بنتاً تسوء أباها كما أسأت إليّ ».

« ما ذاك ؟ ».

« تقدّمين إلى أبيك إدامين في طبق واحد ، أتريدين أن يطول وقوفي بين يدي الله تعالى يوم القيامة ؟ أنا أريد أن أتّبع أخي وابن عمّي رسول الله صلّى الله عليه وآله ما قدّم له إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله تعالى.

يا بنيّة ، ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلّا طال وقوفه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة ..

يا بنيّة ، إنّ الدّنيا في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وقد أخبرني حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ جبرئيل نزل إليه ومعه مفاتيح كنوز الأرض ، وقال : يا محمّد ، السّلام يقرؤك السّلام ، ويقول لك : إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضّة ، وخذ مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة ، قال صلّى الله عليه وآله : يا جبرئيل ، وما يكون بعد ذلك ؟ قال : الموت ، فقال : لا حاجة لي في الدّنيا ، دعني أجوع يوماً ، وأشبع يوماً ، فاليوم الّذي أجوع فيه أتضرّع إلى ربّي ، واليوم الّذي أشبع فيه أشكر ربّي وأحمده ، فقال جبرئيل : وفّقت لكلّ خير يا محمّد ! ».

ثمّ قال عليه السلام : « يا بنيّة ، الدّار دار غرور ، ودار هوان ، فمن قدّم شيئاً وجده. يا بنيّة ، لا آكل شيئاً حتّى ترفعي أحد الإدامين » ، فلمّا رفعته أكل قرصاً واحداً بالملح الجريش ، ثمّ حمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثمّ قام إلى صلاته فصلّى ، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى الله سبحانه ، ويكثر الدخول والخروج ، وهو ينظر إلى السماء وهو قلق ، ثمّ قرأ سورة « يس » حتّى ختمها ، ثمّ رقد هنيهة ، وانتبه مرعوباً ، وجعل يمسح وجهه بثوبه ، ونهض قائماً على قدميه وهو يقول : « اللهمّ بارك لنا في لقائك ».

ويكثر من قول : لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، ثمّ صلّى حتّى ذهب بعض الليل ، ثمّ جلس للتعقيب ، ثمّ نامت عيناه ، ثمّ انتبه مرعوباً ، وجمع أولاده فقال لهم :

« في هذا الشّهر تفقدوني ، إنّي رأيت رؤيا هالتني ... ».

« ما رأيت ؟ ».

« رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في منامي وهو يقول : يا أبا الحسن ، إنّك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضّب شيبتك من أمّ رأسك ، وأنا مشتاق إليك ، وإنّك عندنا في العشر الأواخر من شهر رمضان ... ».

فضجّ أبناؤه بالبكاء ، فأمرهم بالخلود إلى الصبر وطاعة الله ، ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ويخرج ساعة بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء ، وينظر في الكواكب وهو يقول :

« ما كذّبت ولا كذّبت ، إنّها اللّيلة الّتي وعدت بها ».

ثمّ يعود إلى مصلّاه وهو يقول : « اللهمّ بارك لي في الموت » ، ويكثر من قول :

« ًلا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم » ، ويصلّي على النبيّ كثيرا.

قالت أمّ كلثوم : قلت له : « يا أبتاه ، ما لي أراك هذه اللّيلة لا تذوق طعم الرقاد ؟ ».

فأجابها الإمام : « يا بنيّة ، إنّ أباك قتل الأبطال ، وخاض الأهوال ، وما دخل الخوف جوفه ، وما دخل في قلبي رعب أكثر ممّا دخله اللّيلة ... ».

ثمّ قال : « إنّا لله وإنّا إليه راجعون » ، وفزعت السيّدة أمّ كلثوم ، وقالت له بنبرات مشفوعة بالبكاء :

« ما لك تنعى نفسك منذ اللّيلة ؟ ».

« يا بنيّة ، قد قرب الأجل وانقطع الأمل ... ».

واستولى الأسى والحزن على أمّ كلثوم ، وغرقت بالبكاء ، وأخذ يهدّئ لوعتها قائلاً : « يا بنيّة ، إنّي لم أقل ذلك إلّا بما عهد إليّ النبيّ صلى الله عليه وآله » (2). هذا بعض ما حدّثت به السيّدة أمّ كلثوم من الأحداث المفزعة التي رافقت اغتيال أبيها.

