العامل الخامس
الإحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري
مضى النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله إلى جوار ربّه وقام المسلمون بعده بفتح البلاد ومكافحة الأُمم المخالفة للإسلام والسيطرة على أقطارها ، وكانت تلك الأُمم ذات حضارة وثقافة في المعارف والعلوم والآداب ، وكان بين المسلمين رجال ذوو دراية ورغبة في كسب العلوم وتعلم ما في تلك الحضارات من آداب وفنون فأدّت هذه الرغبة إلى المذاكرة والمحاورة أوّلاً ، ونقل كتبهم إلى اللغة العربيّة ثانياً.
يقول بعض المؤرّخين في هذا الصدد : ولم تلبث كتب أرسطو ، وأنبذقليس ، وهرقليوس ، وسقراط ، وأبيقور ، وجميع أساتذة مدرسة الإسكندريّة من الفلاسفة ، أن ترجمت إلى اللغة العربيّة وكان هناك ما جعل أمر تلك الترجمة سهلاً ، فقد كانت معارف اليونان والرومان منتشرة في بلاد الفرس وسوريا منذ أن وجد العرب في بلاد فارس وسوريا ، فلمّا استولى المسلمون على ما فيها من خزائن العلوم اليونانيّة قاموا بنقل ما هو باللغة السريانيّة إلى اللغة العربيّة.
وأعان على أمر الترجمة أنّه نقل عدّة من الأسرى إلى العواصم الإسلاميّة ، فصار ذلك سبباً لإنتقال كثير من آراء الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي وانتشارها بينهم ولا شكّ أنّ بين تلك المعارف ما كان يضاد مبادئ الإسلام وأُسسه وكان بين المسلمين من لم يتدرع في مقابلها ومنهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها.
فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات ، نظراء : ابن أبي العوجاء ، وحماد بن عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن أياس ، وعبد الله بن المقفع ، فهؤلاء وأمثالهم بين غير متدرع وغير متورع ، اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الملاحدة والثنوية من الروم والفرس إلى أن عاد بعض المتفكّرين غير مسلمين للإسلام إلّا بالقواعد الأساسيّة كالتوحيد والنبوّة والمعاد وكانوا ينشرون آراءهم علناً ويهاجمون بها عقائد المؤمنين.
نحن نرى في التراث اليوناني بفضل التراجم التي وصلت إلينا أبحاثاً حول علمه سبحانه وإرادته وقدرته وأفعاله حتّى مسألة الجبر والإختيار ، وقد كان لتلك الآراء تأثير عميق على عقول المسلمين وهم بين متدرّع بالحضارة الإسلاميّة يكافح الشبه ويميّز الصحيح من الفاسد ، وبين ضعيف في التعقّل والتفكّر ليس له من الشأن إلّا الأخذ ، فصارت تلك الآراء من مبادئ تكوّن الفرق واختلاق النحل.
دور أهل البيت في عصر الترجمة
وفي هذا الجوّ المشحون بالآراء والعقائد الصحيحة وغير الصحيحة ، قام أهل البيت بتربية جموع غفيرة من ذوي الإستعداد على المبادئ الأصيلة والمفاهيم الإسلاميّة وتعريفهم بالأُصول الدينيّة المستقاة من الكتاب والسنّة والعقل ، وصاروا يناظرون كلّ فرقة ونحلة بما فيهم الملاحدة والثنويّة بأمتن البراهين وأسلمها.
وقد حفظ التاريخ أسماء طائفة منهم ، كهشام بن الحكم ، وأبي جعفر مؤمن الطاق ، وجابر بن يزيد ، وأبان بن تغلب البكري ، ويونس بن عبد الرحمن ، وفضال بن الحسن بن فضال ، ومحمّد بن خليل السكاك ، وأبي مالك الضحاك ، وآل نوبخت جميعاً ، إلى غير ذلك ممّن برع في علم الكلام ، وناظر الفرق ، بين من تتلمذ على الأئمّة ، أو من تتلمذ على خريجي مذهبهم ، وتواصلت حلقات مناظراتهم حتّى القرون المتأخّرة وألفت كتب في العقائد والكلام والملل والنحل ، يقف القارئ على تاريخهم في كتب الرجال والتراجم وقد حفظ الكثير من نصوص هذه المناظرات والإحتجاجات لحدّ الآن.
كما قامت المعتزلة بمقاومة هذه التيارات الإلحاديّة والثنوية ، وبإزالة الشبه بفضل الأُصول القرآنيّة والعقليّة ، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً وإن لم يكونوا ناجحين في كلّ ما هو الحقّ من الأُصول والفروع الإسلاميّة.
وبما أنّ أهل الحديث لا يحسنون طريقة المعتزلة في الإحتجاج والبرهنة ، لذا كانوا يعادونهم ، كما أنّ الملاحدة والثنوية كانوا يعادونهم أيضاً ، لما يجدون فيهم من قوّة التفكير والقدرة على الإحتجاج والمناظرة. وعلى ذلك فقد وقعت المعتزلة بين عدوين : أحدهما من الداخل ، وهم أهل الحديث ، والآخر من الخارج ، وهم الملاحدة والثنوية.
نعم كان بين المسلمين من يأبى الخوض في المسائل العقليّة ويكتفي بما وصل إليه من الصحابة ، ويقتصر على ما حصل عليه من الدين بالضرورة وهم الحشوية من أهل الحديث وأكثر الحنابلة ولما التحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بالحنابلة لم يجد محيصاً في الدفاع عن عقائدهم عن الخوض في المسائل الكلاميّة ، فألّف رسالة أسماها « في استحسان الخوض في الكلام ».
مقتبس من كتاب : [ بحوث في الملل والنحل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 104 ـ 106