الإمام زين العابدين عليه السلام
ـ الإمام الرابع من أئمّة أهل البيت ، أبو محمّد ، وزين العابدين علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب ، ولد بالمدينة في شهر شعبان سنة 38 هـ.
ـ أولاده : كان له خمسة عشر ولداً ، أحد عشر ذكراً ، وأربع بنات ، والذكور هم محمّد الباقر ، وأمّه فاطمة بنت عمّه الحسن ، والحسن والحسين الأكبر ، والحسين الأصغر ، وزيد ، وعمر ، وعبد الله ، وسليمان ، وعلي ، ومحمّد الأصغر ، أمّا الاناث فهنّ خديجة ، وفاطمة ، وعليه ، وأمّ كلثوم ، من أمّهات شتى ، وأمّهاتكم جميعاً أمّهات أولاد ، ما عدا أمّ الامام الباقر (ع) (1).
علمه :
إن علم زين العابدين هو علم آل الرسول ، وعلمهم هو علم جدّهم بالذات ، يتلقّاه الابن عن الأب عن الجدّ عن جبرائيل عن الله عزّ وجلّ ، وقد روى الشيعة والسنّة عنه العلوم والأدعية والمواعظ والتفسير والحلال والحرام والمغازي وغيرها. ولم يسند حديثاً ، ولا قولاً إلى صحابي أو تابعي ، لانّ الناس جميعاً تفتقر إلى أهل البيت في العلوم ، ولا يفتقرون إلى أحد.
قال الشيخ أبو زهرة في كتاب « الإمام زيد » ص 31 وما بعدها طبعة أولى :
« في بيت الإمام زين العابدين نشأ زيد ، وتكوّنت ميوله ، ومنازعه في الحياة ، واتّجاهاته. وقد كان زين العابدين فقيهاً ، كما كان محدّثاً ، وكان له شبه بجدّه علي بن أبي طالب في قدرته على الإحاطة بالمسألة الفقيّهة من كلّ جوانبها ، والتفريع عليها ».
وكان إذا رأى الشباب الذين يطلبون العلم ، أدناهم إليه وقال : مرحباً بكم ، أنتم ودائع العلم ، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا قوم آخرين. وإذا جاءه طالب علم رحب به ، وقال : أنت وصيّه رسول الله ، إن طالب العلم له يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلّا سبحت له الأرض إلى السابعة.
وبالتالي ، فلم يختلف اثنان على أنّ لدى السيّد السجّاد العلوم المحمديّة والعلويّة ، ولولا ضغط حكّام الجور لانتشر عنه من العلوم ما تضيق به الكتب والمؤلّفات.
عبادته وأخلاقه :
كان إذا حضرته الصلاة اقشعر جلده ، واصفرّ لونه ، وارتعد كالسعفة ، وكان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وكانت تسقط منه كلّ سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده ، لكثرة صلواته ، وكان يجمعها ، ولما مات دفنت معه ، وقد حجّ على ناقته عشرين حجّة لم يضربها بسوط.
وكان يحسن إلى من يسيء إليه ، من ذلك أن هشام بن اسماعيل كان أميراً على المدينة ، وكان يتعمّد الإساءة إلى الإمام وأهل بيته ، ولما عزّ له الوليد ، أمر أن يوقف للناس في الطريق العامّ ، ليقتصوا منه ، وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الإمام السجّاد ، ولكن الإمام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه ، وذهب إليه بنفسه ، وقال له : لا بأس عليك منّا ، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها.
وكان للإمام ابن عمّ يؤذيه ، وينال منه ، فكان يأتيه ليلاً ، ويعطيه الدنانير.
فيقول : لكن علي بن الحسين لا يصلني بشيء فلا جزاه الله خيراً ، فيسمع ويغفر. فلمّا مات انقطعت الدنانير عنه ، فعلم أنّه هو الذي كان يصله. وكان يقول لمن يشتمه : إن كنت كما قلت ، فاسأل الله أن يغفر لي ، وان لم أكن كما قلت فاسأل الله أن يغفر لك.
ولما طرد أهل المدينة بني أميّة في وقعة الحرّة أراد مروان بن الحكم أن يستودع أهله ، فلم يأوهم أحد ، وتنكر الناس له إلّا الإمام زين العابدين رحب بهم ، وجعلهم من جملة عياله ، وقد عال الإمام في هذه الوقعة أربعمئة امرأة.
كما كان يعول بيوتاً كثيرة في المدينة لا يعرفون منهم أين يأتيهم رزقهم ، حتّى مات الإمام ، فعرفوا أنه كان المعيل. وكان يخرج في الليلة الظلماء ، فيحمل الجراب على ظهره ، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم ، وربّما حمل على ظهره الطعام والحطب ، حتّى يأتي باباً باباً ، فيقرعه ، ثمّ يناول من يخرج إليه ، وهو متستر ، ولما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره ، وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل إلى منازل الفقراء والمساكين.
وكان يشتري العبيد ، وما به إليهم حاجة ، وكان يأتي بهم إلى عرفات ، فإذا انتهى من مناسكه أعتقهم ، وأعطاهم الأموال ، وكان إذا ملك عبداً في أوّل السنة أو في أثنائها أعتقه ليلة الفطر ، وما استخدم خادماً أكثر من حول.
وتعال معي ، لنقرأ المثال التالي من سيرة الإمام السجّاد ، لتعرف بأيّ الوسائل كان يتقرّب إلى الله تعالى ، ويطلب غفرانه ورضوانه ، فلم يكتف بالصوم والصلاة ، والحجّ والصدقات ، والإرشاد إلى الخيرات ، والعفو عمن أساء إليه ، بل تقرب إليه سبحانه بالإحسان إلى المستضعفين ، وأعطاء الحريّة للمستعبدين.
كان إذا أذنب عبد من عبيده أو أمة من امائة ، يكتب اسم المذنب ونوع الذنب ، والوقت الذي حصل فيه ، ولم يعاقب المذنب أو يعاتبه ، حتّى إذا انتهى شهر رمضان المبارك جمعهم حوله ، ونشر الكتاب ، وسأل كلّ واحد منهم عن ذنبه ، فيقرّ ويعترف ، فإذا انتهى من عمليّه الحساب وقف في وسطهم ، وقال لهم قولوا معي :
يا علي بن الحسين انّ ربّك قد أحصى عليك كما أحصيت علينا ، وان لديه كتاباً ينطق بالحقّ ، كما نطق كتابك هذا ، فاعف واصفح ، كما تحبّ ان يعفو عنك المليك ويصفح ، واذكر وقوفك بين يدي الله ذليلاً ، كما نحن وقوف بين يديك.
فينوح الامام ويبكي ، ثمّ يعفو عنهم ويقول : اللهم إنّك أمرتنا بالعفو عمّن ظلمنا ، وقد عفونا كما أمرت ، فاعف عنّا ، ثمّ يقبل على عبيده ، ويقول : أنتم أحرار لوجه الله ، ويناجي ربّه قائلاً : اللهم انّي عفوت عنهم واعتقت رقابهم كما أمرت ، فاعف عنّي واعتق رقبتي من النار ، ويأمر العبيد أن يقولوا : اللهم آمين ربّ العالمين ، فيرفعون أصواتهم بالابتهال والدعاء لسيّدهم المحسن ، ثمّ يذهبون إلى سبيلهم بعد أن يجيزهم بما يغنيهم عمّا في أيدي الناس.
ولو مثلت هذه الرواية ، كما هي ، على مسرح عام لاحدثت ثورة في العقول ، ولفعلت فعل السحر في النفوس ، واتّجهت بها إلى الله وعمل الخير ، وكانت أجدى من ألف كتاب وكتاب في المواعظ والأخلاق. ولو أن الذين يهتمون بالأخلاق ومشكلات المجتمع أطلعوا عليها وعلى أمثالها من سيرة الإمام السجاد ، وتنبهوا إلى ما تحويه من الاسس والقوانين لبلغوا الغابة المنشودة من أقصر الطرق وأيسرها. لقد حدّدت هذه الرواية حبّ الإنسان لله سبحانه بأنّه حبّ البشريّة والحريّة ، وإن حبيب الله هو صديق الإنسان الذي لا يعرف التعصّب ، ولا العنصريّة ، ولا القسوة.
وبالتالي ، فإن التراث الذي تركه أهل البيت للانسانيّة لا نجده في جامعة ، ولا في كتاب ، ولا عند أمّة من الاُمم.
ونختم الكلام عن الامام السجاد بما جاء في كتاب « الإمام زيد » للشيخ أبي زهرة أحد كبار شيوخ الأزهر ، فمما قاله في صفحات طوال :
« زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما هو الابن الذكر الذي بقي من أولاد الحسين ، فقد قتل أخ له في المعركة الفاجرة التي شنّها يزيد وعمّاله على الإمام الحسين بن الطاهرة فاطمة الزهراء.
ولم يحضر المعركة ـ أيّ لم يقاتل ـ لانّه كان مريضاً ، وقد كان في الثالثة والعشرين من عمره ، أو يزيد على ذلك ، ولعلّ الله سبحانه وتعالى أبقاه من هذه السيوف الأئمّة ، لتبقي ذريّة الحسين الصلبة في عقب علي هذا. ولقد هم عمّال يزيد أن يقتلوه ، ولكن الله كفّ أيديهم عنه. كما حرض بعض الفجّار يزيد على قتله ، ونجاه الله.
وكان علي بن الحسين دائم الحزن شديد البكاء ، وكان رحيماً بالناس ، كثير الجود والسخاء ، فما علم أن على أحد ديناً ، وله به مودّة إلّا أدّى عنه دينه.
دخل على محمّد بن أسامة يعوده فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : عليّ دين. قال الإمام : وكم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار. فقال الامام : هي عليّ.
وقد قال محمّد بن اسحق : كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ، ومن يعطيهم ، فلمّا مات علي بن الحسين فقدوا ذلك ، فعرفوا أنّه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به ، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل المساكين.
وكانت صدقاته كلّها ليلاً ، وكان يقول : صدقة الليل تطفئ غضب الربّ ، وتنير القلب والقبر ، وتكشف عن العبد ظلمه يوم القيامة.
ولم تكن رحمة زين العابدين بالناس ، عطاء يعطى ، بل كانت مع ذلك سماحة وعفوا ، يعفو عن القريب وعن القعيد ، وعمّن ظلمه وأساء إليه. وتروى الأعاجيب عن رجمته وسماحته ، منها انّ جارية كانت تحمل الابريق ، وتسكب الماء ليتوضّا ، فوقع على وجهه وشجه. فرفع رأسه إليها لائماً ، فقالت : والكاظمين الغيظ.
قال : كتبت غيظي.
قالت : والعافين عن الناس.
قال : عفوت عنك.
قالت : والله يحبّ المحسنين.
قال : أنت حرّة لوجه الله.
بهذه الأخلاق السمحة الكريمة ، وبالتقوى التي لا تعرف سوى الله اشتهر زين العابدين ، فاجله الناس ، وأحبّوه ، حتّى أنّه كان إذا سار في مزدحم افسح الناس له الطريق. ويروى من عدّة طرق أن هشام بن عبد الملك طاف بالبيت ، فلمّا أراد أن يستلم الحجر لم يتمكّن ، وكان أهل الشام حوله ، وبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين ، فلما دنا من الحجر ليستلم تنحّى عنه الناس إجلالاً له ، وهيبة واحتراماً ، فقال هشام : من هذا ؟! استنقاصاً له. وكان الفرزدق حاضراً ، فانشد الشاعر الفحل تلك القصيدة :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته |
والبيت يعرفه والحلّ والحرم |
|
هذا ابن خير عباد الله كلّهم |
هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم |
|
إذا رأته قريش قال قائلها |
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم |
|
ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت |
عن نيلها عرب الإسلام والعجم |
|
يكاد يمسكه عرفان راحته |
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم |
|
يغضي حياء ، ويغضى من مهابته |
فما يكلّم إلّا حين يبتسم |
|
بكفّه خيزران ريحه عبق |
من كفّ أروع في عرنينه شمم |
|
مشتقة من رسول الله نبعته |
طابت عناصره والخيم والشيم |
|
ينجاب نور الهدى عن نور غرّته |
كالشمس ينجاب عن اشراقها الغيم |
|
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا |
حلو الشمائل تحلو عنده نعم |
|
هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله |
بجدّه أنبياء الله قد ختموا |
|
من جدّه دان فضل الأنبياء له |
وفضل أمّته دانت لها الاُمم |
|
عمّ البريّة بالإحسان فانقشعت |
عنها العماية والإملاق والظلم |
|
سهل الخليفة لا تخشى بوادره |
يزينه خصلتان الحلم والكرم |
|
لا يخلف الوعد ميمونا نقيبته |
رحب الفناء أريب حين يعتزم |
|
من معشر حبّهم دين وبغضهم |
كفر وقربهم منجى ومعتصم |
|
يستدفع السوء والبلوى بحبّهم |
ويستزاد به الإحسان والنعم |
|
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم |
في كلّ فرض ومختوم به الكلم |
|
ان عدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم |
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم |
|
لا يستطيع جواد بعد غايتهم |
ولا يدانيهم قوم وان كرموا |
|
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت |
والأسد أسد الشرى والبأس محتدم |
|
بأبي لهم ان يحل الذمّ ساحتهم |
خيم كريم وأيد بالندى هضم |
|
لا يقبض العسر بسطا من أكفّهم |
سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا |
|
أن القبائل ليست في رقابهم |
لأولية هذا أو له نعم |
|
فليس قولك من هذه بضائره |
العرب تعرف من أنكرت والعجم |
|
من يعرف الله يعرف أولية ذا |
فالدين من بيت هذا ناله الاُمم |
ثمّ قال فضيلة الشيخ أبي زهرة : لقد روت كتب التاريخ والسير والأدب هذه القصيدة منسوبة إلى الفرزدق الشاعر ، ولم يتشكّك الرواة والمؤرّخون في نسبتها إليه ، وأكثر كتب الأدب لم تثر عجاجه شكّ حولها.
ـ توفّي بالمدينة سنة 95 هـ عن 57 سنة ، عاش منها مع جدّه أمير المؤمنين سنتين ، ومع عمّه الحسن 10 سنين ، ومع أبيه الحسين 23 ، وبقي بعده 34 سنة.
الهوامش
1. أمّ الولد هي العبدة ، أو السرية إذا وطأها سيّدها ، وحملت منه ، فتصبح بحكم الحرّة لا يجوز بيعها ولا هبتها.
مقتبس من كتاب : [ الشيعة في الميزان ] / الصفحة : 224 ـ 229