وأقبل الإمام في غلس الليل البهيم على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى ، ففي ظلام ذلك الليل الذي دام على البؤساء والمحرومين ، قام الإمام فأسبغ الوضوء ، وتهيّأ إلى الخروج إلى بيت الله ليؤدّي صلاة الصبح ، فلمّا بلغ صحن الدار كانت فيه وزّ أهديت إلى الإمام الحسن عليه السلام فصحن في وجهه الشريف منذرة بالخطر العظيم الذي سيعصف بالشرق العربي ، وسائر الوطن الإسلامي ، ويحوّله إلى ركام ، وتنبّأ الإمام عليه السلام بنزول الرزء القاصم فقال : « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله تعالى ، صوائح تتبعها نوائح » (3) ، إنّ تلك الصوائح التي انطلقت من الطيور تحوّلت إلى عويل ، وصراخ اليتامى والمساكين ، فقد فقدوا من كان يرعاهم ويعطف عليهم ، وراح الإمام يوصي ابنته برعاية تلك الطيور قائلاً :

« يا بنيّة ، بحقّي عليك إلّا ما أطلقتها ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميها واسقيها وإلّا خلّي سبيلها تأكل من حشائش الأرض » (4).

وأقبل الإمام على فتح الباب فعسر عليه فتحها لأنّها كانت من جذوع النخل ، وعالجها حتّى فتحها فانحلّ مئزره فشدّه وهو يقول :

     

« اشدد حيازيمك للموت

 

فإنّ الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت

 

إذا حلّ بواديكا

كما أضحكك الدّهر

 

كذاك الدّهر يبكيكا »

وفزع الإمام الحسن كأشدّ ما يكون الفزع من حالة أبيه فسارع إليه قائلاً :

« ما أخرجك في هذا الوقت ؟ ».

« رؤيا رأيتها في هذه اللّيلة هالتني ».

« خيراً رأيت ، وخيراً يكون ، قصّها عليّ ».

« رأيت جبرئيل قد نزل من السّماء على جبل أبي قبيس ، فتناول منه حجرين ، ومضى بهما إلى الكعبة ، فضرب أحدهما بالآخر ، فصارا كالرّميم ، فما بقي بمكّة ولا بالمدينة بيت إلّا دخله من ذلك الرّماد شيء ».

واضطرب الإمام الحسن فسارع قائلاً :

« ما تأويل هذه الرّؤيا ؟ ».

« إن صدقت رؤياي ، فإنّ أباك مقتول ، ولا يبقى بمكّة ولا بالمدينة بيت إلّا دخله الحزن من أجلي ... ».

ووجم الإمام الحسن وراح يقول بذوب روحه :

« متى يكون ذلك ؟ ».

« إنّ الله تعالى يقول : ( وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) ، ولكن عهد إليّ حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان ، يقتلني عبد الرّحمن بن ملجم ... ».

وراح الإمام يقول بلوعة وفزع :

« إذا علمت ذلك فاقتله ... ».

« لا يجوز القصاص قبل الجناية ، والجناية لم تحصل منه ... ».

وأراد الإمام الحسن أن يصحبه إلى الجامع فأقسم عليه الإمام بالرجوع إلى فراشه ، ولم يسمح له بالخروج معه ، ومضى الإمام عليه السلام إلى بيت الله تعالى فجعل يوقظ الناس على عادته لعبادة الله الواحد القهّار ، واجتاز على قوم فقبض على كريمته وقال : « ظننت فيكم أشقاها الّذي يخضّب هذه من هذه » ، وأومأ إلى لحيته (5) ، ثمّ شرع إمام المتّقين وسيّد الموحّدين في صلاته ، وبينما هو ماثل بين يدي الحقّ يناجيه بقلبه وعواطفه ولسانه مشغول بذكره إذ هوى عليه بسيفه شقيق عاقر ناقة صالح عبد الرحمن بن ملجم ، ومعه شبيب بن بحيرة الأشجعيّ (6) ، وهو يهتف بشعار المجرمين الخوارج قائلاً :

« الحكم لله لا لك ».

وعلا الرجس الدنس بالسيف رأس الإمام بطل الإسلام وعلم المجاهدين والمتّقين فقدّ جبهته الشريفة التي طالما عفّرها بالسجود لله تعالى ، وانتهت الضربة الغادرة إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر إلاّ في سعادة الناس وجمعهم على صعيد الحقّ والعدل وإزالة شبح الفقر والحرمان عنهم.

ولمّا أحسّ الإمام بلذع السيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة الرضا بقضاء الله تعالى ، وانطلق صوته يدوّي في رحاب المسجد :

« فزت وربّ الكعبة ».

يا أمير الحقّ !

يا رائد العدل !

يا بطل الإسلام !

يا وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ! لقد فزت برضى الله تعالى ، وفازت قيمك ومبادئك ، وبقيت أنت وحدك رهن الخلود بما أوجدته في دنيا الإسلام من المثل والقيم الكريمة.

يا إمام المتّقين ، لقد كنت من أعظم الرابحين بمرضاة الخالق العظيم ، فقد رفعت منذ نعومة أظفارك كلمة الله ، وجاهدت في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد فحطّمت الأصنام ، وطهرت الأرض من أوثان الجاهليّة ، وبذلت روحك ـ بسخاء ـ للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله فبت على فراشه ووقيته من شرك الأوغاد ، ولو لا جهادك وجهاد أبيك أبي طالب لما أبقى القرشيّون ظلّاً للإسلام ، وقضوا عليه منذ بزوغ نوره.

يا إمام الموحّدين ، لقد فزت وانتصرت وخسر خصمك ابن هند ، فأنت وحدك حديث الدهر مهما تطاولت لياليه أيّاماً ، وها هو معاوية لا يذكر إلّا بالخيبة والخسران ، فقد قذف في مزبلة التأريخ تلاحقه أعماله التي سوّد بها وجه التاريخ.

وعلى أيّ حال فإنّه حينما اذيع النبأ المؤلم باغتيال الإمام سارع الناس إلى الجامع ، فوجدوا الإمام طريحاً في محرابه ، وهو يلهج بذكر الله تعالى قد نزف دمه ، وانهارت قواه ، واصفرّ لونه ، ثمّ حمل إلى داره والناس خلفه قد عجّوا بالبكاء والنحيب ، قد أخذتهم المائقة ، وهم يهتفون بذوب الروح قائلين بأسى وألم :

قتل إمام الحقّ والعدل ...

قتل أبو الضعفاء وأخو الغرباء ...

قتل أبو اليتامى والمساكين ...

واستقبلته مخدّرات الرسالة بالصراخ والعويل ، فأمرهنّ الإمام بالخلود إلى الصبر ، والرضا بقضاء الله تعالى ...

وكان من أشدّ أبنائه لوعة الإمام الحسن الزكي ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فنظر إليه الإمام فقال له بلطف :

« يا بنيّ ، لا تبك فإنّك تقتل بالسّمّ ، ويقتل أخوك بالسّيف ».

وتحقّق ما أخبر به وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وباب مدينة علمه ، فلم تمض الأيّام حتّى اغتال معاوية الإمام الحسن بالسمّ ، وكذلك استشهد أخوه الإمام الحسين سيّد الشهداء بصورة مروّعة في صعيد كربلاء ومعه أهل بيته نجوم الأرض ، والصفوة الممجّدة من أصحابه ، فقد حصدت رءوسهم البغاة من شرطة يزيد بن معاوية.

الهوامش

1. السيّدة أمّ كلثوم هي في أغلب الظنّ سيّدة النساء السيّدة المعظّمة زينب سلام الله عليها ، وهذه كنيتها.

2. بحار الأنوار ٤٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

3. مروج الذهب ٢ : ٢٩١.

4. بحار الأنوار ٤٢ : ٢٧٨.

5. الكامل ـ المبرّد ٣ : ١٤٢.

6. شبيب بن بحيرة الأشجعي الخارجي علا الإمام بضربة إلّا أنّه أخطأ فيها فوقعت على الباب ومضى الأثيم هارباً إلى منزله فدخل فيه ، وكان له ابن عمّ من شيعة الإمام فرآه يحلّ الحرير من صدره ، فقال له : ما هذا لعلّك قتلت أمير المؤمنين ؟ فأراد أن يقول لا ، فقال : نعم ، فضربه بالسيف وقتله ، جاء ذلك في أعلام الورى : ٢٠٠.

مقتبس من كتاب : [ موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ] / المجلّد : 11 / الصفحة : 242 ـ 250

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية