التوحيد في الصفات نظرية الإِمامية

البريد الإلكتروني طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 38 ـ 41


(38)


الثالث : نظرية الإِمامية : عينية الصفات والذات


هذه النظرية لا تعني نظرية النيابة ، فإنّ تلك مبنية على نفي العلم
والقدرة عنه سبحانه ، غير أن ما يترقب منهما يترتب على ذاته سبحانه ، وقد
اشتهر قول تلك الطائفة : « خذ الغايات واترك المبادي » ، فما هو المطلوب
من العلم تقوم به الذات ، وإن لم يكن فيها علم ولا قدرة . أُولئك هم
المعروفون بنفاة الصفات ، وقد فروا من مضاعفات القول بالصّفة أعني
التركب ، إلى نفي الصفات رأساً ، وهو أشبه بالفرار من المطر إلى تحت
الميزاب.
وأمّا نظرية العينية فهي تعترف بوجود العلم والقدرة في مقام الذات ،
ولكن تدّعي أن العرضية ليست أمراً لازماً للعلم ، بل تارة يكون عرضاً ،
وأُخرى يكون جوهراً كعلم النفس بذاتها ، وثالثة فوق العرض والجوهر فيكون
واجباً قائماً بنفسه ، فهذا يباين نظرية نفاة الصفات مباينة الشرق للغرب.
والدليل على العينية هو أنَّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته يوجب
غناؤه في العلم بما وراء ذاته عن غيره ، فيعلم بذاته كل الأشياء من دون
حاجة إلى شيء وراء الذات ، وهذا بخلاف القول بالزيادة ؛ فإنّه يستلزم افتقاره
سبحانه في العلم بالأشياء ، وخلقه إيّاها إلى أمور خارجة عن ذاته ، فهو يعلم
بالعلم الذي هو سوى ذاته ، ويخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته ،
ويحيا بحياة غير ذاته ، والواجب سبحانه منزه عن الإِحتياج إلى غير ذاته ،
فهو غني في ذاته وفعله عمّن سواه ، والأَشاعرة وإنْ كانوا قائلين بأَزلية
الصفات مع زيادتها على الذات ، لكن الأَزلية لا تدفع الفقر والحاجة عنه ؛
لأنّ الملازمة غير العينية فكون ذاته سبحانه ملازمة لهذه الصفات المغايرة من
الأزل غير كونها نفس هذه الصفات.
وباختصار : إنَّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول بحاجته
في العلم والإِيجاد إلى غير ذاته ؛ فإنّ نتيجة فصل الذات عن الصفات هي إنّه
________________________________________


(39)


يستعين في تحصيل العلم بعلم منفصل ، وفي الإيجاد بقدرة خارجة عن
ذاته . وبالجملة : إنَّ التحرّز عن تعدد القدماء أوّلاً ، وحاجته سبحانه في مقام
الفعل إلى غير ذاته ثانياً ، يجرنا ـ مع الاعتراف بأنَّ له سبحانه أوصافاً من علم
وقدرة وغيرهما ـ إلى القول بعينية الصفات والذات.


بساطة الذات وتعدد الصفات كيف يجتمعان؟
لقد قادتنا البراهين السابقة إلى بساطة الذات الإلهية ، وخلوها عن أي
نوع من أنواع التركيب العقلي الخارجي ، وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو :
كيف يجتمع تعدد الأسماء والصفات مع بساطة الذات؟ أليس يستلزم تعدد
الصفات تركُّب الذات الإِلهية من صفات متعددة؟
والجواب عن ذلك بوجهين:
الأوّل:  إنَّ السؤال إنّما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات
يشكّل جزءاً خاصاً ، ويحتل موضعاً معيناً من ذاته سبحانه ، وحينئذٍ يمكن القول
بأنّه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه ، ولكن إذ قلنا بأنَّ كل واحد من هذه
الصفات يشكل تمام الذات برمتها وأسرها ، فحينئذٍ لا يبقى مجال لتصور
التركيب في شأنه تعالى ؛ إذ لا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال
يكون فيها كلّه علماً ، وكلّه قدرة ، وكلّه حياة ، دون أن تظهر أية كثرة في
ذاته . نعم ، لو كانت هناك كثرة ، فإنَّما هي في عالم المفهوم دون الواقع
الخارجي ؛ إذ عندئذٍ تكون ذاته سبحانه مصداق العلم ومطابقه ـ وفي الوقت
نفسه ـ مصداق القدرة ومطابَقَها ، بلا مغايرة ولا تعدد.
ولتقريب هذا المعنى نشير إلى مثال في عالم الممكنات ، وهو أنَّ
الإِنسان الخارجي بتمام وجوده مخلوق لله سبحانه ، وفي الوقت نفسه معلوم له
سبحانه ، فمجموع الوجود الخارجي ، كما هو مصداق لقولنا إِنَّه مخلوق لله
ومطابَق له ، مصداق ومطابَق لقولنا إنَّه معلوم للّه ، من دون أنْ يُخصَّ جزء
________________________________________


