ما يخرج عن الإيمان

طباعة

ما يخرج عن الإيمان

المؤمن هو الذي يسير بخطىٰ ثابتة علىٰ درب الإيمان الواضح المعالم ولكن قد يتعرض لعواصف هوجاء من الأهواء والشبهات فتخرجه عن جادّة الصواب ، وتسقطه من قمة جبل الإيمان إلىٰ وادي الكفر السحيق ، وعندئذٍ يصبح فقيراً من الناحية المعنويّة بعد أن كان غنيّاً بإيمانه ، سأل زيد بن صوحان العبدي أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً : « .. فأيُّ فقر أشدّ ؟ » قال عليه السلام : « الكفر بعد الإيمان » (1).

وسقوط الإنسان في حضيض الكفر بعد الايمان إنّما يتم علىٰ مراحل وخطوات ، لا سيّما وأنّ الشيطان يتّبع مع الإنسان سياسة : الخطوة خطوة ! لذلك حذر تعالىٰ المؤمنين من اتّباع خطواته قائلاً : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ .. ) (2) ، وقال أيضاً : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) (3).

فشغل الشيطان الشاغل هو إضلال الإنسان بشتىٰ الحيل والسبل ولا يتمكّن من إيقاع الطلاق فجأة بين الإنسان والإيمان لذلك يسعىٰ للوصول إلىٰ هدفه التضليلي علىٰ مراحل.

والله تعالىٰ يبغض ذلك الإنسان الذي يلقي بزمام أمره إلىٰ عدوّه الشيطان حيثُ السقوط التدريجي والهلاك ، ويؤيّده الأثر الوارد عن سلمان الفارسي قدّس سرّه أنّه قال : « إذا أراد الله عزَّ وجل هلاك عبد نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلّا خائناً مخوناً فإذا كان خائناً مخوناً نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت من الأمانة لم تلقه إلّا فظّاً غليظاً ، فإذا كان فظاً غليظاً نزعت منه ربقة الإيمان ، فإذا نزعت منه ربقة الإيمان لم تلقه إلّا شيطاناً ملعوناً » (4).

المبحث الأول : عوامل زوال الإيمان :

هناك مجموعة من العوامل تسهم في إخراج الإنسان عن طريق الإيمان السوّي ، يمكن الإشارة إلىٰ أبرزها بالنقاط الآتية :

أولاً : عدم معرفة الأئمّة : لمّا كان الأئمّة عليهم السلام هم السبيل إلىٰ الله تعالىٰ ، والمسلك إلىٰ رضوانه وحججه علىٰ عباده لذا وجبت معرفتهم ومحبّتهم ، ويؤيّد ذلك ما في آية المودة والحديث المتواتر : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة » (5) ومن هنا قال الإمام الباقر أو الصادق عليهما السلام : « لا يكون العبد مؤمناً حتّىٰ يعرف الله ورسوله والأئمّة كلّهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له » (6). وقال الإمام الباقر عليه السلام في بيان قوله تعالىٰ : ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) « الذي لا يعرف الإمام » (7).

فالمؤمن الكامل في إيمانه يجب أن يعرف إمام زمانه وبدون هذه المعرفة الواجبة عليه يصبح ضالاً كالحمل الضائع الذي يسير بلا راع نحو المجهول ، عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : قلتُ له ما أدنىٰ ما يكون به الرجل ضالاً ؟ قال عليه السلام : « أن لا يعرف من أمر الله بطاعته ، وفرض ولايته ، وجعله حُجَّته في أرضه ، وشاهده علىٰ خلقه. قلتُ : فمن هم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : الّذين قرنهم الله بنفسه وبنبيّه فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ .. ) » قال : فقبّلت رأسه وقلتُ : أوضحت لي وفرّجت عنّي وأذهبت كلَّ شيء كان في قلبي (8).

فكلّ إنكار للأئمّة عليهم السلام ـ إذن ـ يجرّ إلىٰ هاوية الكفر كما أنّ إدعاء الإمامة بغير وجه حقّ يعتبر من الموارد التي تورد صاحبها الكفر ، عن الفضيل ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « من ادّعىٰ الإمامة وليس من أهلها فهو كافر » (9).

ثانياً : الغلو : وهو من العوامل الأساسيّة التي تسهم في خروج الإنسان عن حضيرة الإيمان ، عن سعيد بن جبير قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « ما غلا أحد من القدرية إلّا خرج عن الإيمان » (10). وعن بريد العجليّ ، قال : قلتُ لأبي عبدالله عليه السلام ما أدنىٰ ما يصير به العبد كافراً ؟ قال : فأخذ حصاة من الأرض ، فقال عليه السلام : « أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرء ممّن خالفه علىٰ ذلك ويدين الله بالبراءة ممّن قال بغير قوله ، فهذا ناصب قد أشرك بالله وكفر من حيث لا يعلم » (11).

