هل بايع علي أبا بكر اجتهاداً أم عصمة ؟ إذا كان اجتهاداً معناه أنّه أخطئ ، وبذلك تبطل العصمة ، وإذا كان عصمة معناه أنّه لم يخطئ ، ونفّذ الوحي الذي هو من عند الله الذي يأمره فيه بمبايعة أبي بكر ؟
لم يثبت أنّ عليّاً بايع أبا بكر ؛ فإنّ الروايات في ذلك مختلفة جدّاً ، ولا يمكن الجزم بشيء منها . مضافاً إلى احتمال كذبها ؛ لأنّ الغاصبين كانوا يحتاجون إلى جعل مثل هذه الروايات.
على تقدير وقوع البيعة منه ، فقد كان مضطرّاً إلى ذلك ، بمعنى أنّه لم يبايع باختياره ورضاه ، بل اُجبر على البيعة حفظاً لنفسه وأهل بيته وشيعته.
ولا يتنافى ذلك مع عصمته ؛ لأنّ عصمته أقتضت أن لا يرتكب الحرام بايقاع نفسه وأهل بيته وشيعته في الخطر والهلكة ، فاضطرّ إلى إظهار البيعة بلسانه ، وكان قلبه مليئاً بالسخط وعدم الرضا.
ثالثاً الإمام علي عليه السلام كان يتمكّن من الوقوف بوجه الظالمين والغاصبين للخلافة ، لكنّه كان قويّاً في دينه ، لا تأخذه في الله لومة لائم ـ فلمّا رأى أنّ القوم اجتمعوا على غصب حقّه ، وقاموا ضدّه لأحقاد بدرية وأُحدية وحنينيّة وخيبريّة ، فخاف أنّه إذا قام بكفاح مسلّح ضدّهم أرتدّوا على أدبارهم ، ورجعوا إلى جاهليّتهم ، وصاروا كفّاراً ، فصبر وفي الحلق شجى ، وفي العين قذى كما قال عليه السلام ، ورأى أنّهم إن يكونوا ضلالاً منحرفين أولى من أن يرجعوا كفّاراً مخالفين للإسلام.
وإذا كان قد بايعهم فمن المعلوم إنّ هذه البيعة الصوريّة كانت لأجل التحفّظ على كيان الإسلام والمسلمين ، ولا تدلّ على شرعيّة خلافتهم ، بل كان يصرّح الإمام عليه السّلام ويحتجّ وينادي بأعلى صوته بأنّهم غصبوا حقّه.
قال : « أَما وَاللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ ، وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْها مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحى. يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ، وَ لا يَرْقى إِلَيّ الطَّيْرُ ، فَسَدَلْتُ دُونَها ثَوْبًا ، وَ طَوَيْتُ عَنْها كَشْحًا ، وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِى بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذّاءَ ، أَوْ أَصْبِرَ عَلى طَخْيَة عَمْياءَ ; يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ، وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَ يَكْدَحُ فِيها مُؤْمِنٌ حَتّى يَلْقى رَبَّهُ.
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هاتا أَحْجى ، فَصَبْرَتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذىً ، وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا ، أَرى تُراثِي نَهْبًا .حَتّى مَضَى الاَْوَّلُ لِسَبِيلِهِ ، فَأَدْلى بِها إِلى فُلان بَعْدَهُ.
ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الاَْعْشى :
شَتّانَ ما يَوْمِي عَلى كُورِها * وَ يَوْمُ حَيّانَ أَخِي جابِر
فَيا عَجَبًا بَيْنا هُوَ يَسْتَقِيلُها فِى حَياتِهِ ، إِذْ عَقَدَها لآخَرَ بَعْدَ وَفاتِهِ ! لَشَدَّ ما تَشَطَّرا ضَرْعَيْها ! فَصَيَّرَها فِى حَوْزَة خَشْناءَ ، يَغْلُظُ كَلْمُها ، وَ يَخْشُنُ مَسُّها ، وَ يَكْثُرُ الْعِثارُ فِيها ، وَ الاِْعْتِذارُ مِنْها.فَصاحِبُها كَراكِبِ الصَّعْبَةِ ، إِنْ أَشْنَقَ لَها خَرَمَ ، وَ إِنْ أَسْلَسَ لَها تَقَحَّمَ . فَمُنِيَ النّاسُ لَعَمْرُ اللهِ بِخَبْط وَ شِماس ، وَ تَلَوُّن وَاعْتِراض.
فَصَبَرْتُ عَلى طُولِ الْمُدَّةِ ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ ، حَتّى إِذا مَضى لِسَبِيلِهِ ، جَعَلَها فِي جَماعَة زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ. فَي الَلّهِ وَلِلشُّورى ! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيّ مَعَ الاَْوَّلِ مِنْهُمْ حَتّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلى هذِهِ النَّظائِرِ ، لكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا ، وَطِرْتُ إِذْ طارُوا ، فَصَغا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ ، وَ مالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ ، مَعَ هَن وَهَن.
إِلى أَنْ قامَ ثالِثُ الْقَوْمِ نافِجًا حِضْنَيْهِ ، بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ ، وَ قامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضِمُونَ مالَ اللهِ خَضْمَ الاِْبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ ، إِلى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ ، وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ.
فما راعَنِى إِلاّ وَالنّاسُ اِلَىَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ يَنْثالُونَ عَلَيّ مِنْ كُلِّ جانِب ، حَتّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنانِ ، وَ شُقَّ عِطافِي ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ.
فَلَمّا نَهَضْتُ بِالاَْمْرِ نَكَثَتْ طائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرى وَ فَسَقَ اخَرُونَ ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحانَهُ يَقُولُ : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [ القصص : 83 ].
بَلى وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوها وَ وَعَوْها ، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيا فِى أَعْيُنِهِمْ ، وَراقَهُمْ زِبْرِجُها.
أَما وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْلا حُضُورُ الْحاضِرِ ، وَ قِيامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النّاصِرِ ، وَ ما أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَماءِ أَنْ لا يُقارُّوا عَلى كِظَّةِ ظالِم وَ لا سَغَبِ مَظْلُوم ، لاََلْقَيْتُ حَبْلَها عَلى غارِبِها ، وَلَسَقَيْتُ آخِرَها بِكَأْسِ اَوَّلِها ، وَ لاََلْفَيْتُمْ دُنْياكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِى مِنْ عَفْطَةِ عَنْز ».
قالُوا : وَقامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلى هذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَناوَلَهُ كِتابًا. فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ قِراءَتِهِ قالَ لَهُ ابْنُ عَبّاس : يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدْتَ مَقالَتَكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ. فَقالَ : « هَيْهاتَ يَا ابْنَ عَبّاس ! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ ».
قالَ ابْنُ عَبّاس : فَوَ اللهِ ما أَسِفْتُ عَلى كَلام قَطُّ كَأَسَفِي عَلى ذلِكَ الْكَلامِ أَنْ لا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرادَ.
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِى هذِهِ الْخُطْبَةِ : « كَراكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَها خَرَمَ ، وَ إِنْ أَسْلَسَ لَها تَقَحَّمَ » يُرِيدُ أَنَّهُ إِذا شَدَّدَ عَلَيْها فِي جَذْبِ الزِّمامِ وَ هِيَ تُنازِعُهُ رَأْسَها خَرَمَ أَنْفَها ، وَ إِنْ أَرْخى لَها شَيْئًا مَعَ صُعُوبَتِها تَقَحَّمَتْ بِهِ فَلَمْ يَمْلِكْها . يُقالُ : أَشْنَقَ النّاقَةَ إِذا جَذَبَ رَأْسَها بِالزِّمامِ فَرَفَعَهُ ، وَ شَنَقَها أَيْضًا.
ذَكَرَ ذلِكَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِى إِصْلاحِ الْمَنْطِقِ ، وَ إِنَّما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ : « أَشْنَقَ لَها » ، وَ لَمْ يَقُلْ : « أَشْنَقَها » ؛ لاَِنَّهُ جَعَلَهُ فِي مُقابَلَةِ قَوْلِهِ : « أَسْلَسَ لَها » ، فَكَأَنَّهُ قالَ : إِنْ رَفَعَ لَها رَأْسَها بِمَعْنى أَمْسَكَهُ عَلَيْها بِالزِّمامِ ، وَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خَطَبَ عَلى ناقَتِهِ وَ قَدْ شَنَقَ لَها فَهِي تَقْصَعُ بِجَرَّتِها ، وَمِنَ الشّاهِدِ عَلى أَنَّ أَشْنَقَ بِمَعْنى شَنَقَ قَوْلُ عَدِيِّ ابْنِ زَيْد الْعِبادِىِّ :
ساءَها ما بِنا تَبَيَّنَ فِي الاَْيْدِي * وَ إِشْناقُها إِلَى الاَْعْناقِ