« المعاد » في الملل والشرائع السابقة
الاعتقاد بالمعاد عنصر أساسي في كلّ شريعة لها صلة بالسماء ، ويحتلّ في الأصالة والتأثير محلّ العمود الفقري في بدن الإنسان ، وبدونه تصبح الشرائع مسالك بشريّة ماديّة ، لا تمت إلى الله سبحانه بصلة. فقوام الشريعة بالمبدأ والمعاد ، ولأجل ذلك لا ترى شريعة تتسم بأنّها شريعة إلهيّة ولو بعد تحريفها ، خالية عن الدعوة إلى الحياة الأُخرويّة ، وحشر الإنسان بعد الموت ، وإقامة الحساب
والجزاء ، والثواب والعقاب ، وسيوافيك نصوص العهدين في هذا المجال.
إنّ المحقّقين في التاريخ البشري يصرحون بأنّ المجتمع الإنساني لم يزل معتنقاً لهذا الأصل ، وإن لم يعلم دينه ولا كتابه. وإليك التوضيح بوجوه :
1 ـ إنّ البدو القاطنين في الصحاري والبراري ، الذين يعدّون نموذجاً للمجتمع البدائي المنقرض ، لهم طقوس خاصة في دفن الموتى تدلّ على اعتقادهم بعودة الأرواح إلى الأجسام المدفونة ، ومن ذلك أنّهم يضعون حجارة كبيرة على صدور موتاهم ، ويربطون أعضاءهم بحبال متينة ، لئلا يتحرّكوا بعد عود الروح ، ويخرجوا من أماكنهم (1).
2 ـ إنّ المصريين ، ذوو الحضارة القديمة ، كانوا يعتقدون أنّ الروح بعد خروجها من البدن ، لها علاقة به ، وسوف ترجع إليه ، ولذلك كانوا يتركون في القبور منافذ ليسهل دخول الروح إليها ، ويضعون بعض الطعام والشراب في جنب الميت . ولأجل صيانة الموتى عن أذى السباع ، قام المتمكنون منهم ببناء
الأهرامات العظيمة فوق قبورهم.
3 ـ عند البراهمة تثليث تحيّلوه منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة ، وأطرافه الثلاثة : بَراهما ، وفيشنو ، وسيفا. فبَراهما هو الإله الخالق ، وفيشنو الإله الحافظ ، وسيفا الإله الهادم. والتناسخ احتلّ في الديانة البراهمية مكان الاعتقاد بالمعاد ، ويراد منه رجوع الروح بعد انحلال جسدها إلى العامل الأرضي متلبسةً بجسد جديد ، إنساني أو حيواني (2). فالاعتقاد بالتناسخ صورة منسوخة من العقيدة بالمعاد ، وإرضاء لفطرة الإنسان في حب البقاء.
4 ـ إنّ مسلك البوذية الذي أسسه بوذا ، غير خال عن عود الأرواح إلى الأبدان عوداً تناسخياً ، فإنّ لهذا المذهب دعائم وأُسس منها : « الألم من لوازم الوجود » ، ومنها : « الرجوع إلى هذه الدنيا بسبب الالتياث بالشهوات في حياة سابقة » ، ومنها : « الخلاص من أثر الشهوات هو الوسيلة الوحيدة للنجاة من الحياة الأرضية بعد الموت ، وتلك النجاة هي نجاة من الألم ، وسبب للوصول إلى
مكانة » (3).
5 ـ وعند المجوس أيضاً ، فإنّ الاعتقاد ببقاء الروح بعد الموت ، ومجازاة الإنسان حسب أعماله ، من الأُصول الأصيلة في ديانتهم ، حتى أنّ بعض المرجفين في الكلام (4) تصوّر أنّ تعاليم التوراة والمسيح في المعاد مأخوذة من تلك الديانة ، ولكن عزب عنه أنّ المجوسيّة ، إن كانت شريعة سماويّة ، يجب أن تشترك مع سائر الشرائع في الأُصول ، وليست وحدة الأُصول فيها ، دليلاً على أخذ المتأخّر من
المتقدّم ؛ فإنّ الشريعة فيض سماوي ، أُفيض من السماء إلى الإنسان الأرضي في أزمنة خاصّة حسب لياقته وكفاءته ، فاشتركت كلّ الشرائع في الأُصول ، واختلفت في المنهاج.
هذا بعض ما يمكن أن نلفت النظر إليه في عموميّة المعاد بين الأقوام والشعوب ، وقد اختصرنا الكلام فيه ؛ لأنّ الأوْلى عطف النظر إلى الكتب السماويّة ، المجموعة في العهدين ، وما ينقله القرآن الكريم لنرى تركيز الأنبياء في القرون السالفة على المعاد ، ونقتصر في المقام على موارد خاصّة.
الهوامش
1. جامع الأديان : تأليف جان ناس ، ترجمة علي أصغر حكمت ، ص 17.
2. دائرة المعارف : لفريد وجدي ، ج 2 ، ص 388.
3. لاحظ دائرة المعارف لفريد وجدي ، ج 2 ، ص 155 و 161.
4. الكاتب الفارسي حميد نير نوري في كتابه : « مساهمة الإيرانيين في الحضارة العالمية » ، ص 228.
مقتبس من كتاب الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل الجزء 4