أدلة التقيّة وأصولها التشريعيّة
أدلّة التقيّة من الإجماع
يعتبر الإجماع في أصحّ أقوال المسلمين أداة كاشفة عن وجود دليل متين وقويم كآية من كتاب الله عزَّ وجلّ أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وان اعتبره فريق منهم دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُنّة ، وهو بهذا المعنى يستحيل في حقّه الخطأ ويكون معصوماً كعصمة الكتاب والسُنّة المطهّرة ، وان من ردَّ عليه هو كمن ردّ قول الله عزَّ وجلّ وسُنّة رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومع هذا فلم يختلف اثنان من المسلمين في أن أهمّ مصادر التشريع في الإسلام هما : القرآن الكريم ، والسُنّة المطهّرة القطعيّة ، وانّه لا يوجد مصدر تشريعي آخر يبلغ شأوهما في الحجّية.
والحقّ ، ان ما تقدّم من أدلّة التقيّة يغني عمّا سواه ، خصوصاً مع اتّفاق المفسّرين والمحدّثين على عدم وجود الناسخ لتلك الأدلّة ، مع إنعدام الشكّ في ما دلّت عليه من جواز التقيّة عند الخوف الشخصي أو النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك وعليه سيكون الحديث عن الإجماع على مشروعيّة التقيّة حديثاً زائداً عند من لا يراه دليلاً مستقلّاً وقائماً بنفسه.
ولهذا سنكتفي بقول من يراه دليلاً مستقلّاً كالكتاب والسُنّة ، إذ سيكون ذلك أبلغ في دحض حجّة كون التقيّة نفاقاً كما يزعم بعض أتباع القول باستقلاليّة الإجماع الذي ادّعاه غير واحد من علماء العامّة كما يفهم من أقوالهم وإليك نموذجاً منها :
١ ـ قال أبو بكر الجصاص الحنفي ـ ت / ٣٧٠ هـ ـ : « ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم » (1).
٢ ـ ابن العربي المالكي ـ ت / ٥٤٣ هـ ـ ذكر في كلامه عن حديث الرفع كما مرّ اتّفاق العلماء على صحّة معناه ، وانّهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن إجماعهم على أن ما استُكرِه عليه الإنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقيّة (2).
٣ ـ عبد الرحمن المقدسي الحنبلي ـ ت / ٦٢٤ هـ ـ قال : « أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطرّ وكذلك سائر المحرّمات التي لا تزيل العقل » (3).
والإكراه داخل في المفهوم العامّ للضرورة كما سبق التأكيد عليه ، كما أن الإضطرار إلى أكل الميتة كما قد يكون بسبب المخمصة ، فقد يكون بسبب الإكراه من ظالم أيضاً.
٤ ـ القرطبي المالكي ـ ت / ٦٧١ هـ ـ قال : « أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل انّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان » (4).
٥ ـ ابن كثير الشافعي ـ ت / ٧٧٤ هـ ـ قال : « اتّفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له ان يوالي أيضاً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى » (5).
٦ ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي ـ ت / ٨٥٢ هـ ـ قال : « قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر : أجمعوا على أن من أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، أنّه لا يحكم عليه بالكفر » (6).
٧ ـ الشوكاني ـ ت / ١٢٥٠ هـ ـ قال : « أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر » (7).
٨ ـ جمال الدين القاسمي الشامي ـ ت / ١٣٣٢ هـ ـ قال : « ومن هذه الآية : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) استنبط الأئمّة مشروعيّة التقيّة عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني » (8).
الهوامش
1. أحكام القرآن / الجصاص ١ : ١٢٧.
2. أحكام القرآن / ابن العربي ٣ : ١١٧٩.
3. العدّة في شرح العمدة / عبد الرحمن المقدسي : ٤٦٤ ، نشر مكتبة الرياض الحديثة.
4. الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ١٨٠.
5. تفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٢ : ٦٠٩.
6. فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ١٢ : ٢٦٤.
7. فتح القدير / الشوكاني ٣ : ١٩٧.
8. محاسن التأويل / القاسمي ٤ : ١٩٧. واُنظر هذه الأقوال وغيرها من الأقوال الاُخر المصرحة بإجماع علماء العامّة على مشروعيّة التقيّة في كتاب واقع التقيّة / السيّد ثامر هاشم العميدي : ٩٣ ـ ٩٦ ، ط ١ ، نشر مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة ، ١٤١٦ هـ.
مقتبس من كتاب : [ التقيّة في الفكر الإسلامي ] / الصفحة : 92 ـ 94