الولاية والإمامة

طباعة

الولاية والإمامة

إنّنا حينما أشرنا إلى أنّ الإمامة تجمع تحت ظلّها كلّ من الخلافة والزعامة والرئاسة والولاية ، فإنّ هذا الجمع فيما يختصّ بالشراكة التي منحها الله لأولياء الناس من الذين آمنوا ، ولا ينبغي أن يفهم منها أنّها تشتمل على الدرجة الأُولى للولاية ، والتي هي لله ، بل نحن بصدد الإشارة إلى الدرجة البشريّة ، والتي تجمع بين الرسول صلّىى الله عليه وآله وبينه ، وهو يربط بشيء من الحساسيّة والدقّة ، بين إبراهيم والمؤمنين والنبيّ صلّى الله عليه وآله والتمسّك بنهجهم ، ربطاً يحتاج إلى بصيرة كي تقف عنده.

فالولاية التي تجمع بين إبراهيم عليه السلام والذين اتبعوه هي ولاية ارتباطاً ، فالذين اتبعوه أشدّ ارتباطاً ووثاقة بإبراهيم عليه السلام من سواهم ، وإنّ هذا النبيّ الذي هو وليّ أنفس المؤمنين هو الذي تحتشد في شخصيّته وثاقته بإبراهيم عليه السلام الإمام ، وولايته لأنفس الذين آمنوا ، فيشتمل على رتبة الإمامة والنبوّة والولاية ، وهو المقام الذي تشغله قدسيّة ذات محمّد صلّى الله عليه وآله بالمطلق ، منظوراً إليها على أنّها الإمتداد الذي لا ينقطع في حين من الدهر ، لا في القديم ولا في الحاضر ولا في المستقبل ، لارتباطها بولاية الله سبحانه التي لا تنتهي.

وإذا صحّ هذا الارتباط ـ وهو كذلك ـ فإنّ ارتباط ولاية الذين آمنوا بها ستكون قد اقتربت من ظهورها عياناً ، كيف ذلك ؟

نلاحظ في عدد غير قليل من آيات القرآن الكريم ، أنّه تعالى عندما يتحدّث عن الولاية فإنّه يشير إلى أنّها رابطة تنشأ بين أطراف ، أما ثنوية أو متعدّدة.

ففي الآيات التي تتحدّث عن مرجعيّة الولاية لله سبحانه ، يمكن أن نلاحظ الأمور الآتية :

يرتبط مفهوم الولاية في القرآن الكريم فيما بين الذين يتولون الله سبحانه ـ والذين يعرضون عنه ـ أيضاً بعدّة جوانب ، أهمّها ذاك الجانب الذي يخاطب الفطرة خطاب تعيين ، أيّ خطاب عالم متحقّق من أنّها تحفز البشر نحو الاستجابة لمطلبهم الأساسي ، وهو بلوغ رتبة كمالهم ، والذي لا يتحقّق بدونه إمام يهدي إلى وصولهم نحو ربّهم مطمئني القلوب.

لكنهم يغضون بصائرهم عنها ، وعند ذلك نلاحظ أنّه ينعتهم بالضالين ( وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ) (1) ، لأنّهم خالفوا ذاك البسيط النقي في سرائرهم وعاندوا ، فصاروا إلى ولاية الشيطان.

ونحن في مباحث الإمامة ، ما نزال نتوسع شيئاً فشيئاً ، باحثين عن نقاط كبرى وأساسيّة في نظريّة الإمامة وفق المنهج الإسلامي القرآني.

إذن ، إنّ خطاب الفطرة هذا ، هو خطاب يحتوي على تصريح بأنّ الله وليّ الذين آمنوا بعضهم أولياء بعض ، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أولى بهم من أنفسهم ، وأنّ الذين يبلغون هذه الرتبة ( لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).

فالذين استجابوا لداعي الله ، وكانت فطرتهم قد اتخذت لها ملجأ نَحو ملاذها ـ أيّ إمامها ـ وبلغت درجة الإيمان ، فإنّ القرآن الكريم يحاكي هذه الفطرة ، يحاكي هذا الإنسان ذا اللب الفطن ، بخطاب النصرة ، أيّ ترتبط الولاية بالتأييد والنصرة والمعاضدة.

فإنّ الله هو الولي ، وهو النصير الذي لا يوجد سواه ناصر عند الملجأ ، وهو ولي الذين آمنوا بالنظر إلى كونهم يتمتّعون بهذا الحقّ الممنوح لهم من قبله تعالى ، وفضلاً عن هذا ، فإنّ الله سبحانه منح رسوله محمّد صلّى الله عليه وآله ولاية المؤمنين على أنفسهم ، بل جعله أولى بهم منها ، وهو قوله : ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (3) ، أيّ أحقّ منهم بولايتهم على أنفسهم.

فثمة إطلاق ولاية أمر المؤمنين بمعناه الشمولي ، أيّ بكلّ دقيق من دقائقه وبكلّ تفصيل من تفاصيله ، وجعله بيد الرسول صلّى الله عليه وآله حيث مكّنه من الولاية على نفوسهم ، وجعلها أفضل من ولايتهم هم أنفسهم عليها.

وفي جميع هذه الحالات ، نرى أنّ القرآن الكريم يشير إلى المؤمنين بشي من التخصيص ، أيّ إلى أولئك الذين يبلغ إيمانهم تلك الدرجة الرفيعة التي تؤهّلهم لأن يجعلوا ولاية أنفسهم بيد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وهذا ليس لعامة من آمن فيما يفهم ، إذ أن القضيّة ذات عمق أكثر ، منها إشارة إلى السطح في درجة يسلم معها نفسه طوعاً له ، كما يسلم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، عن يقين نفسه لولاية ربّه.

ومن المعروف أنّ الولاية الإلهيّة هي ولاية خالق على مخلوق ، وهذه تحمّل جانباً من جوانب السلطة المتاحة في الأصل للمالك الذي بيده الأمر ، وهو يخرجه منها ويعيده إليها ، أمّا فيما يختصّ بعناية رسول الله صلّى الله عليه وآله وولايته على أنفس المؤمنين ، فإنّها وإن كانت تحمل ذلك البعد الذي منحه إياه الربّ عزّ وعلا ، فإنّها تتمتّع بالإحالة إلى فهمها على أنّها ولاية يطلبها المؤمن اختياراً ، حيث أن سلطة رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ أيّ ولايته ـ على الأنفس نابعة من كون المؤمن بلغ درجة أيقن معها أن هذا الرسول صلّى الله عليه وآله هو مخرجه ومدخله إلى ولاية ربّه ، لا عن طريق التوسط ، بل عن طريق الدرجات التي يتقرّب ويرتفع من خلالها المؤمن ، ويفيدنا هنا أن ننظر في الآية المباركة التالية : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (4).

ولا ينبغي أن يفوتنا ، إنّ هذه الآية قد جاء قبلها تحديد منهج الديانة الإبراهيميّة ، فقال تعالى : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (5).

إنّ إبراهيم عليه السلام صاحب رتبة إمامة الناس المجعولة من قبل الله تعالى ، وصاحب الخطّ الإسلامي غير ذي العوج ، وهو أحد أهمّ ما يمكن أن تقاس عليه معرفة المؤمنين الذين هم في الرتبة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله في مفهوم الولاية ، وكيف لنا أن نستدلّ على هذا ؟

إنّ الطريق في الاستدلال بحاجة إلى التبصر في كتاب الله أوّلاً ، فكتاب الله لا يأتي بالأُمور اعتباطاً ، بل هو ( يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (6) ، وعند الحاجة الحقيقيّة إلى نصرته ، فهو يكفي من تولّاه ، ولا يترك حاجته عند سواه.

هذا قانون ثابت بيّن من قوانين القرآن الكريم ، وهو دائم السيرورة ، أنظر كيف يوهن القرآن الكريم من اتّخذ أولياء له غير الله في قوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (7).

الهوامش

1. الكهف : ١٧.

2. يونس : ٦٢.

3. الأحزاب : ٦.

4. آل عمران : ٦٨.

5. آل عمران : ٦٧.

6. الإسراء : ٩.

7. العنكبوت : ٤١.

مقتبس من كتاب : [ معراج الهداية ] / الصفحة : 85 ـ 90