ثالثاً : العصبية : الإيمان يعني إلتزام الحق ولا يجتمع مع العصبية التي ضمن ما تعنيه من إيثار مصالح القرابة والقوم علىٰ قواعد الحقّ والعدالة عند التعارض بينهما وعليه فمن تعصّب فقد انقلب علىٰ عقبيه عن الإيمان وصُنّف مع أعراب الجاهليّة ، قال الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة » (12) ، كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام : « من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه » (13).

هذا ، وللعصبية معنىً آخر غير مذموم وغير مخرج عن الإيمان كأن يحبّ الإنسان قومه بحيث لا يؤدّي ذلك إلىٰ الظلم والعدوان ، وقد وضع الإمام زين العابدين عليه السلام المقياس الصحيح للتفريق ، فقال عليه السلام : « العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرىٰ الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن يعين قومه علىٰ الظلم » (14).

رابعاً : ضرب القرآن بعضه ببعض : المعروف أنّ البعض يتلاعب بمعاني القرآن حسب أهواءه ومصالحه فيضرب بعضه ببعض ليثبت حجّته ويسكت خصمه تجنياً علىٰ الحقّ والحقيقة ، وتشويهاً لمعاني ومفاهيم القرآن الصافية ، وهذا هو عين الجحود والكفر بالله تعالىٰ ، عن القاسم بن سليمان عن أبي عبدالله عليه السلام : « ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر » ، وسألت محمّد بن الحسن ; عن معنىٰ هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اُخرىٰ (15) ، بمعنىٰ التمويه علىٰ الآخرين بلا دليل أو برهان.

خامساً : الطمع : وهو أحد العوامل النفسيّة التي تسهم في إخراج الإنسان من بوتقة الإيمان ، قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : « ما ثبات الإيمان ؟ » قال عليه السلام : « الورع ، قيل : فما زواله ؟ قال : الطمع » (16).

المبحث الثاني : مرتكب الكبيرة :

بعد أن استعرضنا أبرز العوامل التي تخرج الإنسان من سكة الإيمان ، نجد من المناسب التطرق إلىٰ مسألة مرتكب الكبيرة فقد اختلف أهل القبلة فيمن أقرَّ بالشهادتين ، وأتىٰ بالذنوب الكبيرة كالقتل وشرب الخمر وما إلىٰ ذلك. هل هو كافر مخلد في النار ، أو أنّه مؤمن فاسق يعاقب علىٰ الذنب بما يستحق ، ثمّ يدخل الجنّة ؟ ذهب الخوارج إلىٰ كفر مرتكب الكبيرة ، وقال الإماميّة والأشاعرة وأكثر الأصحاب والتابعين إلىٰ إنّه مؤمن اتّصف بالفسق ، وأحدث المعتزلة قولاً ثالثاً وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين ، أيّ لا هو بالكافر ، ولا بالمؤمن. وقد أورد الشيخ المفيد في هذا الصدد شاهداً قرآنيّاً علىٰ أنّ كبائر الذنوب لا تخرج عن الإيمان وذلك انّه لا خلاف أنّ ما صنعه أخوة يوسف عليه السلام بأخيهم من إلقائه في غيابة الجبّ وبيعه بالثمن البخس وكذبهم علىٰ الذئب وما أوصلوه إلىٰ قلب أبيهم نبيّ الله يعقوب من الحزن كان كبيراً من الذنوب. وقد قصّ الله قصّتهم وأخبر عن سؤالهم أباهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم فإن كان الحسد لا يخرج عن الإيمان ، فالكبير من الذنوب أيضاً لا يخرج عن الأديان (17).

واستدلّ العلّامة الحلي في شرح التجريد علىٰ صحّة القول بأنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق لا يخلد في النار ، استدلّ : « بأنّه لو خلد في النار للزم أن يكون من عبدَ الله مدّة عمره ثمّ عصىٰ آخر عمره معصية واحدة ، مع بقائه علىٰ إيمانه ، لزم أن يكون هذا مخلداً في النار ، تماماً كمن أشرك بالله مدّة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء » (18).

وليس من شكّ أنّ سيّئة واحدة لا تحبط جميع الحسنات ، بل العكس هو الصحيح ، لقوله تعالىٰ : ( .. إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ .. ) (19).

والباحث المتجرّد عن الهوىٰ والغرض ، يلاحظ أنّ رأي أهل البيت عليهم السلام حول هذه المسألة الحسّاسة أكثر صوابية وينسجم مع روح الإسلام السمحة ، ويتلائم مع رحمة الله الواسعة. فالإنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للخطأ ، لذلك فتح الله تعالىٰ أمامه باب التوبة علىٰ مصراعيه ، عن أبي عبدالله عليه السلام : « إنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها » (20).

وعليه فآل البيت عليهم السلام لا يؤيسون الناس من رحمة الله ويدخلونهم في دائرة الكفر بمجرّد إرتكاب الذنب وإن كان كبيراً ، فهناك ربّ رؤوف يتصف بالرحمة والمغفرة أقسم أن لا يُبقي أحداً في النار من الموحّدين.

وتزداد هذه الرؤية وضوحاً وإشراقاً من الأمل ، بما ورد عن أبي عبدالله عليه السلام : « ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة ، فيقول : وهو نادم ، استغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم بديع السماوات والأرض ذي الجلال والاكرام وأسئله أن يصلّي علىٰ محمّد وآل محمّد وأن يتوب عليَّ إلّا غفرها الله عزَّ وجلَّ له » (21).

وعنه عليه السلام : « .. قد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً ولا يكون مؤمناً حتّىٰ يكون مسلماً ، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان ، فإذا أتىٰ العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهىٰ الله عزَّ وجلَّ عنها كان خارجاً من الإيمان ، ساقطاً عنه اسم الإيمان وثابتاً عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلىٰ دار الإيمان ولا يخرجه إلىٰ الكفر إلّا بالجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا حلال ودان بذلك ، فعندها يكون خارجاً من الإسلام والإيمان داخلاً في الكفر ، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثمَّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثاً فأُخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلىٰ النار » (22).

نعم الذي يحرم من مغفرة الله هو الذي لم تعرف له توبة قطّ بعد كفره ومات علىٰ جحوده وإنكاره للحقّ تبارك وتعالىٰ ، وكذلك من كفر بعد إيمانه وتاب ولكن توبته لم تكن توبة نصوحة إذ سرعان ما أعاد إلىٰ حضيض الكفر وازداد كفراً قال تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ) (23).

الهوامش

1. معاني الأخبار : ١٩٨.

2. سورة النور ٢٤ : ٢١.

3. سورة البقرة ٢ : ٢٠٨.

4. اُصول الكافي ٢ : ٢٩١ / ١٠ كتاب الإيمان والكفر.

5. صحيح البخاري ٥ : ١٣ باب الفتن ، وصحيح مسلم ٦ : ٢١ ـ ٢٢ / ١٨٤٩.

واُصول الكافي ١ : ٣٠٣ / ٥ ، وكمال الدين ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣ / ١٠ و ١١ و ١٢ و ١٥ باب الإمامة والتبصرة علىٰ اختلافٍ في اللفظ ولا بدَّ أن يكون المراد في جميع الألفاظ هو مادلّ عليه اللفظ المذكور أعلاه.

6. اُصول الكافي ١ : ١٨٠ / ٢.

7. المصدر السابق ١ : ١٨٥ / ١٣.

8. معاني الأخبار : ٣٩٤. والآية من سورة النساء ٤ : ٥٩.

9. ثواب الأعمال : ٢٥٥.

10. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، للصدوق : ٢٥٤.

11. معاني الأخبار : ٣٩٣.

12. اُصول الكافي ٢ : ٣٠٨ / ٣ كتاب الإيمان والكفر.

13. المصدر السابق : ٣٠٧ / ١.

14. اُصول الكافي ٢ : ٣٠٨ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

15. معاني الأخبار : ١٩٠.

16. الاختصاص : ٣١.

17. الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ١١ منشورات مكتبة الداوري ١٣٩٦ هـ ط ٤.

18. اُنظر التفسير الكاشف ، للشيخ محمّد جواد مغنية ١ : ١٣٩.

19. سورة هود ١١ : ١١٤.

20. اُصول الكافي ٢ : ٤٣٦ / ١٣ كتاب الإيمان والكفر.

21. المصدر السابق : ٤٣٨ / ٧.

22. اُصول الكافي ٢ : ٢٧ ـ ٢٨ / ١ كتاب الإيمان والكفر.

23. سورة النساء ٤ : ١٣٧.

مقتبس من كتاب : [ الإيمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع ] / الصفحة : 69 ـ 76