العدل الإلهي و أفعال العباد

البريد الإلكتروني طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 255 ـ 265

 

(255)


العدل الإلهي و أفعال العباد


قد عرفتَ أنَّ العدل من صفاته سبحانه ، و كأن هذا الوصف يقتضي
البحث عن كيفية صدور أفعال العِباد منهم ، و هل هم فاعلون بالاختيار أو
بالجبر والإلجاء؟
و الأوّل موافق لعدله سبحانه ، و الثاني يخالفه . و لكننا أفردنا المسألة
بالبحث لتشعب شقوقها ، وكثرة ما طرح فيها من الإشكالات ، و قبل الخوض في
المقصود نقدم أموراً :
الأمر الأوّل : في كون المسألة عامة
انِّ الوقوف على كيفية صدور فعل الإِنسان منه ، و إن كان مسألة
فلسفية ، غاصّ فيها كبار المفكرين من الفلاسفة الذين يقدرون على
تحليل المسائل العامة في الفلسفة الإلهية ، إلاّ انَّ اشتمال المسألة على
خصيصة خاصة ، وهي صلتها بمصير الإِنسان في مسيره جعلتها مسألة مطروحة
أيضاً بين البسطاء و العاديين من الناس ؛ و لأجل ذلك تغايرت فيها أفكارهم
و آواؤهم.
فهذه المسألة من حيث العمومية كالمسائل الثلاث الفلسفية التي يتطلع
________________________________________


(256)


كل إنسان إلى حلّها سواء أقدر عليه أم لا ، وهي : من أين جاء؟ و لماذا جاء؟
وإلى أين يذهب؟
ولأجل هذه الخصيصة في المسألة لا يمكن تحديد زمن نكّون هذه
المسألة في البيئات البشرية ، و مع ذلك فالمسألة كانت مطروحة في الفلسفة
الإغريقية ، اشراقيّها و مشّائيها ، ثمّ تسربت الى الأوساط الإسلامية ، و منها
تسرّبت إلى المجتمعات الغربيّة ، كغيرها من المسائل و العلوم الإسلامية.
الأمر الثانى : في الجبر بأقسامه
إنّ أحد شقوق هذه المسألة هو القول بالجبر ، و أنَّ الإِنسان مسلوب
الاختيار ، ولكن تصويره يختلف حسب نفسيات الباحث ، و المِلاكات التي
يجعلها محور البحث . فالإلهي القائل بالجبر ، يطرحه على نمط مغاير لما
يطرحه المادي و الفلسفي القائلين به . فالإلهي لا يصوّر للجبر عاملاً سوى ما
يرتبط بالله سبحانه من تقديره وقضائه ، أو علمه الأزلى ، أو مشيئته القديمة
المتعلقة بأفعال الإِنسان(1). و المادي بما أنّه غير معتقد بهذه المبادئ يسند
الجبر إلى العامل المادي ، و هو « الوراثة » ، و « التعليم » ، و « البيئة » ، التي
تسمّى بمثلث الشخصية ، و أنَّ نفسيات كل إنسان و روحياته تتكون في ظّل
هذه العوامل الثلاثة ، وهي عوامل خارجة عن الاختيار . ومن المعلوم أنّ
فعل كل إنسان رد فعل لشخصيته و ملكاته التي اختصرت فيها.
و للفلاسفة للقائلين بالجبر منحى آخر فيه . فتارة يستندون إلى أنَّ
الإرادة الإِنسانية هي العلة التامة للفعل ، بحيث إذا حصلت في ضمير
الإِنسان يندفع إلى الفعل بلا مهلة و انتظار ، و بما أنَّ الإرادة ليست أمراً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه ثلاثة من العوامل التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالجبر . وهناك عامل رابع ، و هو القول
بكون أفعال العباد مخلوقه لله سبحانه مباشرة . و عامل خامس وهو ما يبدو من القرآن الكريم
من نسبة الهداية و الضلالة إلى الله سبحانه . و هذه هي النقاط الرئيسية لأبحاثهم في المسألة.
________________________________________


(257)


اختيارياً ، تتسم أفعال الإِنسان بسمة الجبر لانتهائها إليها.
وأخرى إلى انتهاء العلل الطولية الى ذاته سبحانه ، فهو العلة التامة لتلك
السلسلة ، فيكون النظام الخارجي و منه الإِنسان و فعله واجب التحقق ،
و ضروري الكون.
وثالثة إلى أنّ الشيء ما لم تجتمع أجزاء علته ، فلا يتحقق في
الخارج ، فوجود كل شيء و منه فعل الإِنسان ضروري التحقق عند اجتماع
أجزاء علته التامة . و ما هو كذلك كيف يتسم بالإختيار . و إلى ذلك يشير
قولهم : « الشيء ما لم يجب لم يوجد» .
فهذه مِلاكات ثلاثة للذهاب إلى الجبر عند بعض الفلاسفة.
و بذلك يتضح أنَّ القول بالجبر ينقسم إلى أقسام تبعاً للقول بمِلاكات
خاصة فينقسم إلى:
1ـ جبر إلهي مسند إلى علّة سماوية.
2ـ جبر مادي مسند إلى علل مادية.
3ـ جبر فلسفي مسند إلى علة نفسية و غيرها.
ولأجل ذلك يجب البحث عن كل قسم على حِدة.
الأمر الثالث : في الاختيار بألوانه
و من شقوق هذه المسألة القول بالاختيار ، و هو ينقسم حسب انطلاق
القائلين به عن مواضع مختلفة ، إلى أقسام:
1ـ الاختيار بمعنى التفويض ، بمعنى أنّه ليس للّه سبحانه أي صنع في
فعل العبد ، و أن ذات الإِنسان و إن كانت مخلوقة للّه سبحانه ، ولكن لا يمت
فعله إليه بصلة ، فهو مستقل في فعله و في إيجاده و تأثيره ، حفظاً لعدله
سبحانه .  فيكون الإِنسان في هذه النظرية خالقاً ثانياً في مجال أفعاله ، كما
أنّه سبحانه خالق في سائر المجالات .  و هذا مذهب « المعتزلة ».
________________________________________


(258)


2ـ الاختيار بمعنى تكوُّن الإِنسان بلا لون و ماهية ، و أَنَّه مذ يرى النور
يوجد بلا خصوصية و لا نفسية خاصة ، بل يكتسب الكل بإرادته و فعله ؛ لأنّه
لو ظهر على صفحة الوجود مع الخصوصية المعينة لزم كونه مجبوراً في
الحياة ، و هذا هو منطق الوجوديين في الغرب.
و بذلك تقف على أنَّ المعتزلة تنطلق من مبدأ العدل ، كما أنَّ
الوجوديين ينطلقون من مبدأ تكون الإِنسان بلا لون و لا ماهية.
3ـ الاختيار بمعنى الأمر بين الأمرين لا على نحو الجبر و لا على نحو
التفويض . و هذا هو موقف القرآن الكريم و أئمة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ ،
كما سيوافيك شرحه.
و بذلك تقف على أنَّ الجبر لا يختص بالإِلهي بل يعمه و المادي ، كما
أنَّ الاختيار مثله . فالإِلهي و المادي تجاه هذه المسألة متساويان ، و الاختلاف
في ذلك ينطلق من الطرق التي يسلكها المستدل ، فيلزم لتوضيح البحث
إفراد كل واحد من هذه المناهج عن البقية حتى يكون الباحث على بصيرة.
الأمر الرابع : الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي
الآيات القرآنية و المأثورات التاريخية تشهد بأنّ فكرة الجبر كانت
موجودة قبل الإِسلام ، و قد ذكرنا بعض الآيات الدالّة على أنَّ المشركين
كانوا معتقدين بذلك عند البحث عن القضاء و القَدَر.
و من المؤسف أن يكون الاعتقاد السائد بين بعض أهل الحديث هو
القول بالجبر لعلل سياسية من السلطات الغاشمة ، و احتكاكات ثقافية مشبوهة
بين المستسلمين من الأحبار و الرهبان ، و المسلمين . و قد وقفت على بعض
النصوص في ذلك فيما مضى . و إليك ما له صلة بهذا المقام.
1 ـ  نقل القاضي عبدالجبار عن أبي علي الجبّائي في كتاب ) فضل
الاعتزال ) : « ثمّ حدث رأي المجبرة من معاوية لمّا استولى على الأمر ،
________________________________________


(259)


و حدث من ملوك بني أمية مثل هذا القول . فهذا الأمر الذي هو الجبر نشأ في
بني أمية و ملوكهم ، و ظهر في أهل الشام ، ثمّ بقي في العامّة و عظمت الفتنة
فيه » (1).
2ـ و قال ابن المرتضى : « ثمّ حدث رأي المجبرة من معاوية و ملوك
بني مروان فعظمت به الفتنة » (2).
3 ـ و هذا معبد الجهني و هو أوّل مَن قال بنفي القدر بمعنى نفي الجبر ،
و نشر هذه الفكرة ، فقتله الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي تولى إمارة العراق
من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 80 . و قيل إنَّ
الذي تولى قتله صلباً هو نفس عبدالملك بن مروان (3).
4 ـ و هذا غيلان الدمشقي أخذ القول بالاختيار عن مَعْبَد الجَهني ،
فنشر الفكرة في دمشق فكاد عمر بن عبدالعزيز أن يقتله لولا أن تراجع غيلان
عن رأيه و أعلن توبته ، ولكنه عاد إِلى هذا الكلام أيام هشام بن عبدالملك ، فأمر
هشام بصلبه على باب دمشق ، بعد أن أمر بقطع يديه و رجليه ،
عام 25  (4).
5 ـ قال ابن الخياط : إنَّ هشام بن عبدالملك لمّا بلغه قول غيلان
بالاختيار ، قال له : و يحك يا غيلان لقد أكثر الناس فيك ، فنازعنا في أمرك ،
فإن كان حقاً اتَّبعناك . فاستدعى هشام ، ميمون بن مروان ليكلمه . فقال له
غيلان : أشاء اللّه أن يعصى . فأجابه ميمون : أفعصي كارهاً؟ فسكت
غيلان . فقطع هشام بن عبدالملك يديه و رجليه (5).
6 ـ و جاء في رواية ابن نباتة : إنَّ عمر بن عبد العزيز لمّا بلغه قول
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فضل الاعتزال : ص 122.
(2) البحر الزخار : لابن المرتضى ، ج 1، ص 39 ، س 17.
(3) الكامل لابن الأثير : ج 4، ص 456.
(4) تاريخ الطبري : ج 5 ، ص 516 .  و الكامل : ج 5 ، ص 363.
(5) الانتظار لابن الخياط : ص 139.
________________________________________


(260)


غيلان بالاختيار استدعاه و قال له : ما تقول؟
قال : أقول ما قال اللّه.
قال : و ما قال اللّه ؟
قال: إِنَّ اللّه يقول:  { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ
شَيْئًا مَذْكُورًا...} حتى انتهى إلى قوله سبحانه:  { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
قال له عمر بن عبدالعزيز : إِقرأ.
فلما بلغ إلى قوله سبحانه:  { وَمَا تَشَاؤُُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيمًا حَكِيمًا} ، قال : يا ابن الأتانة ، تأخذ بالفرع و تدع الأصل!! (1).
فهذه النصوص التاريخية تفيد أوّلاً:  إنّ السلطة الأموية من لدن عصر
معاوية إلى آخر حكّامها كانت تروّج فكرة الجبر ، و تسوس من يقول بالاختيار
بسياسة الإِرهاب و القمع ، و تنكل بهم أشدّ التنكيل . و الغاية من إشاعة هذه
الفكرة معلومة فإنّها تخلق لهم المبررات لتصرفاتهم الوحشية ، و انهماكهم في
الملذات و الشهوات ، و استئثارهم بالفيء ، إلى غير ذلك من جرائم الأعمال
و مساوئها.
و ثانياً : إِنَّ معبد الجهني في العراق و تلميذه غيلان الدمشقي في الشام
كانا يتبنيان فكرة الاختيار و نفي الجبر ، لا فكرة نفي القدر و القضاء الواردين في
القرآن الكريم . و الشاهد على ذلك أنَّ معبد الجُهَني دخل على الحسن
البصري و قال له : يا أبا سعيد إِنَّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ،
و يأخذون أموالهم ، و يقولون إنّما تجري أعمالنا على قضاء اللّه و قدره . فقال له
الحسن البصري : كذب أعداء اللّه. انتهى . و من المعلوم أنَّ الحسن البصري
لم يكن ينكر ما جاء في الكتاب العزيز من أنَّ:  { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي
الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ }(2). و غير ذلك من الآيات التي مضت
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة : ص 174.
(2) سورة القمر : الآيتان 52 ـ 53.
________________________________________


(261)


في الفصل الرابع ، و إنّما ينكر أن يكون القضاء و القدر مبررين لطغيان الطُغاة ،
وجرائم الطغمة الأثيمة من الحُكّام . فبالنتيجة كان معبد و أستاذه الحسن من
دعاة القول بالاختيار ، لا من دعاة منكري القضاء و القدر .  و لمّا كان الأُمويون ،
يرون أنَّ القول بالقضاء و القدر يساوق الجبر و سلب الاختيار ، اتهموا القائلين
به بنفي القضاء و القدر مع أنَّ بين القول بالاختيار و نفي القدر بوناً بعيداً.
ويشهد على ذلك أيضاً أنَّ غيلان يعرب عن عقيدته في محاجته مع
عمر بن عبدالعزيز بالاستشهاد بقوله سبحانه : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا
وَإِمَّا كَفُورًا} ، فالرجل كان يتبنى الاختيار و يكافح الجبر ، لا أنَّه كان ينكر
ما ثبت في الكتاب و السنَّة الصحيحة . كما أنَّه في محاجته مع ميمون بن
مروان أعرب عن عقيدته بقوله : « أشاءَ اللّه أن يعصى؟ » قائلاً بأنَّه ليس هناك
مشيئة سالبة للاختيار جاعلة الإِنسان مجرد متفرّج في مسرح الحياة.
و أظن أنَّ اتهام الرجلين و من جاء بعدهما بالقدرية تارةً ( نفي القضاء
و القدر بالمعنى الصحيح) ، أو بالتفويض و أنّ الإِنسان في غنى عن اللّه تعالى
في أفعاله ، أُخرى ، لم يكن في محله .  فهؤلاء كانوا يكافحون فكرة الجبر
لا نصوص الكتاب و السُّنَّة .  و أمّا فكرة التفويض فإنّما تمخضت و نضجت إثر
إصرار الأمويين على الجبر ، و اتخذته المعتزلة مذهباً في النصف الثاني من
القرن الثاني ، و إلاّ فالمتقدمون عليهم حتى مؤسس الاعتزال واصل بن عطاء
مُبَرُّأون عن فكرة التفويض .
فالقول بالتفويض الذي هو صورة مشوهة للاختيار ، إِنَّما تولد من
إصرار الأُمويين و المتأثرين بهم من أهل الحديث على القول بالجبر من
جهة ، و إصرار هؤلاء الأقدمين على اختيار الإِنسان و حريته في مجال الحياة .
و إلا فإنّه لم يكن من التفويض أثر في كلمات الأقدمين.
و من الأسف أنَّ القول بالجبر قد بقي بين المسلمين بصورة خاصة حتى
في المنهج الذي ابتدعه إمام الأشاعرة، إلى العصور الحاضرة . و المنكر
إنّما ينكر بلسانه ولكنه موجود في المنهج الذي ينتسب إليه.
________________________________________


(262)


و قد كان اليهود القاطنون في شبه الجزيرة العربية خير معين على إشاعة
هذه الفكرة ، بل منهم انبعثت.
نعم هناك رجال من أهل السنَّة و الجماعة ، متحررون عن عقيدة الجبر
و في مقدمهم الشيخ محمّد عبده ، فقد ردّ على من نسب الجبر إلى الكتاب
العزيز أو المسلمين عامة و قال : « إنّ القول بالجبر قول طائفة ضئيلة إنقرضت ،
وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر و الإختيار ، و هو مذهب الجد
و العمل» (1).
ولا يخفى ما في كلام الأستاذ من الملاحظة ؛ فإنّ الأكثرية الساحقة من
أهل السنَّة على مذهب الإِمام الأشعري ، و سيوافيك نصوصه على القول
بالجبر ، فكيف يمكن أن يقال إنَّ الجبر قول طائفة ضئيلة.
وعلى كل تقدير فقد أجاد في هذا البيان ، و أبان القول الحق ، كما
سيوافيك.
الأمر الخامس : رؤوس المجبرة و أقطابها في العصور الإِسلامية
الأولى
1ـ الجهميَّة
اعتبر أصحاب الملل و النحل الطائفة الجهمية (2) أوّل طائفة قالت
بالجبر ، و وصفوها بالجبرية الخالصة ، و كان جهم يخرج بأصحابه فيقفهم
على المجذومين و يقول : « أُنظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا! » ،
إنكاراً لرحمته.  و كان يقول : « لا فِعْلَ و لا عَمَلَ لأحد غير اللّه ، و إنّما تنسب
الأعمال إلى المخلوقين على المجاز» (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  رسالة  « هل نحن مسيرون أم مخيّرون » : ص 11.
(2) نسبة إلى جهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم ، الذي قتله خالد بن عبداللّه القسري
سنة 124 هـ .
(3) الفَرْقُ بين الفِرَقْ : ص 128.
________________________________________


(263)


و قال الأشعري في ( مقالات الإِسلاميين) : « تفرَد جهم بأمور منها :
إنّه لا فعل لأحد في الحقيقة إِلاَّ اللّه وحده ، و إنَّ الناس إنّما تنسب إليهم
أفعالهم على المجاز ، كما يقال تحركت الشجرة ، و دار الفلك ، و زالت
الشمس » (1).
و عرفهم الشّهرستاني بأنّهم يقولون : « إِنَّ الإِنسان لا يقدر على شيء ،
و لا يوصف بالاستطاعة و إنّما هو مجبور في أفعاله ، لا قدرة له ، و لا استطاعة ، و لا
إرادة ، و لا اختيار ، و إنّما يخلق اللّه تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في
سائر الجمادات ، و إذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً » (2).
2ـ النجاريّة
ويليهم في القول بالجبر الطائفة النجارية (3). فقالت : إنَّ أعمال العباد
مخلوقة للّه ، و هم فاعلون ، و إنّه لا يكون في ملك اللّه سبحانه إلاّ ما يريده ، و إنَّ
الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم على الفعل (4).
و عرفهم الشّهرستاني بأنّهم يقولون : إِنَّ الباري تعالى هو خالق أعمال
العباد خيرها و شرها ، حسنها وقبيحها ، و العبد مكتسب لها ، و يثبتون تأثيراً
للقدرة الحادثة ، ويسمّون ذلك كسباً (5).
ولأجل أنَّ النجارية أضافت نظرية الكسب إلى القول بأنَّ اللّه سبحانه
خالق أفعال العباد ، خرجت عن الجبرية الخالصة . و قد تبنّت هذه النظرية
أيضاً الطوائف الأُخرى كما سيوافيك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقالات الإِسلاميين : ج 1، ص 312.
(2) الملل و النحل : ج 1، ص 87 .
(3) هم أصحاب الحسين بن محمّد بن عبداللّه النجار ، و له مناظرات مع النظّام ، توفّي
عام 230 هـ .
(4)  مقالات الإسلاميين : ج 1، ص 283.
(5) الملل و النحل : ج 1، ص 89.
________________________________________


(264)


3ـ الضِّراريّة
ويليهم في تبنّي الجبر ، الطائفة الضِرارية (1). فقالت : إِنَّ أفعال العباد
مخلوقة للّه تعالى حقيقة و العبد مكتسبها . ووافقت المعتزلة بأنَّ الاستطاعة
تحصل في العبد قبل الفعل (2).
و هذه الطائفة تسمّى بالجبرية غير الخالصة أيضاً ، لإِضافتها نظرية
الكسب إلى أفعال العباد.
قال الشهرستاني : « الجَبْر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى
الربّ تعالى . فالجبرية أصناف : فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد
فعلاً و لا قدرة على الفعل أصلاً . و الجبرية المتوسطة هي التي تثبت للعبد
قدرة غير مؤثرة أصلاً . و أمَّا من أثبت للقدرة الحادثة أثراً ما في الفعل ،
وسمّى ذلك كسباً ، فليس بجبري . و المصنفون في المقالات ، عدّوا
النجارية و الضِرارية من الجبرية » (3).
ولكن الحق أنَّ إضافة نظرية الكسب من النجّارية و الضِّرارية ، و من
الأشاعرة تبعاً لهم لا تسمن و لا تغني من جوع ، و لا تخرج القائل من القول
بالجبر قدر شعرة ، و إنّما هو غطاء و تلبيس على القول بالجبر . و سيوافيك
بحث الكسب بتفاسيره المختلفة من أئمة الأشاعرة . و يكفي في عد منهج
الأشعري منهجاً جبرياً ، ما ذكره في (الإِبانة) و (مقالات الإِسلاميين) عند
بيان عقيدة أهل السنَّة التي هي عقيدته ( بعد رجوعه عن الاعتزال و التحاقه
بمنهج أهل الحديث ) ، يقول : « و أقروا بأنّه لا خالق إلاَّ اللّه ، و أنَّ سيئات
العباد يخلقها اللّه ، و أنّ أعمال العبد يخلقها اللّه عزّوجلّ . و أنَّ العباد لا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  هم أصحاب ضِرار بن عمرو . و قد ظهر في أيام واصل بن عطاء ، و قد ألف قيس بن المعتمر
كتاباً في الردّ على ضرار سمّاه: « كتاب الرّد على ضِرار » .
(2) الملل و النحل : ج 1، ص 90 و 91. و مقالات الإسلاميين :  ص 129.
(3) الملل و النحل : ج 2، ص 85 و 86.
________________________________________


(265)


يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً» (1).
فترى أنَّ هذه الجمل لا تفترق عمَّا ذكره الجهمية و الطائفتان
الأُخريان ، و سيوافيك نظرية الإِمام الأشعري بأدلتها و ملاحظاتها.


***


ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقالات الإسلاميين : ج 1، ص 321.

 

 

أضف تعليق

العدل الإلهي

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية