طرمّاح بن عدي

البريد الإلكتروني طباعة

طرمّاح بن عدي

قال الشيخ الطوسي في رجاله (1) : الطرمّاح بن عدي رسوله إلى معاوية (2) وعدّه من أصحاب الحسين عليه السلام وكذلك ورد ذكره في رجال التفرشي.

وقال المقامقاني : الطرمّاح بن عدي غاية في الجلالة والنبل والشرف ، ويكفيه حواره مع معاوية حيث أظلم الدنيا بعينيه ، ولازم الحسين عليه السلام حتّى إذا كان يوم العاشر قاتل قتالاً شديداً وجرح جراحات منكرة ، ووقع من على ظهر فرسه وبه رمق فاحتمله قومه وعالجوه حتّى برئ وبقي على ولائه وإخلاصه حتّى فارق الدنيا.

ويظهر من هذه العباراة أنّ الطرمّاح لم يستشهد في معركة الطفّ ولكن هذا معارض بما أورده ابو مخنف في المقتل من أنّ الطرمّاح قُتل في كربلاء (3). يقول :

فبرز من بعده الطرمّاح بن عدي رضي الله عنه وأنشأ بهذه الأبيات :

إنّي طرمّاح شديد الضرب

 

وقد وثقت بالإله الربّ

إذا انتضيت في الهياج عضبي

 

يخشى قريني في القتال غلبي

فدونكم فقد قسست قلبي

 

على الطفات أو بذاك صلبي

قال : ثمّ حمل على القوم ولم يزل يقاتل حتّى قتل سبعين فارساً وكبا به جواده فأراده إلى الأرض صريعاً فأحاطت به القوم ( كذا ) واحتزّوا رأسه (4).

ونقله في ناسخ التواريخ بالسياق نفسه ص 278 ، قال بعد ذكره الرجز : وحمل على القوم كالأسد الجريح الذي تجاوز نفسه أو النمر الذي أُطلق بعد عقال أو الرجل قُتل أبوه ، فقلب الميمنة على الميسرة ، وقتل الفرس والفارس حتّى بلغ قتلاه سبعين لعيناً ، وبينما هو في قلب المعركة وقد حمي وطيسها إذ كبى به جواده فأحاط به العدوّ واحتزّوا رأسه رحمة الله عليه.

ويقول اليزدي في « مخزن البكاء » : وتقدّم الطرمّاح إلى ميدان القتال وقاتل قتالاً شديداً إلى أن استشهد.

ويقول في منتهى الآمال : ولمّا بلغ سيّد الشهداء عُذيب الهجانات رأى راكبين أربعاً مُقبلين من ناحية الكوفة على هجنهم ويقودون فرساً لنافع بن هلال ودليلهم الطرمّاح.

ويظهر من هذه الرواية لحوق الطرمّاح بالحسين عليه السلام في عُذيب الهجانات.

وفي رواية البحار عن مقتل محمّد بن أبي طالب : لمّا ألحّ الحرّ على الحسين بالنزول وضايقه مضايقة شديدة ، أقبل الحسين عليه السلام على أصحابه وقال : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادّة ؟ فقال الطرّماح : نعم يا بن رسول الله ، أنا أخبر الطريق ، فقال الحسين عليه السلام ... فسار الطرمّاح وأتبعه الحسين عليه السلام وأصحابه ، وجعل الطرمّاح يرتجز ويقول :

يا ناقتي لا تذعري من زجري

 

وامضي بنا قبل طلوع الفجر

بخير فتيان وخير سفر

 

آل رسول الله آل الفخر

السادة البيض الوجوه الزُّهْر

 

الطاعنين بالرماح السُّمر

الضاربين بالسيوف البتر

 

حتّى تحلّي بكريم الفخر

الماجد الجدّ رحيب الصدر

 

أثابه الله لخير أمر

عمّره الله بقاء الدهر

 

يا مالك النفع معاً والضُّرِّ

أيّد حسيناً سيّدي بالنصر

 

أيّد حسيناً سيّدي بالنصر

على الطُّغاة من بقايا الكفر

 

على اللعينين سليلَي صخر

يزيد لا زال حليف الخمر

 

وابن زياد عهر ابن العهر (5)

وفي ناسخ التواريخ عن أبي مخنف روى أنّ الطرمّاح بن عدي قال : أُصبت بجراح منكرة يوم الطفّ فوقعت بين القتلى ولم يكن أحد يحسبني في الأحياء ، وأُقسم بأنّي لم أقل إلّا الحقّ فرأيت وأنا في حال اليقظة التامّة عشرين راكباً قد أقبلوا وعليهم الثياب البيض وقد سطعت روائح المسك منهم حتّى ملأت المكان ، فقلت : يوشك أن يكون هذا عبيد الله بن زياد قد جاء ليمثّل بجسد الحسين عليه السلام ، ثمّ رأيت أحدهم قد دنى من جسد الحسين عليه السلام وترجّل وجلس عند الجسد وكانت الرؤوس ساعتئذٍ تحمل إلى الكوفة.

فأشار هذا الجالس إلى جهة الكوفة وإذا بالرأس الشريف قد التحق بالجسد وراح ذلك الجالس يخاطبه ويقول : يا ولدي ، قتلوك ، أتراهم ما عرفوك ، ومن شرب الماء منعوك ، وما أشدّ جرأتهم على الله ( القاهر الغالب ) ثمّ رمق الحاضرين معه بنظرة : يا أبي آدم ، ويا أبي إبراهيم ، ويا أبي إسماعيل ، ويا أخويّ موسى وعيسى ، ألا تحزنكم ما فعلته أُمّتي بولدي ، لا أنالهم الله شفاعتي.

قال الطرمّاح : فعلمت أنّه رسول الله (6).

أقول : وقع الخلاف فيما نحن فيه من عدّة وجوه :

الأوّل : هل الطرمّاح هذا هو ابن عدي بن حاتم الطائي أو غيره كما شوهد في كثير العبارات ؟ نعم هو ابن عدي وليس ابن حاتم لأنّ لعدي ثلاثة أولاد أحدهم طرفة ، والثاني طريف ، والثالث مطرف ، وهؤلاء الثلاثة كانوا مع أمير المؤمنين عليه‌السلام ونالوا الشهادة بين يديه ، وكان قد أُوذي من أهل الكوفة في أولاده وهو من أشرافهم حتّى قيل له : احترق بنارهم أو مت كمداً ، فكان يجيبهم : تمنّيت أنّ لي ألفاً من الولد مثلهم فأُقدّمهم بين يدي أمير المؤمنين مولاي ليسبقوني إلى الجنّة.

وقال له معاوية أيضاً في أحد مجالسه : ما أنصفك عليّ لأنّ ولديه الحسن والحسين سلما من القتل ووقع على أولادك ! فقال عدي : بل أنا والله ما أنصفته لأنّه قُتل وبقيت حيّاً بعده.

وعلى كلّ حال فقد انقطع نسله بعد أولاده الثلاثة وتوفّي ولا عقب له ، ولكن المامقاني ذكره له ولداً اسمه محمّد ، كما قال في ترجمته : عدي بن حاتم من أصحاب رسول الله ومن السابقين الأوّلين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين وثبت على العهد لم يحل ولم يزل ، وكان عدي رجلاً شريفاً جواداً عظيم المنزلة وحاضر البديهة ، ذهبت إحدى عينيه في حرب الجمل ، واستشهد ولده محمّد في حرب صفّين والتحق بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين بالحسن عليه السلام وتوفّي بعد أن عمّر وبلغ من السنين مائة وعشرين سنة عام سبع وستّين أو ثمانٍ وستّين في مدينة الكوفة. وقال : إنّي أعتبره على جانب عظيم من الوثاقة والوجاهة.

وفي الجزء الأوّل من منتهى الآمال ذكر له ترجمة وافية وكذلك في تحفة الأحباب (7).

الثاني : هل صحب الطرمّاح الإمام إلى كربلاء وقاتل معه ـ كما سبق وسمعتم ـ أو أنّه التقى به على نحو الصدفة وكلّمه ثمّ توجّه تلقاء قبيلته ـ كما في نفس المهموم ص 104 (8) ـ أنّ الطرمّاح بن عدي لم يحضر وقعة الطفّ ولم يكن من الشهداء بل لمّا سمع خبر شهادة الحسين رجع إلى مكانه.

أقول : يصحّ قول الشيخ إذا اعتبرنا الطرمّاح مع الحكم مع ابن عدي واحداً وبما أنّه نقل حكاية الطرمّاح بن الحكم باسم ابن عدي من ثمّ نفى شهادته بالطفّ وحكاية الطرمّاح بن الحكم كما يلي : قال صاحب ناسخ التواريخ : جاء في الخبر أنّ الطرمّاح بن الحكم كان يحمل لأهله الميرة ويريدهم بها وكان من عادة أهل أجاء (9) وفيد أن يدّخروا لأنفسهم طعام حول كامل بل يدّخرون المؤون والعلف لزائري بيت الله في فيد ويعرضونه للبيع.

ومجمل القول أنّ الطرمّاح التقى بالإمام عليه السلام بعد قتل قيس بن مسهّر ، فقال (10) :

يا بن رسول الله ، إنّي لا أرى معك من يحميك ، وإن لم يكن لك سواهم فإنّي أخاف عليك أن لا تبلغ الكوفة ، ولقد رأيت قبل رحيلي عن الكوفة بيوم في ظهر الكوفة جموعاً غفيرة لم أر مثلهم حتّى اليوم فسألت : ما يفعل هؤلاء ؟ قيل لي :

يعدّون العدّة لحرب الحسين عليه السلام ، وأنا أُقسم عليك بالله إن استطعت أن لا تتقدّم نحوهم بشبر ، وإن شئت بلداً منيعاً يقيك بأس العدوّ حتّى ترى ما يؤول إليه أمر القوم وتسنح لك الفرصة وتستقبل أمرك على بصيرة فإنّي أتقدّم إليك بمشورة إن قبلتها أن تذهب معي إلى جبلنا « أجاء » لأنّه جبل منيع ولأنّنا امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن شرّ الأحمر والأصغر فما ذللنا ولا هنّا أبداً ، فهلمّ معي يا سيّدي حتّى أُنزلك به ويرتاح بالك ، فلن تمرّ أيّام حتّى تقبل عليك جموع طيّئ المقيمين في « أجاء وسلمى » رجالاً وفرساناً وتحيط بك فأقم ما شئت بيننا فإذا قصدك العدوّ بسوء فأنا أتعهّد لك بعشرين ألفاً من الرجال الأشدّاء المقاتلين من طيّئ يقاتلون بين يديك ويمنعوك أن تصل إليك يد بسوء ما كانت فيهم عين تطرف.

فقال له الإمام عليه السلام : جزاك الله وقبيلتك خير جزاء المحسنين ، إنّ بيني وبين القوم موعداً لا بدّ من بلوغه فإنّ عافانا الله من بأس العدوّ وحمانا من شرّه وإن قضى علينا بغير ذلك فسوف نفوز بالشهادة والسعادة (11).

قال أبو مخنف : فحدّثني جميل بن مرثد قال : حدّثني الطرمّاح بن عدي :

فودّعته وقلت له : دفع الله عنك شرّ الجنّ والإنس ، إنّي قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة ومعي نفقة لهم فآتيهم فأضع ذلك فيهم ، ثمّ أقبل إليك إن شاء الله فإن ألحقك فوالله لأكوننّ من أنصارك.

قال عليه السلام : « فإن كنت فاعلاً فعجّل رحمك الله ».

قال : فعلمت أنّه مستوحش إلى الرحال حتّى يسألني التعجيل ، قال : فلمّا بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم وأوصيت ، فأخذ أهلي يقولون : إنّك لتصنع مرّتك هذه شيئاً ما كنت تصنعه قبل اليوم ، فأخبرتهم بما أُريد وأقبلت في طريق بني ثعل حتّى إذا دنوت من عُذيب « الهجانات » استقبلني « سماعة بن بدر » فنعاه إليّ فرجعت (12).

فظهر ممّا تقدّم أنّ صاحب هذا الخبر هو الطرمّاح بن الحكم لا الطرمّاح بن عدي.

الثالث : في موت الطرمّاح في المعركة وعدمه فهل يا ترى حمله قومه من المعركة وداووه حتّى برئ ـ كما نقلنا ذلك في صدر ترجمته عن المامقاني ـ أو أنّهم احتزّوا رأسه في نفس الوقت كما قال ذلك آخرون. وبناءاً على المعنى الأوّل المنقول عنه من رؤية الفرسان العشرين ثمّ تبيّن أنّه النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله ولا استبعاد في ذلك ، وبناءاً على المعنى الثاني فإنّه ساقط عن الاعتبار ، والله أعلم بحقيقة الحال.

الهوامش

1. رجال الطوسي ، ص 70.

2. ذكر هذا الكتاب المجلسي في ثامن البحار وذكره أيضاً الحاجي ملّا شريف الشيرواني في درّة الصدف ونحن نسوق هنا رواية درّة الصدف ، قال : لمّا فرغ الإمام من حرب الجمل وعاد إلى الكوفة كتب إليه معاوية كتاباً قال فيه :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب ، أمّا بعد ، فقد اتّبعت ما يضرّك وتركت ما ينفعك ، وخالفت كتاب الله وسنّة محمّد ، وقتلت طلحة والزبير ، وحاربت أُمّ المؤمنين ، وكان رسول الله يباهي بهم ، فوالله لأرمينّك بشهاب لا يطفيه الماء ، ولا تزعزعه الرياح ، إذا وقع وقب وإذا وقب ثقب ، وإذا ثقب التهب ، فلا تغرّنّك الجيوش ، واستعدّ للحرب ، والسلام ».

فلمّا وصل الكتاب إلى أمير المؤمنين عليه السلام فكّه وقرأه فدعا بقرطاس ودواة وكتب :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله وابن عبده عليّ بن أبي طالب عليه السلام أمير المؤمنين أخ الرسول وزوج البتول وأب السبطين الحسن والحسين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أمّا بعد ، فإنّي أفنيت قومك يوم بدر ، وقتلت جدّك وعمّك وخالك ، والسيف الذي قتلتهم به هو معي يحمله ساعدي وقوّة من يدي كما جعله النبيّ في كفّي ، ونصرة من ربّي تبارك وتعالى ، فوالله ما استبدلت بالله ربّاً ، ولا بمحمّد صلّى الله عليه وآله نبيّاً ، ولا بسيف بدلاً ، فبالغ من رأيك واجهد ولا تنقص فقد استحوذ عليك الشيطان واستفزّك الجهل والطغيان ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ».

ثمّ طوى عليه السلام كتابه ودعى برجل من أصحابه يقال له : الطرمّاح بن عدي ، وكان رجلاً جسيماً طويلاً فصيحاً متكلّماً لسناً ، لا يكلّ لسانه في الكلام ، ولا يملّ عن الجواب ، فعمّمه بعمامة وأركبه على جمل بازل فائق أحمر ، فسوّى راحلته ووجّهه إلى دمشق ، فسأل عن بوّاب معاوية من أصحابه ، فقيل له : من تريد ؟ فقال له : أُريد جعثماً وجرولاً وخاشناً وفاحماً أبو الأعور السلمي وأبو هريرة الدوسي ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص.

قال : هم بباب الخضراء ببستان يتنزّهون ، فانطلق طرمّاح حتّى أشرف على ذلك المكان فإذا القوم ببابه ، قالوا : يا أعرابي ، هل عندك خبر من السماء ؟ قال : بلى ، الله في السماء وملك الموت في الهواء ، وسيف عليّ عليه السلام في القفا ، فاستعدّوا لما ينزل عليكم من البلاء يا أهل النفاق والشقاء.

فقالوا : من أين أقبلت ؟ قال : من عند حرّ تقيّ زكيّ مرضيّ. قالوا : من تريد ؟ قال : هذا الدعيّ& الرديّ الذي تزعمون أنّه أميركم ، فعلموا أنّه رسول أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية ، فقالوا : ما تريد منه ؟ قال : أُريد الدخول عليه ، فقالوا : عنك مشغول ، قال : بماذا ؟ أبوعد أم وعيد ؟ قالوا : لا ولكن يشاور أصحابه يما يكفيه غداً ، قال : فسُحقاً له.

فكتبوا بخبره إلى معاوية : أمّا بعد ، فقد ورد من عند عليّ بن أبي طالب رجل أعرابيّ بدويّ له لسان فصيح وقول مليح ، طلق زلق ، يتكلّم ولا يكلّ ، يطول ولا يملّ ، فاستعدّ لجوابه كلاماً بالغاً ، ولا تكن عنه ساعياً غافلاً ، والسلام.

فلمّا علم الطرمّاح بذلك أناخ راحلته ونزل عنها وعقلها وجلس مع القوم الذين يتحدّثون ، فلمّا بلغ الخبر إلى معاوية أمر ابنه يزيد لعنه الله يضرب المصاف على داره وكان على وجه يزيد أثر الضرب وإذا تكلّم كان جهير الصوت ، فأمر يزيد بضرب المصاف على باب داره ففعلوا ذلك ، فقالوا للطرمّاح : هل لك أن تدخل معاوية ؟ فقال : لهذا جئت ، وبهذا أُمرت إليهم ومشى ، فلمّا رأى أصحاب والمصاف وعليهم ثياب سود ، فقال : من هؤلاء القوم كأنّهم زبانية مالك في ضيق المسالك ، فلمّا دنى نظر إلى يزيد وقال : من هذا الميشوم الواسع الحلقوم المضروب على الخرطوم ، فقالوا : هذا يزيد ، فقال : لا زاد الله زاده ، ولا بلغ مراده ، فسمع يزيد بذلك وقصد قتله ثمّ كره أن يحدث أمراً دون أبيه ، فكظم غيظه وأطفأ ناره وسلّم عليه ، وقال : يا أعرابي ، إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ، قال : سلامه معي من الكوفة ، قال يزيد : سلني ما شئت فقد أُمرت بقضاء حاجتك ، قال : حاجتي أن يقوم من مقامه حتّى يجلس من هو أولى في هذا المقام ، فقال : ثمّ ما تريد ؟ قال : الدخول عليه.

فأمر برفع الحجاب وأدخله على معاوية ، فلمّا دخل عليه الطرمّاح وهو متنعّل ، قالوا : اخلع نعليك ، فالتفت يميناً وشمالاً ثمّ قال : هذا الوادي المقدّس فأخلع نعلي ، فنظر إلى معاوية قاعداً على السرير مع قوّاد عساكره وحاشيته ، فمثل بين يديه فقال : السلام عليك أيّها الملك العاصي ، فقال معاوية : ويحك يا أعرابي ! ما منعك أن تسلّمني ( كذا ) بإمرة المؤمنين ، قال : ثكلتك أُمّك ، نحن المؤمنون فمن أمّرك علينا ؟ قال : ما معك ؟ قال : كتاب مختوم من إمام معصوم. قال : ناولنيه ، قال : أكره أن أطأ فراشك ، قال : ناوله وزيري وأشار إلى عمرو بن العاص ، فقال : هيهات ، ظلم الأمير وخان الوزير ، فقال : ناوله إلى ولدي يزيد ، قال : ما فرحنا بإبليس كيف نفرح بأولاده ، قال : ناوله مملوكي وأشار إلى غلام له قائم على رأسه ، قال : مملوك اشترى من مال استخرج من غير حقّ ، قال : ويحك يا أعرابي ! ما الحيلة في أخذ الكتاب منك ؟ قال : أن تقوم من مقامك وتأخذ الكتاب بيدك على كره منك فإنّه كتاب رجل كريم وسيّد عليم.

فلمّا سمع معاوية هذا وثب من مكانه وأخذ الكتاب وقرأه ووضعه تحت ركبته ثمّ قال : كيف خلّفت عليّاً بن أبي طالب ؟ قال : خلّفته كالبدر الطالع ، حواليه أصحابه كالنجوم ، إذا أمرهم أمراً& ابتدروا به ، وإن نهاهم عن شيء لم يباشروه ، بطل شجاع ، أن لقي حصناً هدمه وألقاه ، وإن لقي قرناً صلبه وأخزاه ، وإن لقي عدوّاً صلبه وأفناه. قال معاوية : فكيف خلّفت الحسن والحسين ؟ قال : خلّفتهما شابّين تقيّين نقيّين أديبين خطيبين سيّدين سندين طيّبين طاهرين ، فاضلين كاملين عاملين ، يصلحان للدنيا والآخرة.

قال : ما أفصحك يا أعرابي ، فقال : لو بلغت باب أمير المؤمنين عليه السلام لرأيت الفصحاء البلغاء الفقهاء العلماء النجباء الأُدباء الأتقياء الأصفياء لغرقت في بحر عميق لا تنجو من لجّته يا معاوية.

قال عمرو بن العاص لمعاوية : هذا رجل بدويّ لو أرضيته بالمال ليقول فيك خيراً ، فقال معاوية : يا أعرابي ، ما تقول في الجائزة تأخذها منّي ، قال : إنّي أُريد استقباض روحك من بدنك وكيف باستقبال مالك ، فأمر له بعشرة آلاف درهم ، قال : أتحبّ أن أزيدك ، قال : زدنا فإنّك لا تعطيه من مال أبيك وأنا والله أولى من يزيد ، فأمر له بعشرة آلاف درهم ، ثمّ قال الطرمّاح : إنّ الله وتر يحبّ الوتر ، قال معاوية : أعطوه عشرة آلاف أيضاً ، فأبطأ الخازن عليه ساعة فمدّ الطرمّاح بطره إلى أبراده فقال لمعاوية : أظنّك بما أمرت لي كريح تهبّ من قلل ، قال : لِمَ ؟ قال : لأنّك أمرت لي بجائزة لا أراها ولا تراها ، فأمر معاوية أن يسرع بإيرادها فوضعت بين يديه ، فلمّا قبض الدراهم سكت ولم يتكلّم بعد ذلك.

فقال عمرو بن العاص : كيف ترى جائزة أمير المؤمنين ؟ قال : هذا مال المسلمين من خزائن ربّ العالمين أخذه عبد من عباده الصالحين.

فالتفت معاوية إلى كاتبه فقال : اكتب جواب كتابه ، فوالله لقد أظلم الدنيا عليّ ، فأخذ الكاتب القرطاس وكتب :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله وابن عبده معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب : أمّا بعد فإنّي آتي بجنود إليك من جنود الشام كانت مقدّمتها بالكوفة وساقتها بساحل البحر ، ولأرينّك ألف جبل من خردل تحت كلّ خردل ألف مقاتل ».

فلمّا نظر الطرمّاح إلى الكاتب وما خرج من تحت قلمه ، قال : سبحان الله ! ما أدري أيّكما أكذب ، أنت وادّعائك الخلافة أم كاتبك وما خرج من تحت قلمه ، لو اجتمع أهل المشرق والمغرب لن يقوم مقامه.

فقال معاوية : لقد كتب بغير أمري ، فقال : إن كتب بما لم تأمره فقد استضعفك ، وإن كتب بما أمرته فقد استفضحك. ثمّ قال الطرمّاح : إنّ لعليّ بن أبي طالب ديكاً أعلى الصوت ، عظيم المنقار ، يلتقط بخيشومه ويضرب بقانصته ، ويحيط بحوصلته. فقال معاوية : والله إنّه لذلك وهو مالك الأشتر النخعي. ثمّ قال : رح بسلام منّى ، فأخذ الكتاب وحمل المال وخرج من عنده وركب مطيّته وسار ، ثمّ التفت معاوية إلى أصحابه فقال : لو أُعطيت جميع مالي لرجل منكم لا يؤدّي عُشر ما أدّى هذا الرجل عن صاحبه ، فوالله لقد ضيّق الدنيا عليّ بحذافيره.

فقال عمرو بن العاص : لو أنّ لك منزلة من النبي كمنزلة ابن عمّه وكنت على الحقّ لأدّينا عنك بأفضل من ذلك أضعافاً مضاعفة ، فقال معاوية : فضّ الله فاك ، فوالله لكلامك عليّ أشدّ من كلامه.

( منه رحمه الله )

أقول أنا مترجم : راجع نحواً من هذه الحكاية في بحار الأنوار ج 33 ص 289 وعفى الله عن المؤلّف حين ينقلها في كتابه مع علمه بوضعها لأنّه ناقد ينقد المعاني ، خبير بصحّتها وسقمها ، وغثّها وسمينها ، فهو وإن كان نقلها في الهامش إلّا أنّها فيما يظهر لي معتمدة لديه أراد أن يتحف بها قرّائه ولكن قاته أنّه تصبّ في صالح بان هند الذي أُعطي الحلم العجيب على هذا الأعرابي والكرم الغريب ، وأُعطي رسول أمير المؤمنين البذائة والجشع لأنّه يذري السباب على معاوية وأصحابه فلا يجيبونه إلّا بأحسن القول ، ويستبطئ الصلة ويستعجلها ، ويستقلّها ويطلب المزيد ، وفي كلّ ذلك ينعم له معاوية ، فمن أين جائه هذا الحلم وهذا الكرم ليت شعري.

3. وهذا بعكس ما جاء في مقتل أبي مخنف ، راجع ص 88 إلى ص 90 منه.

4. أقول : هذا ينافي ما سبق من أنّه لم يدرك القتال في كربلاء.

5. بحار الأنوار ، ج 44 ص 279.

6. أقول : جاء في بحار الأنوار نظير هذا عن هند زوجة يزيد قالت : كنت آخذ مضجعي فرأيت باباً من السماء وقد فتحت ، والملائكة ينزلون كتائب إلى رأس الحسين وهم يقولون : السلام عليك يا أبا عبد الله ، السلام عليك يا بن رسول الله ، فبينما أنا كذلك إذ نظرت إلى سحابة قد نزلت من السماء وفيها رجال كثيرون وفيهم رجل درّيّ اللون قمريّ الوجه فأقبل يسعى حتّى انكبّ على ثنايا الحسين يقبّلهما وهو يقول : يا ولدي قتلوك ، أتراهم ما عرفوك ، ومن شرب الماء منعوك ، يا ولدي أنا جدّك رسول الله ، وهذا أبوك عليّ المرتضى ، وهذا أخوك الحسن .. الخ. ( البحار ، ج 45 ص 194 )

7. منتهى الآمال ، ج 1 ص 332.

8. نفس المهموم ، ص 176 ط المطبعة الحيدريّة سنة 1421 هجريّة.

9. أجاء وزان قضاء مهموز ومقصور اسم جبل من جبال قبيلة طي يقع غربي « فيد » وهو على وزن قيد ، يقع في منتصف الطريق بين مكّة والكوفة. ( منه )

10. أُذكّرك في نفسك لا يغيرنّك أهل الكوفة لئن دخلتها لتقتلنّ وإنّي لأخاف أن لا تصل إليها فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل أجأ فإنّه جبل منيع والله ما نالنا فيه. ( منه )

11. ورد جانب من ذلك في بحار الأنوار ج 44 ص 369 ونحن نسوق لك رواية أبي مخنف لتستغني بها عمّا ترجمناه من ناسخ التواريخ. قال أبو مخنف : حدّثني جميل بن مرثد من بني معن عن الطرمّاح بن عدي أنّه دنا من الحسين فقال له : والله إنّي لأنظر فما أرى معك أحداً ، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه فسألت عنهم ، فقيل : اجتموا لي اعرضوا ثمّ يسرحون إلى الحسين ، فأنشدك الله إن قدرت على أن لا تقدم عليهم شبراً إلّا فعلت ، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتّى أنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى أجاء ، امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر ، والله إن دخل علينا ذلّ قط فأسير معك حتّى أنزلك القرية ثمّ نبعث الرجال ممّن بأجاء وسلمى من طيّئ فوالله لا يأتي عليك عشرة أيّام حتّى يأتيك طيّئ رجالاً وركباناً ثمّ أقم فينا ما بدا لك ، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيّ يضربون بين يديك بأسيافهم ، والله لا يوصل إليك أبداً وفيهم عين تطرف.

فقال له : جزاك الله وقومك خيراً ، إنّه كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ولا ندري علا تتصرّف بنا وبهم الأُمور في عاقبه. ( راجع : مقتل أبي مخنف ، ص 88 ولك أن تعرض عن الترجمة لهذه الرواية وتستغني بما رواه أبو مخنف فلست أرى فرقاً يذكر بين الحكايتين ).

12. مقتل أبي مخنف ، ص 88 ؛ تاريخ الطبري ، ج 3 ص 307.

مقتبس من كتاب : فرسان الهيجاء / المجلّد : 1 / الصفحة : 227 ـ 237

 

أضف تعليق

أولاد المعصومين عليهم السلام وأصحابهم

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية