الشفاعة وعلماء الإسلام

البريد الإلكتروني طباعة

الشفاعة أصل من أُصول الإسلام

أجمع العلماء على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلين على ذلك بقوله سبحانه : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (١).

وبقوله سبحانه : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٢).

وفسّرت الآيتان بالشفاعة ، فالمقام المحمود هو مقام الشفاعة ، والذي أُعطي للنبي هو حق الشفاعة الذي يرضيه.

ولما كانت الإحاطة بمفاد الآيتين تتوقف على البحث عن : معنى الشفاعة وأدلّتها ، وحدودها ، والتعرّف على الشفعاء ، ناسب أن نبحث عن الشفاعة بالإسهاب ـ وإن كان الهدف الأسمى هو التعرّف على إحدى صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كونه شفيعاً يوم القيامة ـ فنقول :

اتفقت الأمّة الإسلامية على أنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق به الكتاب الكريم ، وصرّحت به السنّة النبوية والأحاديث عن العترة الطاهرة.

ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين ، وان اختلفوا في معناها وبعض خصوصياتها. فذهب الإمامية والأشاعرة إلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وذهبت المعتزلة إلى خلاف ذلك قائلين : بأنّ شفاعة رسول الله للمطيعين ، دون العاصين ، وأنّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين (3).

وإلى ذلك يرجع أيضاً اختلافهم في معنى الشفاعة ، هل هي بمعنى طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب كما ذهبت إليه الوعيدية ؟ أو إسقاط عقاب الفساق من الأمّة كما ذهب إليه غيرهم (4) ؟ فانّ مآل النزاعين أمر واحد ، فتارة تطرح المسألة بلحاظ المشفوع له ، فيقال : هل هي للمطيعين أو الخاطئين ؟ وأُخرى بلحاظ نفس معنى الشفاعة ، هل هو طلب زيادة المنافع أو إسقاط العقاب ؟

وعلى كل تقدير ، فالشفاعة بإجمالها موضع اتفاق بين الأمّة الإسلامية ، ولا بأس أن نذكر بعض نصوص علماء الإسلام في هذا البحث حتى يكون القارئ على بصيرة من الأمر ، فنقول :

١. لقد أشار أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي المتوفّى عام ٣٣٣ ه‍ في تفسيره ، إلى الشفاعة المقبولة ، واستدل لها بآية : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (5) وقد أورد قبلها قوله سبحانه : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (6).

وقال ما حاصله : إنّ الآية الأولى وإن كانت تنفي الشفاعة ، ولكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام وهي التي تشير إليها هذه الآية (7).

٢. قال تاج الإسلام أبو بكر الكلابادي ( المتوفّى عام ٣٨٠ ه‍ ) : أجمعوا على أنّ الإقرار بجملة ما ذكر الله سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي في الشفاعة واجب لقوله تعالى : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (8) ولقوله : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (9) وقوله : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (10).

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (11).

٣. قال المفيد : اتفقت الإمامية على أنّ رسول الله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وأنّ أمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته ، وأنّ أئمّة آل محمد يشفعون كذلك ، وينجي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ، ووافقهم على شفاعة الرسول ، المرجئة ، سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعمت أنّ شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمطيعين دون العاصين ، وانّه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين (12).

وقال في موضع آخر : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته من الشيعة خاصة فيشفّعه الله عزّ وجلّ ، ويشفع أمير المؤمنين في عصاة شيعته فيشفّعه الله عزّ وجلّ ، وتشفع الأئمّة في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفّعهم الله ، ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفّعه الله ، وعلى هذا القول إجماع الإمامية ـ إلّا من شذ منهم ـ وقد نطق به القرآن ، وتظاهرت به الأخبار قال الله تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم وعلى الفائت لهم ممّا حصل لأهل الإيمان : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (13) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع علي عليه السلام فيشفّع ، وأنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه » (14).

٤. وقال الشيخ الطوسي : حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع ، والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيشفّعه الله تعالى ويسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصلاة لما روي من قوله عليه السلام : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وإنّما قلنا لا تكون في زيادة المنافع ، لأنّها لو استعملت في ذلك ، لكان أحدنا شافعاً في النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سأل الله أن يزيده في كرامته ، وذلك خلاف الإجماع ، فعلم بذلك أنّ الشفاعة مختصة بما قلناه ، والشفاعة ثبتت عندنا للنبي وكثير من أصحابه ولجميع الأئمّة المعصومين وكثير من المؤمنين الصالحين (15).

٥. يقول القاضي عياض : مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها سمعاً ، بصريح الآيات ، وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنّة عليها ، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجوا بقوله تعالى : ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وأمثاله ، وهي في الكفّار ، وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات ، فباطل ، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم ، وإخراج من استوجب النار (16).

٦. قال الإمام أبو حفص النسفي : والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة (17).

٧. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفية هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف (18).

٨. قال الطبرسي في تفسيره : إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة ، وان اختلفوا في كيفيتها ، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين ، وقالت المعتزلة : هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين ، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين ، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين ، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم ـ مرفوعاً إلى النبي ـ أنّه قال : « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع علي عليه السلام فيشفّع ، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون ، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (19).

وقال أيضاً : أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر ، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه ، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه ، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة ، فقالت المعتزلة ومن تابعهم : يشفع لأهل الجنّة ليزيد الله درجاتهم. وقال غيرهم من فرق الأمّة : بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى الله دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته (20).

٩. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (21) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت : نعم ، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة (22).

١٠. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها ، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة الله ، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم ، وليس في الآية دليل لمنكريها ، لأنّ قوله : ( يَوْماً ) في قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً ، ولا شك أنّ في القيامة مواطن ، يومها معدود بخمسين ألف سنة ، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة ، وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيد البشر ، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها ، منها قوله تعالى : ( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (23) مع قوله : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (24) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ، ووقتين متغايرين ، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له ، وكذلك الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، ورزقنا الله الشفاعة » (25).

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (26) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و ( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به ، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل (27).

وقال صاحب الانتصاف : أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة ، وهم جديرون أن يُحرموها ، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى ، وما أنكرها القدرية إلاّ لإيجابهم مجازاة الله للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية ، إيجاباً عقلياً ـ على زعمهم ـ فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة (28).

وعلى أي تقدير ، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلامية على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

١١. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (29) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار ، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار ، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم (30).

١٢. قال الفتّال النيسابوري ـ الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري ـ : لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة ، إلاّ أنّ أصحاب الوعيد ـ وهم المعتزلة ـ قالوا : مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها : إسقاط المضار والعقوبات (31).

١٣. يقول الرصاص ـ الذي هو من علماء القرن السادس الهجري ـ في كتابه [ مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم ] : إنّ شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة ثابتة قاطعة (32).

١٤. قال الرازي في تفسير قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (33).

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم شفاعة في الآخرة ، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه ، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب ، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة ، واتفقوا على أنّها ليست للكفار (34).

١٥. قال المحقق الطوسي : والإجماع على الشفاعة ـ أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ـ وقيل لزيادة المنافع ، ويبطل منّا في حقه صلى الله عليه وآله وسلم (35).

يريد بقوله : « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي ، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب ، والتالي باطل ، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له ، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (36).

١٦. وقال العلّامة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي : اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه قوله تعالى : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة ، واختلفوا فقالت الوعيدية : إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق (37).

ويقول أيضاً في كتابه [ نهج المسترشدين ] : يجوز العفو عن الفاسق ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم ثبت له الشفاعة ، وليست في زيادة المنافع ، وإلاّ لكنا شافعين فيه ، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة (38).

١٧. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي : للنبي في القيامة ثلاث شفاعات ـ إلى أن قال ـ وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار ، وهذه الشفاعة له صلى الله عليه وآله وسلم ولسائر النبيّين والصدّيقين ، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها ويشفع في من دخلها.

ثم قال : وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم (39).

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة ، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف ، وهو إسقاط العقوبة ، أهل ضلال وبدعة ، وقال : وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة (40).

١٨. وقال ابن كثير الدمشقي ـ في تفسير قوله سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (41) ـ : هذا من عظمته وجلاله ، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده ، إلاّ بإذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع ، واشفع تشفّع ، قال : فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة » (42).

١٩. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد : اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها (43).

٢٠. قال الفاضل المقداد : في شرحه منهج المسترشدين : وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه : الأوّل : الإجماع ، والثاني قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي (44).

٢١. قال المحقق الدواني : الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياء عليهم السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (45). (46)

٢٢. قال الشعراني في المبحث السبعين : إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع ، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثم نقل عن جلال الدين السيوطي : انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات ، وله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة ثمان شفاعات ، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها (47).

٢٣. قال العلّامة المجلسي : أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين ، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة ، بل للأمم الأخرى ، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها ، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل ، قائلين : بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب ، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب ، وان كانت ذنوبهم من الكبائر ، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن الله لهم بذلك (48).

٢٤. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي : وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد ، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول : اللهم شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين ، أو ملائكتك ، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. إلى أن قال : إنّ الشفاعة حق في الآخرة ، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته ، بل وغيره من الشفعاء ، إلاّ أنّ رجاءها من الله فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع الله فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة ، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها ، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلاّ من الله لا من الشفعاء (49).

٢٥. وقال السيد شبّر : اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته ، بل في سائر الأمم الماضين ، بل ذلك من ضروريات الدين ، قال الله تعالى : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها ، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة : أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة : على أنّها لا تكون إلاّ في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع (50).

٢٦. وقال الشيخ محمد عبده : ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة ـ عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » ـ ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي ، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه الله تعالى ، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا ، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين ، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه الله تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا (51).

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده ـ مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن ـ انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء الله مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه ، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة ـ كما هو دأبه في سائر المسائل ـ ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين ، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية ، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية ، ومع ذلك فالعلم عند الله سبحانه. اللهم (52) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة ، التي هي دون شأن الأستاذ ، وهي :

١. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة ، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

٢. الشفاعة لا تتحقق إلاّ بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع ، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغيّر علمه بما كان أراده ، أو حكم به ، كأن كان قد أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

٣. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات (53).

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال ، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها ، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

٢٧. وقال السيد سابق : المقصود بالشفاعة سؤال الله الخير للناس في الآخرة ، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب ، ومنها الشفاعة الكبرى ، ولا تكون إلاّ لسيدنا محمد رسول الله فإنّه يسأل الله سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب الله له فيغبطه الأوّلون والآخرون ، ويظهر بذلك فضله على العالمين ، وهو المقام المحمود الذي وعد الله به في قوله سبحانه : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها ، وقد ذكر بعض شروط قبولها (54).

٢٨. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي : إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين ، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً ، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية ٢٢ ، والمؤمن الآية ١٨ ، والزمر الآية ٤٤ ، والمدثر الآية ٤٨ ، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى : ( إِلا بِإِذْنِهِ ) ، ( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ، ( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ، ( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ، ( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) ، ( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ، ( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ، ( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) ، كما في سورة البقرة الآية ٢٥٦ ، ويونس الآية ٦ ، ومريم الآية ٩٠ ، وطه الآية ١٠٨ ، والأنبياء الآية ٢٩ ، وسبأ الآية ٢٢ ، والزخرف الآية ٨٦ ، والنجم الآية ٢٧. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا (55).

٢٩. قال الدكتور سليمان دنيا : والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (56).

٣٠. قال الحكيم المتألّه العلّامة الطباطبائي : إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه ، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثم ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات (57).

٣١. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ : وقد أعطى الله الشفاعة لنبيه ولسائر الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين ، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال : ( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (58) إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده ، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء ، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة (59).

٣٢. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي : يستفاد من القرآن الكريم أنّ الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلاّ أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال الله تعالى : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ـ إلى أن قال ـ : والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة (60).

هذا نزر من كثير ، وغيض من فيض ، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام ـ من الفريقين ـ من هذه المسألة الهامة ، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد ، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية (61) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان ، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

٣٣. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه : الشفاعة هي السؤال في التجاوز عن الذنوب ، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من الله التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين ، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلاّ تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس ، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة ، فذكر الشفاعة ثم قال : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى : ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه ، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية (62).

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء ، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة ، حيث قال : وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر ، غير أنّه ليس لنا إلاّ أن نطلبها من الله سبحانه حيث قال : فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان ، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلاّ الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية ، وليس من  الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

٣٤. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها ، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة ، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة ، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده ، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال : ـ واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً ، فبذورها العلم ، ونباتها العمل ، وثمرها النجاة في الآخرة ، فالأنبياء عليهم السلام علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور ، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء ، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة ، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة (63).

وقد نسب هذا المقال إلى محيي الدين بن العربي ، والإمام الغزالي ، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته ، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية ، والثانية بالشفاعة العملية ، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة ، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة ، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف ، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث الله سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة ، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية ، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب ، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين ، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات ، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.


الهوامش

1. الضحى : ٥.

2. الإسراء : ٧٩.

3. أوائل المقالات : ١٤ ـ ١٥.

4. كشف المراد : ٢٦٢.

5. الأنبياء : ٢٨.

6. البقرة : ٤٨.

7. تفسير الماتريدي المعروف بتأويلات أهل السنّة : ١٤٨.

8. الضحى : ٥.

9. الإسراء : ٧٩.

10. الأنبياء : ٢٨.

11. التعرف لمذهب أهل التصوف : ٥٤ ـ ٥٥ ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.

12. أوائل المقالات : ١٥.

13. الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

14. أوائل المقالات : ٥٢ ـ ٥٣.

15. التبيان : ١ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

16. بحار الأنوار : ٨ / ٦٢ ، وشرح صحيح مسلم : ٢ / ٥٨.

17. العقائد النسفية : ١٤٨.

18. العقائد النسفية : ١٤٨.

19. مجمع البيان : ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

20. مجمع البيان : ٢ / ٨٣.

21. البقرة : ٤٨.

22. الكشاف : ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة ، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين ، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.

23. المؤمنون : ١٠١.

24. الصافات : ٢٧.

25. الانتصاف بهامش الكشاف : ١ / ٢١٤ ، المطبوع عام ١٣٦٧.

26. البقرة : ٢٥٤.

27. الكشاف : ١ / ٢٩١.

28. الانتصاف بهامش الكشاف : ١ / ٢٩١.

29. البقرة : ٤٨.

 30. أنوار التنزيل وأسرار التأويل : ١ / ١٥٢.

31. روضة الواعظين : ٤٠٦.

32. مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.

33. البقرة : ١٢٣.

34. مفاتيح الغيب : ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

35. وقوله يبطل أي : لا يقع منّا في حق النبي.

36. شرح تجريد الاعتقاد : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، طبعة صيدا.

37. شرح تجريد الاعتقاد : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، طبعة صيدا.

38. نهج المسترشدين : ٢٠٥.

39. مجموعة الرسائل الكبرى : ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

40. الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى : ١ / ٤٨١.

41. البقرة : ٢٥٦.

42. تفسير ابن كثير : ١ / ٣٠٩.

43. شرح التجريد للقوشجي : ٥٠١.

44. إرشاد الطالبين : ٢٠٦.

45. طه : ١٠٩.

46. شرح العقائد العضدية : ٢ / ٢٧٠.

47. اليواقيت والجواهر : ٢ / ١٧٠.

48. راجع بحار الأنوار : ٨ / ٢٩ ـ ٦٣ ، وحق اليقين : ٤٧٣.

 49. راجع الهدية السنية الرسالة الثانية : ٤٢.

50. حق اليقين : ٢ / ١٨٦.

51. تفسير المنار : ١ / ٣٠٧.

52. نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة : ٤٦ ـ ٤٧ يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

53. تفسير المنار : ١ / ٣٠٧.

54. العقائد الإسلامية : ٧٣. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

55. آلاء الرحمان : ١ / ٦٢.

56. محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين : ٢ / ٦٢٨.

57. الميزان : ١ / ١٥٦.

58. الزمر : ٤٤.

59. التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية : ٢٠٦ ، ط. مصر.

60. البيان : ١ / ٣٤٢.

61. مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول : إنّه يجوز أن يقال : اللّهم شفّع رسول الله في حقي ، ولا يجوز أن يقال : اشفع يا رسول الله في حقي ، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

62. دائرة معارف القرن الرابع عشر : ٥ / ٤٠٢ ، مادة شفع.

63. الجواهر في تفسير القرآن الكريم : ١ / ٦٤ ـ ٦٥ ، بتلخيص منا.

 

مقتبس من كتاب مفاهيم القرآن الجزء الرابع

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية