سؤال وجواب حول كون الملائكة وسائط في التدبير

البريد الإلكتروني طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 69 ـ 71


(69)


سؤال وجواب


إنَّ التَّوحيد في التدبير ، وأنَّه لا مدبر سواه ، لا يجتمع مع تصريح القرآن
بوجود مدبرات في الكون يقول سبحانه: { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}(3). ويقول عزّ
وجلّ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً }(4). ولا شكّ أنَّ
هؤلاء الحفظة إذ يراقبون البشر ويحفظونهم من الشر ، فلا محالة يكونون
مدبرين لهم بنحو ما.
والجواب عنه بما عرفته منا غير مرّة من أنَّ معنى التَّوحيد في الخالقية أو
الربوبية ليس كونه سبحانه خالقاً لجميع الأشياء مباشرة وبلا سبب ولا مدبراً
كذلك ، بل معناه أنَّه ليس في الكون خالق أو مدبر مستقل سواه ، وأنَّ قيام
الأشياء الأُخرى بدور الخلقة والتدبير هو على وجه التبعية لإِرادته سبحانه.
والاعتراف بمثل هذه المدبرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله
سبحانه .  ومن له أدنى إلمام بألف باء المعارف ، والمفاهيم القرآنية يقدر على
الجمع بين تلكما الطائفتين من الآيات كما أوضحنا ذلك عند البحث عن
الخالقية ، ولأجل إيضاح الحال نأتي بكلام العلاّمة الطباطبائي في المقام.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(3) سورة النَّازعات: الآية 5.
(4) سورة الأنعام: الآية 61.
________________________________________


(70)


الملائكة وسائط في التدبير
الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءاً وعوداً ، على ما يعطيه
القرآن الكريم ، بمعنى أَنَّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم
المشهود قبل حلول الموت ، والانتقال إلى نشأة الآخرة ، وبعده.
أمَّا في العود ، أعني حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء
السؤال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك
مجدداً ، والحشر ، وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين ، والحساب ، والسوق
إلى الجنة أو النار ، فوساطتهم فيها غنية عن البيان . والآيات الدّالة على ذلك
كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبي وأئمة أهل البيت
ـ عليهم السَّلام ـ فوق حدّ الإِحصاء . وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من
النزول بالوحي ، ودفع الشياطين عن المداخلة فيه ، وتسديد النبي ، وتأييد
المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار.
وأمَّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها قوله
سبحانه: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا *
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا *  فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}(1).
فإنَّ المراد من :{ وَالنَّازِعَاتِ } الّتي أقسم بها القرآن هو الملائكة الّتي
تنزع الأرواح من الأجساد ، و { غَرْقًا } كناية عن الشديد في النزع.  والمراد
من : {النَّاشِطَاتِ} الّتي تخرج الأرواح برفق وسهولة . و {السَّابِحَاتِ} النازلة
من السماء مسرعة ، والسبح الإِسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا
أسرع في جَرْيه .  و{السَّابِقَاتِ} نَفْسُ الملائكة ؛ لأنّها سبقت ابن آدم بالخير
والإيمان والعمل الصالح ، و { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} الملائكة المدبرة لأُمور
الكون.
فشأن الملائكة أن يتوسطوا بينه تعالى ، وينفذوا أمره كما يستفاد من قوله
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النّازعات: الآيات 1 ـ 5.
________________________________________


(71)


تعالى:{ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(1).
وقوله: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(2).
ولا ينافي ما ذكرنا (توسطهم بينه تعالى وبين الحوادث ، وكونهم أسباباً
تستند إليها الظواهر الكونية) إسناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية ؛ فإنَّ
السببية طولية لا عَرْضية ؛ فإنَّ السبب القريب سبب للحادث ، والسبب البعيد
سبب للسبب.
كما لا ينافي توسطهم واستناد الحوادث إليهم ، استناد الحوادث إلى
الله تعالى ، وكونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبية ؛
فإنَّ السببية طولية كما سمعت لا عرضية . ولا يزيد استناد الحوادث إلى
الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة ، وقد صَدّق القرآن الكريم
استناد الحوادث الطبيعية كما صدّق استنادها إلى الملائكة.
وليس لشيء من الأسباب استقلال في مقابله تعالى حتى ينقطع عنه
فيمنع ذلك استناد ما استند إليه ، إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من
تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين . فالتوحيد القرآني ينفي
الاستقلال عن كل شيء من كل جهة ، فالملائكة لا يملكون لأنفسهم نفعاً
ولا ضرّاً ، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
فَمَثَل الأشياء في استنادها إلى الأسباب المترتبة:  القريبة والبعيدة ،
وانتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد ، كمثل الكتابة يكتبها الإِنسان بيده
وبالقلم ، فللكتابة استناد إلى القلم ، ثمّ إلى اليد الّتي توسلت إلى الكتابة
بالقلم ، وإلى الإِنسان الّذي توسل إليها باليد والقلم ، والسبب الحقيقي هو
الإِنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته ، استناد الكتابة بوجه إلى
اليد والقلم (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنبياء: الآيتان 26 ـ 27.
(2) سورة النحل: الآية 50.
(3) الميزان : ج 20، ص 183 ـ 184 بتلخيص.



 

 

 

 

أضف تعليق

التوحيد

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية