كان الإمام الرضا عليه السلام يشيد دوماً بولده الإمام الجواد عليه السلام ، ويدلِّلُ على فضله ومواهبه.
وقد بعث الفضل بن سهل إلى محمد بن أبي عباد كاتب الإمام الرضا عليه السلام يسأله عن مدى علاقة الإمام الرضا بولده الجواد عليهما السلام.
فأجابه : ما كان الرضا يذكر محمداً عليهما السلام إلا بكنيته ، فيقول : كتب لي أبو جعفر ، وكنتُ أكتب إلى أبي جعفر.
وكان آنذاك بالمدينة وهو صبيّ ، وكانت كتب الإمام الجواد ترد إلى أبيه عليهما السلام وهي في منتهى البلاغة والفصاحة
وحدَّث الروَاة عن مدى تعظيم الإمام الرضا لولده الجواد عليهما السلام ، فقالوا : إنَّ عباد بن إسماعيل ، وابن أسباط ، كانا عند الإمام الرضا عليه السلام بمنى إذ جيء بأبي جعفر عليه السلام فقالا له : هذا المولود المبارك ؟!!
فاستبشر الإمام عليه السلام وقال : « نعم هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه ».
وهناك طائفة كثيرة من الأخبار قد أثرت عن الإمام الرضا عليه السلام ، وهي تشيد بفضائل الإمام الجواد عليه السلام وتدلِّل على عظيم مواهبه وملكاته.
إكبار وتعظيم : وأحيط الإمام الجواد عليه السلام منذ نعومة أظفاره بهالة من التكريم والتعظيم من قبل الأخيار والمتحرِّجين في دينهم.
فقد اعتقدوا أنه من أوصياء رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي فرض الله مودتهم على جميع المسلمين.
وقد ذكر الرواة أنَّ علي بن جعفر الفقيه الكبير ، وشقيق الإمام الكاظم عليه السلام ، وأحد أعلام الأسرة العلويّة في عصره ، كان ممّن يقدّس الإمام الجواد عليه السلام ، ويعترف له بالفضل والإمامة.
فقد روى محمد بن الحسن بن عمارة قال : كنت عند علي بن جعفر جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب ما سمع من أخيه ـ يعني الإمام الكاظم عليه السلام ـ إذ دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء ، فقبّل يده وعظّمه ، والتفت إليه الإمام الجواد عليه السلام قائلاً : « اجلس يا عَم ، رحمك الله ».
وانحنى علي بن جعفر بكل خضوع قائلاً : يا سيدي ، كيف أجلس وأنت قائم ؟!
ولما انصرف الإمام الجواد عليه السلام ، رجع علي بن جعفر إلى أصحابه فأقبلوا عليه يوبّخونه على تعظيمه للإمام عليه السلام مع حداثة سِنِّه قائلين له : أنتَ عَمُّ أبيه ، وأنت تفعل به هذا الفعل ؟!!
فأجابهم علي بن جعفر جواب المؤمن بِرَبِّه ودينه ، والعارف بمنزلة الإمامة قائلاً : اسكتوا ، إذا كان الله ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة ـ للإمامة ـ وأهَّل هذا الفتى ، ووضعه حيث وضعه ، نعوذ بالله ممّا تقولون ، بل أنا عبد له.
ودلَّل علي بن جعفر على أن الإمامة لا تخضع لمشيئة الإنسان وإرادته ، ولا تنالها يد الجعل الإنساني ، وإنما أمرها بيد الله تعالى ، فهو الذي يختار لها من يشاء من عباده ، من دون فرق بين أن يكون الإمام صغيراً أو كبيراً.
أقوال المؤرخين : وقد مَلَكت مواهب الإمام الجواد عليه السلام عواطف العلماء ، فسجَّلُوا إعجابهم وإكبارهم له في مؤلَّفَاتهم ، وفيما يلي بعض ما قالوه :
الأول : قال الذهبي : كان محمد يُلقَّب ب « الجواد » ، وب « القانع » ، و « المرتضى » ، وكان من سروات آل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، وكان أحد الموصوفين بالسخاء ، فلذلك لُقِّب ب « الجواد ».
الثاني : قال السبط بن الجوزي : محمد الجواد كان على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود.
الثالث : قال الشيخ محمود بن وهيب : محمد الجواد هو الوارث لأبيه علماً وفضلاً ، وأجلُّ أخوته قَدراً وكمالاً.
الرابع : قال خير الدين الزركلي : محمد بن الرضي بن موسى الكاظم ، الطالبي ، الهاشمي ، القرشي ، أبو جعفر ، المُلقَّب ب « الجواد » ، تاسع الأئمة الإثني عشر عند الإمامية ، كان رفيع القدر كأسلافه ، ذكياً ، طليق اللسان ، قوي البديهة.
الخامس : قال الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة : أما مناقب أبي جعفر الجواد فما اتَّسَعت حلبات مجالها ، ولا امتدَّت أوقات آجالها ، بل قضت عليه الأقدار الإلهية بِقِلَّة بقائه في الدنيا بحكمها وأسجالها ، فَقَلَّ في الدنيا مقامه ، وعجَّل القدوم عليه كزيارة حمامه ، فلم تَطُل بها مدَّتُه ، ولا امتدَّت فيها أيامُه.
السادس : وأدلى علي بن عيسى الأربلي بكلمات أعرب فيها عن عميق إيمانه وولائه للإمام الجواد عليه السلام فقال : الجواد في كلِّ أحواله جواد ، وفيه يصدق قول اللغوي جواد من الجودة.
فاق الناس بطهارة العنصر ، وزكاء الميلاد ، وافترع قِلَّة العلاء ، فما قاربه أحد ، ولا كاد مجده ، عالي المراتب ، ومكانته الرفيعة تسمو على الكواكب ، ومنصبه يشرف على المناصب.
إذا أنس الوفد ناراً قالوا : ليتها ناره ، لا نار غالب ، لَهُ إلى المعالي سُموٌّ ، وإلى الشرف رَوَاح وَغُدُو ، وفي السيادة إِغراق وَعُلُو ، وعلى هَام السماك ارتفاع وعُلُو ، وعن كلِّ رذيلة بعد ، وإلى كلِّ فضيلة دُنُو.
تتأرج المكارم من أعطافه ، ويقطر المجد من أطرافه ، وترى أخبار السماح عنه وعن أبنائه وأسلافه ، فطوبى لمن سعى في ولائه ، والويل لمن رغب في خلافه.
هذه بعض الكلمات التي أدلى بها كبار المؤلِّفين ، وهي تمثِّل إعجابهم بمواهب الإمام وعبقرياته ، وما اتَّصف به من النزعات الشريفة التي تحكي صفات آبائه الذين رفعوا مشعل الهداية في الأرض.