الإمام الكاظم سجين الحقّ وقائد المعارضة السلمية
شهدت المرحلة التي عاشها الإمام الكاظم عليه السلام ، اضطرابات ونزعات اجتماعيّة ، وسياسيّة اندفعت آثارها المفجعة إلى السطح بسرعة من خلال ظهور الأزمات والنكبات العلنيّة .. التي خطط لها ونظم حركتها زعماء النهج الجاهلي في تاريخنا العربي والإسلامي ، وذلك بقصد صرف الأمّة عن مسيرتها الإرتقائيّة الحضاريّة في التكامل الروحي والمفاهيمي ، والنبيل من العمق الواعي للإسلام الرسالي المنفتح المتجذر في وعي أهل البيت عليهم السلام ، حيث أدّت تلك الأفعال المشبوهة ، ذات المنطق العائلي الضيق المخالف لروح وقيم الإسلام الأصيل ، إلى ابتعاد المسلمين عموماً عن ممارسة التجربة الصحيّّة والواعية للإسلام .. وإدخالهم في متاهات الكفر والعصبيّة البغيضة ، المعبّرة عن ميل انحداري شديد نحو كرسي الحكم وعرش السلطنة .. حتّى لو كلّف ذلك الأمّة خسارة نهجها المشرق وطموحات رسالتها الإنسانيّة ومنظومتها الفكريّة والقيميّة.
لقد استنزفت الأحداث الكارثيّة الشيء الكثير من طاقات ومواهب الأمّة ، كما وحددت مقدّراتها وإمكانيّاتها التي كان من المفترض أن تشكل الأساس المتين لبناء قاعدة إسلاميّة صلبة في العمل الدعوتي الرسالي على مستوى تبليغ ونشر الإسلام في كافّة الأرجاء والأنحاء.
وبالعودة إلى المراجع التاريخيّة المعتمدة كمصادر دراسيّة أساسيّة في الحقل التاريخي الإسلامي ، نجد إن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام عاصر في حياته عدّة خلفاء ، ممّن اتّسم حكمهم بالإستبداد والفرديّة والتسلّط ، والظلم ، وشدّة الضغوطات الأمنيّة ، ووطأة الخطط السياسيّة التي كانوا يضعونها ، حيث كان إمامنا عليه السلام واعياً لها ، ومدركاً لحجم وأبعاد خطورتها ، على المدى القريب والبعيد .. لقد قضت تلك الخطط بالسيطرة على مقدرات الأمّة ، ونهب خيراتها من خلال إتّباع سياسة الترغيب والترهيب والتأكيد على مبدأ القوة الحديديّة والقمعيّة الذي طبع كلّ تاريخهم ، وذلك من خلال ما يلي :
ـ قتل الناس الأبرياء ..
ـ تبذير الأموال العامّة في أماكن اللهو والطغيان ..
ـ هدر ثروات العباد على مظاهر الترف والبذخ الزائل والزائف ..
ـ ملاحقة المؤمنين والصلحاء والأنقياء ..
ـ الضرب على أوتار العشائريّة والقبلية عبر إذكاء وإشاعة الصراع القبلي ..
ـ ممارسة التصفية الجسديّة ، والإغتيال السياسي المنظم لأعلام المسلمين .. وهدر دورهم ، وإسقاط جميع حقوقهم المدنيّة ..
ـ إتباع سياسة كم الأفواه ، وشراء الذمم والضمائر وتأجير العقول .. وبالتالي إدخال الاُمّة بكلّ مواقعها في غياهب المجهول ..
قبسات من فكر الإمام :
قال لأحد أصحابه : « بلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن أمعه » ، قال : وما الأمعه ؟ قال : « أن تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس ، فانّ رسول الله قال : إنّما هما نجدان نجد خير ونجد شر .. فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير ». بهذا الحديث يريد أن يخاطب الناس الذين يواجهون الحياة في كلّ صراعاتها وفي كلّ إشكالاتها بالطريقة السلبيّة ، بحيث لا يتّبعون فكرهم في اتّخاذ الموقف وفي مواجهة الموقف المضاد. وهم اتّكاليون يريدون للآخرين أن يفكّروا ليتحرّكوا على ضوء خط تفكيرهم أو لا يتحرّكون ولا يرون أن يعيشوا مسؤوليّة الفكر ، وإنّما يقولون للآخرين فكروا لنا ويقولون معنا ..
عاصر الإمام موسى بن جعفر عليه السلام عدّة خلفاء عباسيين ، فقد عايش عليه السلام ، أربع سنوات ونصف السنة من عهد عبد الله بن محمّد بن علي الملقّب بالسفاح ، وبقي تسع سنوات وأشهراً في عهد المنصور الدوانيقي .. حيث كانت وفاة الإمام الصادق عليه السلام ، وعاش بعد أبيه خمسة وثلاثين عاماً مدّة إمامته .. قضى منها مع المنصور ، بعد أبيه ، نحواً من عشر سنوات ، ومع ولده محمّد الملقّب بالمهدي عشر سنين ، ومع ولده موسى الهادي سنة واحدة ، ومع أخيه هارون نحواً من خمسة عشر عاماً .. وسنستعرض بعض مواقفه الثابتة من أولئك الحكّام ، ورؤيته الفكريّة والسياسيّة للنهج السياسي والإجتماعي الذي اتّبعوه وساروا عليه في إدارتهم لشؤون الدولة والمجتمع.
تؤكّد المرويّات الكثيرة إن الإمام موسى الكاظم عليه السلام تعرض ، هو وأصحابه ، خلال الفترة التي أعقبت وفاة أبيه الصادق عليه السلام إلى رقابة شديدة من قبل الحكّام .. لكن يبدو ، من خلال تتبع المراحل التاريخيّة التي مرّ بها في عهد المنصور ، انّه لم يلتق معه ولم يطلب حضوره إليه في بغداد كما كان يستدعي والده. ويتهدّده بالنفي والقتل .. وقد بقي الإمام الكاظم طيلة حكم الخليفة المهدي تحت الرقابة الصارمة ، من قبل أجهزة النظام الحاكم ، وقد قام باستدعائه عليه السلام إلى بغداد أكثر من مرّة فحبسه وأساء معاملته ثمّ قام بإطلاق سراحه لرؤية رآها.
جاء في تذكرة الخواص لابن الجوزي : إن أهل الشعر قالوا : لقد كان مقام موسى بن جعفر بالمدينة فاستدعاه المهدي إلى بغداد وحبسه بها ثمّ رده إلى المدينة لطيف رآه.
ولم يمارس الخليفة الهادي ، حسب المصادر التاريخيّة أيّ نوع من الضغوط أو الإساءة إلى الإمام الكاظم عليه السلام ، ولم يحدّثنا التاريخ انّه استدعاه إلى بغداد على الرغم من اتّصافه بالقسوة والشدّة ، ولعلّ المدّة الزمنيّة القصيرة التي قضاها الهادي على كرسي الخلافة العباسيّة لم تسمح له بممارسة أساليب جدّه وأبيه مع الإمام عليه السلام.
وقد كانت السنوات التي قضاها الإمام عليه السلام تحت حكم هارون الرشيد من أسوأ وأفظع المراحل التاريخيّة التي قضاها في حياته ، فقد كانت المهمّة الأولى لجهاز الحكم الرشيدي تكمن في المراقبة المستمرّة ، خوفاً منه ومن مجرّد وجوده في الحياة ، وهذا ما صرّح به هارون ، عندما كان يعتقل الإمام عليه السلام ويحضره إلى مجلسه .. حتّى إن الإمام عليه السلام قد سأله ، أكثر من مرّة ، عن سبب اعتقاله وسجنه ، وهو لما يفعل شيئاً يسيء إلى الدولة ولم يهدد أمن المجتمع واستقراره ، فلماذا الحبس والإعتقال .. ؟ فكان جواب هارون السكوت لأنّه لا يملك أيّ دليل ضدّه.
نحن لا نستغرب هذا الأمر إطلاقاً عندما نقرأ عن هارون الرشيد انّه كان مستعدّاً لقتل نجله من أجل الملك والخلافة ، جاء في رواية : إنّ المأمون ـ ابن هارون ـ استغرب تكرار عمليّات استدعاء الإمام عليه السلام إلى بغداد وحبسه ثمّ إطلاق سراحه .. فسأله والده الرشيد ، بعد أن انفرد به ، عن سبب تقديره وإجلاله للإمام الكاظم عليه السلام ، على الرغم من حبسه له أكثر من مرّة ، فقال له هارون : يا بني انّه صاحب الحقّ.
قال له المأمون : إذا كنت تعلم ذلك .. فردّ عليه حقّه ، فقال : انّه الملك ، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.
تنقل الإمام الكاظم عليه السلام في السجون العباسيّة واحداً تلوّ الآخر ، ولم يبق في سجن واحد ، لقد كان الحاكم يأمر بنقله من سجن لآخر ، وذلك لأنّهم عندما كان يضعونه في أحد السجون يرون ، بعد مضي فترة زمنيّة قصيرة ، إن السجانين وعمّال السجن قد أصبحوا من عشّاقه ومحبّيه عليه السلام. يقبلون عليه ويتباركون به.
وفي مواجهة الوضع المضطرب المليء بالفوضى والمواقف الضاغطة والوقائع القسريّة والإكراهيّة ، اتّخذ إمامنا الكاظم عليه السلام موقفاً ظهر جليّاً في بعض أخباره وأحاديثه ، فقد دخل الإمام عليه السلام على هارون في بعض قصوره المشيّدة الجميلة التي لم ير مثلها في بغداد ولا في غيرها ، فانبرى إليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلاً : ما هذه الدار ؟ فأجابه الإمام عليه السلام غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلاً له : هذه دار الفاسقين. وقرأ الآية المباركة : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ) [ سورة الأعراف : الآية 146 ] ، ممّا آثار غضب هارون عليه وأغلظ في كلامه على الإمام عليه السلام بعد أن سمعه يتحدّاه بموقف لا هوادة فيه.
وفي إطار العمل السري المنظّم والمحدّد بدقّة من قبل الإمام عليه السلام نفسه ، سلكت مقاومته عليه السلام ، للأوضاع القائمة ، الطريقة التي تمحورت حول تحريم التعاون مع السلطة القائمة ، وضرورة مقاطعة الحاكم الظالم والتبرم منه وتجنّب أيّة معاملة معه على أيّ صعيد أو مستوى ، وقد ظهر هذا الموقف جليّاً في حواره عليه السلام مع أحد أصحابه ـ صفوان ـ ، عندما قال له الإمام عليه السلام : « يا صفوان ، كلّ شيء منك حسن جميل ما عدا شيئاً واحداً ».
ـ جعلت فداك أيّ شيء ؟.
ـ كراؤك جمالك هذا الطاغية.
ـ والله ما أكريته أشراً ، ولا بطراً ، ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولّاه بنفسي ، ولكن ابعث معه غلماني.
ـ فقال الإمام عليه السلام : يا صفوان ، أيقع كراك عليهم ؟.
ـ نعم جعلت فداك.
أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراءك ؟.
ـ نعم ، فقال عليه السلام : من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان وارداً للنار. فقام صفوان ببيع جماله دفعة واحدة ، وتخلّى عن هذا العمل ».
لقد بقي إمامنا عليه السلام يمارس دوره الريادي ، فكريّاً واجتماعيّاً ، في دعوته إلى التمسّك المبدئي الراسخ بثوابت الإسلام وهدي القرآن ، حتّى آخر حياته الشريفة التي عانى فيها ما عاناه من عذاب السجن والتضييق والتنكيل بالقيود .. لقد مكث الإمام عليه السلام زمناً طويلاً في سجن هارون ، وقد هدَ السجن صحّته وأذاب جسمه حتّى أصبح ، حين يسجد لربّه ، كالثوب المطروح على الأرض ، فيدخل عليه رسول الزعامة المنحرفة فيقول : إنّ الخليفة يتعذر إليك ويأمر بإطلاق سراحك على أن تزوره وتعتذر إليه .. أو تطلب رضاه .. فيشمخ الإمام عليه السلام وهو يجيب بالنفي بكلّ صراحة ، لا لشيء ، إلّا لكي لا يحقّق للزعامة المنحرفة هدفها في أن يبارك الإمام عليه السلام خطّها .. وهذا ما يبدو واضحاً من خلال كلمات الرسالة التي أرسلها عليه السلام لهارون وهو لا يزال في السجن معرباً له فيها عن بالغ سخطه عليه ، جاء فيها : « انه لن ينقضي عنك يوم من الرخاء حتّى تفنى جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء .. وهناك يخسر المبطلون ».
بعد ذلك ، وبفترة قصيرة ، كانت شهادته في حبسه بواسطة السندي بن شاهك ـ أمير السجن العبّاسي ـ ، خلال شهر رجب من سنة 183 للهجرة.