(40)


بكونه معلوماً وجزء بكونه مخلوقاً ، بل كله معلوم لله في عين كونه مخلوقاً له ،
وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.
وباختصار : يصح انتزاع المفاهيم الكثيرة من الواحد البسيط البحت ،
وهذا على التقريب كالنّور ؛ فإنَّ الإِضاءة والحرارة من خواصّ النور ، وليست
الأُولى مختصة بناحية من وجوده ، والثانية بناحية أُخرى منه ، بل النور بتمامه
مضيء ، كما أنَّه بتمامه حار ، فالشيء الخارجي ـ أعني : النور ـ مصداق
لمفهومين ؛ المضيء والحار.
الثاني:  إنَّ وجوده سبحانه هو الكمال المطلق والوجود الأَتم ، وأمَّا
انتزاع المفاهيم الكثيرة مثل العالم والقادر ، فإنّما هو بالنظر إلى تجلياته
المختلفة في العالم الإِمكاني . فإن إِتقان الفعل وظرافته دليل كونه قادراً ،
كما أنَّ الصنع على سنن معقدة آية كونه عالماً بهذه السنن والنُّظُم ،
وهكذا . فتجلّيه سبحانه على العالَم بالشؤون المختلفة صار سبباً لانتزاع
مفاهيم كثيرة منه ، هذا.
ولكنَّ الجواب الأوّل أتقن وأنسب بالأُسس التي قدمناها.


عينية الصفات والذات في النّصوص الإِسلامية
إنَّ عينية الصفات والذات ممّا قادنا إليه العقل ، وتضافرت عليه السنّة عن
سيّد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فهو سلام الله عليه أوّل مَن
أصْحرَ بالحقيقة ، وجَهَرَ بها في تلك العصور التي لم يكن فيها خبر عن نظرية
المعتزلة (النيابة) ، ولا الأشاعرة (الزيادة).
قال أمير المؤمنين: « وَكَمَالُ الإِخْلاصِ له نَفْيُ الصِفاتِ (الزائدة)
عَنْهُ ، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَة أنّها غَيْرُ المَوْصُوفِ ، وَشَهادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أنّهُ غَيْرُ
الصِّفَةِ ، فَمَنْ وَصَفَ اللّهَ (أي بوصف زائد على ذاته)  فَقَدْ قَرَنَهُ (أي قرن
________________________________________


(41)


ذاته بشيء غيرها) ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنّاهُ ، وَمَنْ ثَنّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ
جَهِلَهُ » (1).
وفي هذا الكلام تصريح بعينية الصفات للذات ، وفيه إِشارة إلى برهان
الوحدة ، وهو أنَّ القول باتحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن
التركيب والتجزئة ، ونفي الحاجة عن ساحته ، ولكن إذا قلنا بالتعدد والغيريّة ،
فذلك يستلزم التركيب ويتولد منه التثنية ، والتركيب آية الحاجة ، والله الغني
المطلق لا يحتاج إلى من سواه.
وقال الإِمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ : « لَمْ يَزَلِ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ رَبُّنَا ،
والعِلمُ ذاتُهُ ولا معلوم ، والسمعُ ذاتهُ ولا مسموع ، والبَصَرُ ذاتُه ولا مُبْصَر ،
والقُدْرَةُ ذاتُهُ ولا مَقْدُور» (2).
والإِمام ـ عليه السَّلام ـ يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه ـ وراء
عينية صفاته وذاته ـ وهو وجود علمه بلا معلوم ، وسمعه بلا مسموع . وما هذا
إلا لأجل أنَّ ذاته من الكمال والجمال إلى حدّ لا يشذّ عن حيطة وجوده أي
شيء ، وتشريح هذا القسم من العلم يطلب من الكتب الفلسفية.
وهناك روايات أُخرى عن العترة الطاهرة يقف عليها مَن خاض
أحاديثهم ، وقد جمعها الشيخ الصدوق في كتاب (التوحيد) ، والعلامة
المجلسي في  )كتاب البحار) ، وكل ذلك يدل على أنَّ الأُمة أخذت التوحيد
في هذه المجالات عن باب علم النبي علي بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ ،
وأنّ المعتزلة أخذوا ما قالوا به من التَّوحيد من ذلك المصدر ، كيف وهم عيال
عليه في تلك المباحث كلها (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.
(2) التوحيد للصدوق : ص 139.
(3). إنَّ حياة المعتزلة العلمية تدل على أنَّ رئيسهم واصل بن عطاء تتلمذ على أبي هاشم ابن
محمّد بن الحنفية ، وهو على أبيه عن علي ـ عليه السَّلام ـ . وقد أوضح الأستاذ دام ظله انتهاء
أصول المعتزلة إلى علي ـ عليه السَّلام ـ في موسوعته الكبيرة « مفاهيم القرآن» فلاحظ ، ج 4،
ص 379 ـ 381.

 



 

 

 

 

 

أضف تعليق

التوحيد

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية