مناظرته مع رأس الجالوت
وكان رأس الجالوت ، يمثل الطائفة اليهوديّة في ذلك المجلس الذي أعدّه المأمون لامتحان الإمام ، فقال له الإمام : « تسألني أو أسألك ؟ ... ».
« بل أسألك ، ولست أقبل منك حجّة إلّا من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود ، أو ما في صحف إبراهيم وموسى ... ».
فأجابه الإمام بالموافقة على هذا الشرط قائلاً : « لا تقبل منّي حجّة إلّا بما نطق به التوراة على لسان موسى بن عمران ، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم ، والزبور على لسان داودعليهم السلام ... ».
« من أين تثبت نبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله ؟ ... ».
« شهد بنبوّته موسى بن عمران ، وعيسى بن مريم ، وداود خليفة الله في الأرض ... ».
وطلب رأس الجالوت إثبات ذلك قائلاً : « أثبت قول موسى بن عمران ... ».
فقال الإمام : « تعلم يا يهودي أنّ موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنّه سيأتيكم نبي فيه (1) فصدقوا ، ومنه فاسمعوا فهل تعلم أن لبني إسرائيل أخوة غير ولد إسماعيل ؟ إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل ، والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم ».
واعترف رأس الجالوت بذلك قائلاً : « هذا قول موسى : لا ندفعه ... ».
وألزمه الإمام بالحجّة والبرهان قائلاً : « هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل غير محمّد صلّى الله عليه وآله ؟ ... ».
« لا ... ».
وانبرى الإمام قائلاً : « أليس هذا قد صحّ عندكم ؟ ... ».
« نعم ، ولكنّي أحبّ أن تصحّحه لي من التوراة ؟ ... ».
وتلا الإمام عليه قطعة من التوراة قائلاً : « هل تنكرون التوراة تقول لكم : جاء النور من قبل طور سيناء وأضاء للناس من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران ... ».
وأقرّ رأس الجالوت بهذه الكلمات ، إلّا أنّه طلب من الإمام تفسيرها ، فقال عليه السلام له : « أنا أخبرك بها ، أمّا قوله : جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء ، وأمّا قوله : وأضاء للناس في جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عزّ وجلّ إلى عيسى بن مريم وهو عليه ، وأمّا قوله : واستعلن علينا من جبل فاران فذاك جبل من جبال مكّة ، وبينه وبينها يومان ؟ أو يوم ... ».
قال شعيا النبي : فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فمَن راكب الحمار ، ومَن راكب الجمل ؟ ...
ولم يعرف رأس الجالوت ذلك رغم أنّه موجود في التوراة فطلب من الإمام إيضاح ذلك له ، فقال عليه السلام : « أمّا راكب الحمار فعيسى ، وأمّا راكب الجمل فمحمّد صلّى الله عليه وآله أتنكر هذا في التوراة ؟ ... ».
ووجّه الإمام إليه السؤال التالي : « هل تعرف حبقوق النبي ؟ ... ».
« نعم إنّي به لعارف ... ».
وأخذ الإمام عليه السلام يقرأ ما أثر عنه قائلاً : « فإنّه قال : ـ وكتابكم ينطق به ـ جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمّته ، يحمل خيله في البحر ، كما يحمل في البر يأتينا بكتاب جديد ـ يعني القرآن الكريم ـ بعد خراب بيت المقدّس ، أتعرف هذا وتؤمن به ؟ ... ».
واعترف رأس الجالوت بذلك ، والتفت إليه الإمام فأقام عليه حجّة أخرى ، وهي ما جاء في الزبور ، من التبشير بالرسول الأعظم محمّد صلّى الله عليه وآله قائلاً : « فقد قال داود في زبوره ـ وأنت تقرأه ـ اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة ، فهل تعرف نبيّاً أقام السنة بعد الفترة غير محمّد صلّى الله عليه وآله ؟ ... ».
وأخذ رأس الجالوت يراوغ ، وينكر الحقّ قائلاً : « هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ، ولكنّه عنى بذلك عيسى ، وأمامه هي الفترة ... ».
فردّ عليه الإمام قائلاً : « جهلت أنّ عيسى موافقاً لسنة التوراة حتّى رفعه الله إليه ، وفي الإنجيل مكتوب إنّ ابن البرة ـ أيّ عيسى ـ ذاهب ، والبارقليطا جاء من بعده ، وهو الذي يحفظ الآصار ، ويفسّر لكم كلّ شيء ، ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالأمثال ، وهو يأتيكم بالتأويل ، أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟ ... ».
وطفق رأس الجالوت يقول : « نعم لا أنكره ... ».
ووجّه الإمام إليه السؤال التالي : « أسألك عن نبيّك موسى بن عمران ؟ ... ».
« سل ... ».
« ما الحجّة على أنّ موسى تثبتت نبوّته ؟ ... »
وأخذ رأس الجالوت يستدلّ على نبوّة موسى قائلاً : « إنّه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله ... ».
« مثل ماذا ؟ ... ».
« مثل فلق البحر ، وقلبه العصا حيّة تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده بيضاء للناظرين ، وعلاماته لا يقدر الخلق على مثلها ... ».
وصدق الإمام مقالته قائلاً : « صدقت في أنّها حجّة على نبوّته ... إنّه جاء بما لم يقدر الخلق عل مثله ، أفليس كلّ مَن أدّعى أنّه نبي ، وجاء بما لم يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ ... ».
وأنكر اليهودي مقالة الإمام قائلاً : « لا ، لأنّ موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربّه ، وقربه منه ، ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة مَن ادّعاها ، حتّى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به ... ».
ونقض الإمام كلام اليهودي قائلاً : « فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى ، ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجروا من الحجر اثني عشرة عيناً ، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حيّة تسعى ... ».
وأجاب اليهودي :
« قد خبرتك أنّه متى جاءوا على نبوّتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ، ولو جاءوا بمثل ما جاء به موسى أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم ... ».
وردّ الإمام عليه السلام حجّته قائلاً : « يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وكان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ... ».
وراوغ اليهودي فقال : « يقال : إنّه فعل ذلك ، ولم نشهده ... ».
ورد الإمام عليه ببالغ الحجّة قائلاً : « أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته ؟ أليس إنّما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنّه فعل ذلك ... ».
« بلى ... ».
وألزمه الإمام بالحجّة القاطعة قائلاً : « كذلك أيضاً أتتك الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم ، فكيف صدقتم بموسى ، ولم تصدقوا بعيسى ؟ ... ».
ووجم رأس الجالوت ، فقد سدّ عليه الإمام كلّ نافذة ، وأقام عليه الحجّة البالغة ، وبان عليه العجز ، وأضاف الإمام عليه السلام يقول : « وكذلك أمر محمّد صلّى الله عليه وآله وما جاء به ، وأمر كلّ نبي بعثه الله ، ومن آياته أنّه كان يتيماً فقيراً ، راعياً أجيراً ، ولم يتعلّم ، ولم يختلف إلى معلّم ، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبارهم حرفاً ، حرفاً ، وأخبار مَن مضى ، ومَن بقي إلى يوم القيامة ، ثمّ كان يخبرهم بأسرارهم ، وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة ... ».
وقطع رأس الجالوت على الإمام كلامه قائلاً : « لم يصح عندنا خبر عيسى ، ولا خبر محمّد ، ولا يجوز أن نقرّ لهما بما لا يصحّ ... ».
وفنّد الإمام عليه السلام كلام اليهودي قائلاً : « فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمّد شاهد زور ؟ ... ».
وأخرس رأس الجالوت ، ووجم ، وهو كظيم ، وراح يفتش في حقيقة مغالطاته شبهة يتمسّك بها فلم يجد ، وسيلة يتمسّك بها لدعم أباطيله.
الهوامش
1. هكذا في النسخ المخطوطة والمطبوعة ، والصواب فيه بالباء والمعنى إن أدركتم صحبته وفيه ، أيّ اقصدوه واسمعوا ما يقوله.
مقتبس من كتاب : [ حياة الإمام الرضا عليه السلام ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 143 ـ 148