توسل الضرير بالنبي ص

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 232 ـ 239
________________________________________
(232)
1- توسل الضرير بالنبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
عن عثمان بن حنيف أنه قال:
إنّ رجلا ضريراً أتى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فقال:
ادع اللّه أن يعافيني .
فقال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير .
قال: فادعه! فأمره ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أن يتوضّأ فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين. ويدعو بهذا الدعاء:
«أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إنى أتوجه
________________________________________
1. سورة الزمر: الآية 3 .
________________________________________
(233)
بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، أللّهمّ شفّعه فيّ» قال ابن حنيف:
واللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث، حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضر.
كلمات حول سند الحديث
قال ابن تيمية: وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنه علّم رجلا أن يدعو فيقول:
«أللّهمّ إنّي أسألك وأتوسل بنبيك... وروى النسائي نحو هذا الدعاء(1) .
وقال الترمذي: هذا حديث حق حسن صحيح .
وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح .
وقال الرفاعي: لا شكّ أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور...(2) .
نعم حاول السيد محمد رشيد رضا، مؤلف المنار، الّذي علق على كتاب مجموعة الرسائل والمسائل، تأليف ابن تيمية، أن يضعف الحديث بحجة أنه ورد في سنده أبو جعفر، وأنه غير أبي جعفر الخطمي(3) .
ولكن المحاولة فاشلة، فإنّ إمام مذهبه أحمد في مسنده وصفه بالخطمي، ونقل الرفاعي عن نفس ابن تيمية أنّه جزم بأنّه هو أبو جعفر الخطمي، وهو ثقة(4) ووصفه الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه بـ (الخطمي المدني) .
ولأجل أن يقف القارىء على مظانّ الحديث في الصحاح نذكره مصادره:
1- سنن ابن ماجة، الجزء الأول، ص 441 رقم الحديث 1385
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13 .
2. التوصل إلى حقيقة التوسل ص 158 .
3. مجموعة الرسائل والمسائل ص 13 قسم التعليقة .
4. التوصل إلى حقيقة التوسل ص 228 .

________________________________________
(234)
تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء الكتاب العربي، وقد عرفت تنصيصه بأنه حديث صحيح .
2- مسند أحمد، ج 4 ص 138 عن مسند عثمان بن حنيف، طبع المكتب الإسلامي مؤسسة دار صادر، وقد روي هذا الحديث عن ثلاثة طرق .
3- صحيح الترمذي ج 5، كتاب الدعوات، الباب 119، الحديث برقم 3578، وقد عرفت كلمته في حق الحديث .
4- مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري، الجزء الأول ص 313 طبع حيدر آباد الهند .
قال بعد ذكر الحديث: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .
5- المعجم الكبير للطبراني: الجزء التاسع باب (ما أسند إلى عثمان بن حنيف) ص 17 برقم 8311 ، قال المعلق في ذيل الصفحة: ورواه في الصغير 1/183 ـ 184 وقال: لم يروه عن روح بن أبي القاسم إلاّ شبيب بن سعيد المكي، وهو ثقة، وهو الّذي يحدث يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي ـ واسمه عمير بن يزيد ـ وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر بن فارس بن شعبة، والحديث صحيح .
وبعد هذا كله لا مجال للمناقشة في سند الحديث أو الطعن فيه، كيف والخصم الّذي يحاول أن يضعف كل صحيح، فشلت محاولته في حقه، فسلم سنده، ولكن مضى يناقش في دلالته، وسيوافيك أنها أيضاً محاوله فاشلة .
دلالة الحديث
إنّ الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الأعمى توسل بذات النبي بتعليم منه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فهو وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر، ولكنّ النبي علّمه دعاء تضمّن التوسل بذات النبي، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث .
________________________________________
(235)
وبعبارة ثانية: الّذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:
الأول: إنّ الراوي طلب من النبي الدعاء، ولم يظهر منه توسل بذات النبي .
الثاني: إنّ الدعاء الّذي علّمه النبي تضمّن التوسل بذات النبي بالصراحة التامة، فيكون دليلا على جواز التوسل بالذات، وإليك الجمل الّتي هي صريحة في المقصود:
1-اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيك .
إنّ كلمة «بنبيك» متعلقة بفعلين: «أسالك» و «أتوجه إليك» والمراد من النبي نفسه المقدسة وشخصه الكريم، لا دعاؤه .
إنّ من يقدّر كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيك» ويصوّر أنّ المراد: أسألك بدعاء نبيك، أو أتوجه إليك بدعاء نبيك، فهو يتحكم بلا دليل، ويؤوّل بلا جهة، ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهمية والقدرية .
2- «محمد نبي الرحمة» .
لكن يتضح أنّ المقصود هو السؤال من اللّه بواسطة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وشخصيته جاءت بعد كلمة (نبيك) جملة «محمد نبي الرحمة» لكن يتضح الهدف بأكثر ما يمكن .
3- إنّ جملة «يا محمد إني أتوجه إلى ربي» تدل على أنّ الرجل ـ حسب تعليم الرسول ـ اتخذ النبي نفسه وسيلة لدعائه، أي أنه توسل بذات النبي لا بدعائة .
4- إنّ قوله: «وشفّعه فىّ»: معناه يا ربّ اجعل النبي شفيعي وتقبّل شفاعته في حقي، وليس معناه تقبّل دعاءه في حقي .
5- فإنَّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتّى يكون معناه: استجب دعاءه في حقي، ولو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي، إذ
________________________________________
(236)
ليس دعاؤه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ من الأُمور غير المهمة حتّى يتسامح الراوي في حقه .
نعم، إنّ الراوي طلب الدعاء من النبي، والنبي وعده بالدعاء حيث قال: إن شئت دعوت، ولكن النبي لمّا علّمه دعاء مؤثراً في قضاء حاجته، وسكت عن دعاء نفسه، صار هذا قرينة على أنّ وعده بالدعاء، كان أعم من الدعاء المباشري أو التسبيبي. فالدعاء الّذي وعد به النبي هو نفس الدعاء الّذي علمه الضرير، فكان دعاء له ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ بالتسبيب كما كان دعاء للضرير بالمباشرة .
فالنقطة المركزية في هذا التوسل هي شخص رسول اللّه وشخصيته الكريمة، لا دعاؤه، وإن كان دعاؤه ـ في سائر المواضع ـ أيضاً مؤثراً مثل التوسل بشخصيته، ومن تأمل في ما ذكرنا من القرائن يجزم بأنّ المتوسل به بعد تعليم النبي، هو نفس الرسول و شخصيته .
6- ولنفترض أنّ معنى قوله: «وشفّعه فىّ»: استجب دعاءه في حقي، ونفترض أنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ـ مضافاً إلى ما علّمه من الدعاء ـ قام بنفسه أيضاً بالدعاء، ودعا الباري سبحانه أن يرد إليه بصره، ولكن أيّة منافاة بين الدعاءين حتّى يكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر .
فهناك كان دعاء من النبي ولم يذكر لفظه، ودعاء آخر علمه الرسول للضرير وقد تضمّن هذا الدعاء التوسل بذات النبي وشخصه، وليس بين الدعاءين أي تزاحم وتعارض حتّى نجعل أحدهما قرينة على الآخر .
تشكيك الرفاعي في دلالة الحديث
إنّ الخصم قد عجز عن الدفاع عن مذهبه وهو يواجه هذه الرواية، فإنها بصراحتها تقاومه وتكافحهه، فعاد يكرر ما ذكره شيخه في رسائله، غير أنّ شيخه: نقله بصورة الاحتمال، ولكن الرفاعي ذكره بحماس.
قال ابن تيمية: «ومن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقاً، حياً وميتاً، ومنهم من يقول: هذه قضية عين وليس فيها إلاّ
________________________________________
(237)
التوسل بدعائه وشفاعته، لا التوسل بذاته»(1) .
ترى أنّ شيخ الرفاعي ينسبه إلى الغير عن تردد وشك، ولكن الرفاعي عاد يكرر هذا المطلب بثوب جديد، ويدّعي أنّ السائل لم يقصد التوسل بذات الرسول بل بدعائه المستجاب، ويستدل على ذلك بالعبارات التالية:
1- قول الأعمى لرسول اللّه: ادع اللّه أن يعافيني.
2- جواب الرسول له: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت .
3- إصرار الأعمى على طلب الدعاء منه بقوله: فادعه .
4- قول الأعمى في آخر دعائه الّذي علمه إياه رسول اللّه: اللّهمّ شفّعه فىّ. فاستنتج من ذلك كله أنّ المتوسل به هو دعاؤه .
ولقد عزب عن المسكين أن الوجوه الثلاثة الأُولى لا تمت إلى مقصوده بصلة، لما عرفت من أنّ الأعمى في محاورته مع الرسول لم يكن يخطر بباله إلاّ طلب الدعاء، ولأجل ذلك طلب منه الدعاء، وأنّ الرسول لما خيره بين الدعاء والصبر على الأذى، اختار الدعاء ورفض الصبر، غير أنّ النقطة المركزية للاستدلال ليست هذه المحاورة، وإنّما هو الدعاء الّذي علّمه رسول اللّه الضرير، فإنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ علمه دعاء يتضمن التوسل بذات النبي: وبعبارة ثانية: كانت هناك حالتان:
الأُولى: المحاورة الابتدائية الّتي وقعت بين النبي والضرير، فكان الموضوع هناك دعاء الرسول بلا شك .
الثاني: الدعاء الّذي علمه الرسول، فإنه تضمن التوسل بذات النبي، فالتصرف في هذا النص بحجة أن الموضوع في المحاورة الأُولى هو الدعاء، تصرف عجيب، فإنّ الأعمى وإن لم يتردد في خلده سوى دعاء الرسول المستجاب، ولكن الرسول علمه دعاء جاء فيه التوسل بذاته. ونحن نفترض أنه كان من الرسول، دعاء غير ما علمه للضرير، ولكن أية ضرورة تقضي بأن نؤوّل ما ورد في العبارة التي علّمها للسائل؟
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13 .
________________________________________
(238)
فما هذه الشبه والظنون الّتي يتمسك بها الرفاعي في سبيل دعم مذهبه؟
باللّه عليك أيها الكاتب الوهابي الّذي يعيش عيشاً رغداً في الرياض في ظل الثروة الطائلة للسلطة، لولا أنّك من القائلين بمنع التوسل بذات النبي، هل كان يخلد ببالك أن المراد من الدعاء الّذي علمه للضرير، هو التوسل بدعاء النبي لا ذاته؟ ولولا أنك قد أخذت موقفاً مسبقاً في الموضوع، هل كان يتردد في ذهنك تأويل ذلك النص؟ وأنت وأشياخك ونظراؤك تصبّون القارعات على الذين يؤوّلون الصفات الخبرية كاليد والاستواء والوجه، وتصفونهم بالجهمية والمؤوّلة وغير ذلك من الألفاظ الركيكة، فكيف تسوّغون تأويل هذا النص الّذي لا يرتاب فيه إلاّ من اتخذ رأياً مسبقاً؟
وأمّا قوله: «وشفّعه فيّ» فقد قلنا إنّ المراد: اجعله شفيعاً لي، وليس معناه استجب دعاءه في حقي، وإلاّ لما عدل عن اللفظ الصريح إلى هذا اللفظ الّذي ليس بواضح في ما يريدون .
والعجب أنّ الرفاعي يتمسك بالطحلب ويقول:
«لو كان قصده التوسل بشخص الرسول أو بحقه أو بجاهه لكان يكفيه أن يبقى في بيته، ويدعوا اللّه قائلا مثلا: اللّهمّ ردّ بصري بجاه نبيك، دون أن يحضر ويتجشم عناء المشي...
ولكن ليس هذا بعجيب ممن اتّخذ رأياً مسبقاً في الموضوع، وذلك لأنّ الضرير لم يكن متذكراً هذا النوع من التوسل حتّى يجلس في بيته ويتوسل به ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وإنّما علّمه النبي الأكرم، وما معنى هذا الترقب من الرجل؟.
ثمّ إنّ الكاتب يدّعي أن لفظ الحديث ومفاهيم اللغة العربية وقواعدها كلها تشهد بأنّ معناه هو التوسل بدعاء النبي، ماذا يريد من لفظ الحديث؟ هل يريد المحاورة الأولى الّتي لا تمتّ إلى مركز الاستدلال وموضعه بصلة، أو يريد الدعاء الّذي علمه الرسول؟ فهو يشهد بخلافه ؟
________________________________________
(239)
وماذا يريد من مفاهيم اللغة العربية وقواعدها، وأيّة قاعدة عربية تمنع الأخذ بظاهر الدعاء؟
(ما هكذا تورد يا سعد الإبل!) .
إنّك إذا قرأت ما جاء به الكاتب من صخب وهياج في ذيل كلامه، لتعجبت من عباراته الفارغة وكلماته الجوفاء، الّتي هي بالخطابة أشبه منها بالبرهان.
* * *
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية