السؤال :
عندي عدّة إشكالات أتمنّى أن تجيبها لما رأيت منك من سعة العلم وسعة الصدر ، وهي كالتالي :
الإشكال الأوّل : لمّا كان الله تعالى يعلم ما كان وما سيكون ، فهو يعلم أنّ الكفّار لن يدخلوا الجنّة بل سيختارون الكفر فيدخلون النار ، فكيف يرزقهم ما قد يهديهم للحقّ كأن يبعث أنبياءً وينزل الكتب ؟ هل يليق بالحكيم أن يعمل عملاً يريد به شيئاً مع علمه أن هذا العمل لن يجلب هذا الشيء ولن يحقّقه ، وأنّه محض عبث فلن يغيّر ما قد علمه الله من كفرهم وجحودهم ورفضهم للإيمان ؟
الإشكال الثاني : ألا تتنافى حريّة اختيارالعباد مع علم الله الأزلي ؟ نعم صحيح العباد اختاروا أن يفعلوا كذا وكذا ولكن هل كانت لهم « الحريّة في اختياره » ؟ فلنفرض مثلاً أنّ الله تعالى يعلم منذ القدم أنّي في الساعة التاسعة من هذا اليوم سوف أرتكب معصيةً ما ، والعياذ بالله كالقتل ـ نسأل الله السلامة ـ ، أليس في ذلك حتميّة إذ أنّي مهما شئت ومهما فعلت لن أستطيع أن أخالف ما هو في علم الله القديم ، فيتحتم عليّ أن أرتكب هذا الفعل ، وهنا أنا لا أقول بالجبرية « أن الله أو علمه أجبرنا على الفعل الفلاني » ، لكن أقول بالحتميّة « أيّ أنّنا يتحتم علينا شئنا أم أبينا أن نفعل ونختار ما قد علم الله منذ القدم أنّنا سنختاره ونفعله » ؛ فسؤالي هو كيف يكون التوفيق بين حريّة الاختيار والإرادة وبين الحتميّة ؟
الجواب :
أوّلاً : القرآن الكريم يجيب عن ذلك :
بقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ ) [ طه : 134 ].
وبقوله تعالى : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) [ النساء : 165 ].
وبقوله تعالى : ( قُلْ فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) [ الأنعام : 149 ].
فالله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليكون ذلك هداية للمؤمنين وإتمام الحجّة على الكافرين ، فلو لم يرسل رسولاً أو لم ينزل كتاباً ثمّ اختار الكافر الكفر وأراد الله تعالى ان يعذّبه ، لاعتذر عن كفره بأنّك لم ترسل رسولاً يهدينا ، فلعلّه لو كان يأتينا الرسول كنّا نؤمن ولم نقع في العذاب.
ثانياً : ذكرنا مراراً انّ علم الله تعالى ليس علّة لوجود ما يعلمه من الموجودات والمخلوقات وأفعال العباد ، وانّما العلّة هي الأسباب التكوينيّة او اختيار الانسان وإرادته للفعل الذي يقوم به ، فقد شاء الله تعالى بحسب حكمته ان يكون الإنسان مختاراً في أفعاله يأتي بها عن إرادته وإختياره ، ولا يكون مجبراً على أعماله من قبل الله تعالى. وذلك لأنّ الوصول إلى الكمال والفضيلة والسعادة الأبديّة والمراتب العالية انّما يكون بالأفعال الإختياريّة ، فإذا كان الإنسان المؤمن مثلاً مجبراً ومسيراً في العبادة والإتيان بالأعمال الصالحة ، لا يستحقّ المدح والثناء والثواب والأجر ، ولا يرقى إلى درجات الكمال ، ولا يكون بينه وبين من لم يأت بتلك الأعمال فرق حينئذٍ ، لأن الكلّ مجبر على الفعل أو الترك ، وعليه فالإنسان لما يرتكب الذنب والمعصية يكون السبب والعلّة لصدور فعله هو إرادته واختياره.
نعم أعطاه الله تعالى القدرة والاستطاعة ، لكنّه بسوء اختياره اعمل تلك القدرة في ارتكاب المعصية ، فيكون مسؤولاً ومؤاخذاً على فعله القبيح. أمّا العلم بأنّه سوف يرتكب المعصية باختياره ، فلا يكون علّة لصدور المعصية ، لأن العلم تابع لوجود المعلوم ، ومتفرّع عليه ومتأخّراً عنه ، فكيف يكون العلم علّة لوجود المعلوم ومتقدّم عليه ، فانّ مرتبة العلّة متقدّمة على مرتبة المعلول.
وبعبارة أخرى إذا كان العلم الإلهي علّة لصدور الفعل من الإنسان ، يلزم تقدّم الشيء وتأخّره في آن واحد ، لأنّ العلم متأخّر عن المعلوم رتبة ، إذ لا يعقل وجود علم بلا معلوم ، والمفروض انّ العلم علّة لوجود الفعل المعلوم ، فلا بدّ ان يتقدّم على المعلوم الذي هو معلوله ، فيصير العلم متقدّماً في نفس الوقت الذي هو متأخّر.
هذا مضافاً الى انّ الله تعالى أعطى للإنسان فرصة تغيير مصيره الحتمي ، فانّ لله تعالى كتابين :
كتاب المحو والإثبات : وقد كتب فيه مصير الإنسان بحسب القوانين والعلل والأسباب الطبيعيّة ، بحيث يعلم الله تعالى انّه سوف يموت في الوقت الكذائي أو يعمل العمل الفلاني بحسب العلّة التكوينيّة ، لكن معذلك يمكن ان يتغيّر ذلك بإيجاد المانع عن تأثير العلّة ، كصلة الرحم والصدقة والدعاء كما ورد : « انّ الدعاء يرد القضاء وان ابرم إبراما ».
كتاب اللوح المحفوظ : قال الله تعالى : ( يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) [ الرعد : 39 ].