المعرفة المعتبرة

البريد الإلكتروني طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج1 ، ص 20 ـ 22

 

(20)


4 - المعرفة المعتبرة


إِنَّ الخطوة الأولى لفهم الدّين هي الوقوف على المعرفة المعتبرة فيه.
فالدّين الواقعي لا يعتبر كل معرفة حقاً قابلاً للاستناد ، بل يشترط فيها
الشروط التالية.
أ - المعرفة القطعية التي لا تنفكّ عن الجزم و الإِذعان ، و رفض المعرفة
الظنّية و الوهميّة و الشكّية ، قال سبحانه:
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ
كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً }(1).  ترى أنَّ الآية ترفض كل معرفة خرجت عن إطار العِلمْ
القطعي ، و لأجل ذلك يَذمّ في كثير من الآيات اقتفاءَ سنن الآباء و الأجداد ،
اقتفاء بلا دليل واضح ، و بلا عِلْم بصحته و إتقانه ، يقول سبحانه: { بَلْ
قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الاسراء: الآية 36.
(2) سورة الزخرف: الآيتان 22 - 23.
________________________________________


(21)


والقرآن ينقل أخبار الكثير من المضلّلين حيث يعضّون أناملهم من
الندم يوم القيامة بقوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا
اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا *
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}(1).
ب - تعتبر المعرفة ، إذا كانت نابعة من أدوات المعرفة الحسّية و القلبية
أو العقلية ، يقول سبحانه: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(2).
فالسَّمع و الأبصار رمز الأدوات الحسّية ، و الأفئدة كناية عن العقل
و الإِدراكات الصحيحة الفكرية ، و الإِدراكات الخارجة عن إطار تلك الأدوات
غير قابلة للاستناد.
و إنّما اعتمد من بين أدوات المعرفة على هذين (الحِسْ و العقل) ؛
لأنّهما أكثر صواباً ، و أعظم نتيجة ، و أمّا غيرهما من الأدوات التي يعتمد عليها
مرضى القلوب ، فهي غير قابلة للاستناد ، و لهذين الأمرين من أدوات المعرفة
شعوب و فروع قد بيّنت في علم « نظرية المعرفة» .
نعم ، هناك سؤال يطرح نفسه ، و هو أَنَّه إذا كان اقتفاء الآباء و الأجداد
و تقليدهم أمراً مذموماً ، فلماذا جوّزه الإِسلام في باب معرفة الأحكام الفرعية
العملية ؟ إذ يصح لكل مسلم أنْ يأخذ مذهبَه في الفروع و الأحكام من إمام
الفقه و عالمه ، أو ليس ذلك تقليد لهم كتقليد الكفار لآبائهم؟.
و الإِجابة على هذا السؤال واضحة ؛ إذ أن أخذ الأحكام عن المجتهد
البارع المتخصّص في فنّه ، ليس من قبيل التقليد المذموم ، و هو الرجوع إلى
الغير ، و تقليده بلا دليل ؛ لأنَّ رجوع الجاهل إلى العالِم و اقتفائه أثَره رجوع
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الاحزاب: الآيات 66 - 68.
(2) سورة النحل: الآية 78.
________________________________________


(22)


إليه مع الدليل ، و عليه سيرة العقلاء في جميع المجالات ، فالجاهل بالصنعة
يرجع إلى عالمها ، و جاهل الطب يرجع إلى خبيره ، و هكذا دواليك ، وهذا
كله في الأمور الفرعية.
وأمّا المسائل الأصولية ، فهي مسائل جذورية ، و الأمر فيها يدور بين
الإِثبات المحض ، كما هو الحال عند الإِلهيين ، و النفي المحض كما هو
عند المادّيين ، فلا يصحّ التقليد فيها ، إذا ليس هناك قدر مشترك حتى يؤخذ 
به ويرجع في الزائد عليه إلى المتخصص ؛ فإن كلاَّ من الإِلهي و المادّي
يدّعي كونه متخصصاً في هذا العلم.
فلا جل ما ذكرنا ، يجب على الإِنسان الغور في المسائل الأصولية من
دون جعل فكرٍ سنداً و حجّة.


***

 

 

 

 

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية