مشكلة الاثنينية في الجزاء مع وحدة الذنب

البريد الإلكتروني طباعة

الإشكال الأول :

إنّ « نفس الذنب » الذي قد يرتكبه المؤمن يرتكبه الكافر ، وإنّ الله سبحانه وتعالى قد وضع سُنّة العقاب والثواب جزاءً لأفعال عباده ، وإنّ رفع العقاب عن المؤمنين المذنبين بواسطة الشفاعة ، وإنزالهِ على غيرهم من الكافرين ، مُخلّ بعدالته ( سبحانه وتعالى عن ذلك عُلوّاً كبيراً ) وهذا الإشكال يمكن أن نسميه ب‍ « مشكلة الاثنينية في الجزاء مع وحدة الذنب ».

والجواب عليه :

لابدّ من بيان : هل الذنب من المؤمن والكافر واحد ؟ وهل أنّ قبول الله لشفاعة الشافعين بالمؤمن المذنب وحرمان الكافر منها اثنينية في الجزاء أم لا ؟

لا ريب أنّ الذنب من أيّ شخص ولأيّ شخص كان يقتضي استحقاق الذمّ والعقاب ، كما أنّ الإطاعة من أيّ شخص كان ولأيّ شخص كانت تقتضي الثواب والمدح ، وإلّا لم يبق فرق بين المطيع والعاصي.

إلّا أنّ الله سبحانه فرّق ـ وكلامنا فعلاً في المعصية ـ بين ما إذا كانت من مؤمن به ، وما إذا كانت من كافر ، فجعل الشفاعة للمؤمنين العصاة كما فتح لهم باب التوبة ، وأمّا الكافرون فإنّ نيلهم الشفاعة أو قبول التوبة من الذنوب معلّق على أصل الإيمان بالله عزَّ وجل ... تماماً كالحسنات ، فإنّهم ما لم يؤمنوا لا يثابون عليها أبداً.

فصحيحٌ أنّ « الكذب » مثلاً الصادر من المؤمن والصادر من الكافر واحد ، إلّا أنهما يختلفان حكماً ، وقد دلّت على هذا الاختلاف الأدلة الواردة من قِبَل نفس المولى الذي اعتبر الكذب معصيةً له ، وهي الأدلّة التي فرّقت بين المؤمن والكافر.

فهذا الإشكال إنّما نشأ ـ في الحقيقة ـ من توهّم وحدة الذنب ، وقد بيّنا أنّه يختلف ويتعدد باختلاف صاحب الذنب ، وبهذا اللحاظ يختلف الحكم بجعل من المولى نفسه.

إنّ القرآن الكريم ، في آياته الشريفة ، قد صنّف موقف الناس يوم القيامة إلى عدّة أصناف ، فهناك مؤمنون ، وهناك كافرون.

والكافرون هم أولئك الذين لم يؤمنوا بالله في الحياة الدنيا أو أشركوا بعبادته أحداً ، ومثل هؤلاء لا تنالهم الشفاعة بصريح القرآن : ( ... أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ... ) (١).

أو قوله تعالى : ( ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ... ) (٢). وواضح أنّ الخلود في النار يتنافى مع مفهوم الشفاعة ..

كما نجد آيات أُخرى تؤكد على ذلك.

إنّ ما قرّره الله سبحانه وتعالى من جزاء للمؤمنين والكافرين هي من مختصاته سبحانه وتعالى ، وإنّ الوعد بالثواب للمؤمنين والوعيد بالعقاب للكافرين والمشركين هو أمر ثابت لا يتخلف عنه الحكم الإلهي ، حيثُ لم ترد في كلِّ القرآن الكريم آية واحدة تدلّ على أنّ للكافرين فرصة لنيل الشفاعة يوم القيامة بل هم خالدون في النار.

ومن هنا فإنَّ حرمان الكافرين من الشفاعة يوم القيامة ليس تخلفاً عن الحكم الإلهي ، بل هو وفاء للوعيد الذي سبق أنْ أخبر به الله سبحانه وتعالى الكافرين على لسان أنبيائه ورُسله.

أما المؤمن فإنّه قد فتح له باب التوبة ، فقد يرتكب ذنباً « فيتوب منه » ، وتوبته تصحُّ بالندم على ارتكاب الفعل وبالتالي تركه وعدم العودة إليه ؛ لأنّ الندم على ارتكاب الذنب يستدعي ترك العودة إليه ، وإلّا فإنّ العودة إلى الذنب تعني الإصرار عليه ، فإذا مات مذنباً أمكن أن يغفر له بالشفاعة التي وعدها الله للمؤمنين ، وعلى هذا الأساس يكون قبول الشفاعة في المؤمنين المذنبين وعدم قبولها في الكافرين ، وفاء للوعد الإلهي الذي جاء على لسان الأنبياء والمرسلين.

وهنا نقدم نماذج من القرآن الكريم لكلٍّ من الوعدين :

قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ ) (3).

وقوله تعالى : ( ... وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ... ) (4).

وهاتان الآيتان توضحان بجلاء حقيقة الوعد الإلهي لمن مات وهو كافر ، وهو الخلود في النار ، ومعلوم أنّ الخلود في النار يتناقض تماماً مع مفهوم الشفاعة.

وقوله تعالى : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) (5).

وقوله تعالى : ( ... فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (6).

وهناك آيات كثيرة أُخرى تحدثت عن التوبة.

وبعد هذه الشواهد نقول ردّاً على الإشكال المتقدم ، إنّ الاثنينية في الجزاء إنّما جاءت بتبع الإثنينية في الذنب ، ويتلخص الجواب في عدم الوحدة في الذنب ، فإنّ المولى قرّر وأخبر منذ البدء عن الفرق في تعامله بين المؤمن والكافر بالنسبة إلى الذنوب الصادرة منهما ، وعلى أساس ذلك كان الكافر محروماً من الشفاعة في الآخرة بخلاف المؤمن فقد تناله ، كما تقبل التوبة من ذنوبه إذا تاب. فكان جزاء كلٍّ منهما في الآخرة مطابقاً لما قرّره وأخبر به الناس على لسان الأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام.

وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّ شفاعته لا تنال من أشرك بالله عزَّ وجل وإنها تنال غير المشركين ، فقد روى أبو ذر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم صلّى ليلة فقرأ آية حتّى أصبح ، يركع بها ويسجد بها : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (7) ، فلما أصبح قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ... إني سألت ربي عزَّ وجل الشفاعة لاُمتي فأعطانيها فهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله عزَّ وجل شيئاً » (8).

وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : « شفاعتي لمن شهد أنْ لا إله إلاّ الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه ... » (9).

 

الهوامش

1. الزمر ٣٩ : ٤٣.

2. البقرة ٢ : ٢٥٧.

3. البقرة ٢ : ١٦١ ـ ١٦٢.

4. البقرة ٢ : ٢١٧.

5. النساء ٤ : ١٧.

6. المائدة ٥ : ٣٩.

7. المائدة ٥ : ١١٨.

8. مسند أحمد ٥ : ١٤٩.

9. مسند أحمد ٢ : ٣٠٧ و ٥١٨.

 

مقتبس من كتاب الشفاعة حقيقة إسلاميّة

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية