لماذا حرمت الأمة من الإطلاع على الغيب ؟
إنّ الشريعة الإسلامية ، وإن كانت أكمل الشرائع ، والخَلَفُ من الأُمّة ،
قادر على حفظ تراثه الديني ، أو أنّ العترة الطاهرة تقوم بمهمة التبليغ ، ولأجل
ذلك أُوصد باب النبوة التشريعية والتبليغية ، إلّا أنّ إيصادها على الإطلاق يستلزم
انقطاع الفتوحات الباطنية عن طريق النبي المبعوث .
وذلك ، لأنّ انقطاع النبوة بمعنى انقطاع أخبار السماء عن أهل الأرض ،
وانقطاع الإطلاع على الغُيُوب ، وهذا خسران للأُمة ، مع أنّه كان مفتوحاً في وجه
الأُمم السالفة ، فهل معنى ذلك أنّ الأُمّة الإسلامية أقلُّ جدارة منها ، واستحقاقاً
لها ؟ .
وحاصل السؤال أنّ إيصاد باب النبوة ، لأجل كمال الشريعة واستغناء الأُمّة
عن نبي مبلغ ، وإن كان أمراً لازماً ، غير أنّ سدّ بابِ النبوة يستلزم سدّ باب
الفيوض المعنوية ، والمكاشفات الغيبية ، والمشاهدات الروحية التي تصل إلى الأُمّة
عن طريق نبيّها ؛ فرفعُ النبوة وختمها ، يستلزم ذلك الحرمان .
الجواب :
إنّ سدّ باب النبوة لا يستتبع إلّا سدّ باب الوحي في مجال تشريع الحكم ، أو
في مجال تبليغ الشريعة السابقة .
وأمّا سائر الفتوحات الباطنية فهي مفتوحة في وجه الأُمّة إلى يوم القيامة ،
من غير فرق بين الإتصال بعالم الغيب عن طريق البرهنة والإستدلال والتدبر في
آياته الآفاقية ، الذي يشير إليه تعالى بقوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (1) . وأمّا الإتصال به بلا
توسيط برهان أو دليل ، بل بمشاهده عين القلب وبصر الروح ، وشهود الحقائق
العلوية ، وانكشاف ماوراء الحسّ والطبيعة من العوالم الروحية ، ومعرفة ما يجري عليه
قلمه تعالى في قضائه وقدره ، والإتصال بجنوده سبحانه وملائكته ، واستماع كلامهم
وأصواتهم ، إلى غير ذلك من الأُمور ، إلّا أنّه مقام خطير يحصل لعدّة من المتحررين عن
سلوك طريق الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات الله ، العاملين بكتابه وسنّة نبيّه ،
حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل الأُمور الغيبية ، ومشاهدة جلاله وجماله ،
وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات وما لأعدائه من نار ولهيب
ودركات .
وليس ما ذكرنا من إمكان الإتصال ، كلمة خطابية ، أو عرفانية غير معتمِدة
على الكتاب والسنّة ، بل الكتاب الحكيم يقضي بذلك عند التأمُّل والإمعان فيه :
1 ـ قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَانًا ) (2) ، أي يجعل في قلوبكم نوراً تُفَرّقونَ به بين الحَقّ والباطل ، وتُمَيّزون به
بين الصحيح والزائف بالبرهنة والإستدلال ، أو بالشهود والمكاشفة .
2 ـ وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (3) .
والمراد من النور ، هو ما يمشي المؤمن في ضوء هدايته في دينه ودنياه ، وهذا
النور الذي يغمره نتيجة إيمانه وتقاه ، يوضحه قوله سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا
__________________
(1) سورة فصلت : الآية 53 . ونظيره الذاريات : الآيتان 20 و 21 .
(2) سورة الأنفال : الآية 29 .
(3) سورة الحديد : الآية 28 .
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (1) .
3 ـ وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (2) .
4 ـ وقال سبحانه : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ
لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (3) .
والمراد رؤيتها قبل يوم القيامة ، رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي
من آثار اليقين ، على ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (4) . وهذه الرؤية القلبية ، غير
محققة قبل يوم القيامة لمن ألهاه التكاثر ، بل مُمْتنعة في حقّه .
كما أنّ المراد من قوله : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) . هو مشاهدتها يوم
القيامة ، بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) .
فالمراد بالرؤية الأُولى رؤيتها قبل يوم القيامة ، وبالثانية رؤيتها يوم
القيامة (5) .
5 ـ وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) (6) .
فلو أنّ الإنسان جَعَلَ نفسه في مسير الهداية ، وطلبها من الله سبحانه ، لزاده تعالى
هدىً ، وآتاه تقواه .
6 ـ وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (7) . وهذه
الآية تُبَيِّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ، وواجهوا المشاق في حفظ
__________________
(1) سورة الأنعام : الآية 122 .
(2) سورة العنكبوت : الآية 69 .
(3) سورة التكاثر : الآيات 5 ـ 8 .
(4) سورة الأنعام : الآية 75 .
(5) لاحظ الميزان ، ج 20 ، ص 496 ـ 497 .
(6) سورة محمد : الآية 17 .
(7) سورة الكهف : الآية 13 .
إيمانهم ودينهم ، فزاد الله من هداه في حقّهم ، وَرَبط على قلوبهم ، كما في الآية
التالية :
7 ـ وقال سبحانه : ( وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَـٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) (1) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تعرب عن عدم إيصاد هذا الباب .
ثم إنّ في السنّة النبوية الشريفة ، والخطب العَلَوية ، تصريحات وإشارات
إلى انفتاح هذا الباب .
فمن ذلك ما روَته الصحاح عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال :
« لَقَد كان فيمن قَبْلَكُم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمونَ من غير أَنْ يكونوا
أنبياء » (2) . وهذا هو المُحَدَّث في مصطلح أهل الحديث . وقد تضافرت الروايات
على أنّ مريم وفاطمة وعلياً عليهم السلام كانوا مُحَدَّثين .
ويقول الإمام علي عليه السلام في كلام له ، يحكي فيه عن صاحب
التقوى : « قد أَحيا عَقْلَهُ ، وأَمات نَفْسَهُ ، حتى دَقَّ جَليلُهُ ، وَلَطُفَ غَليظُهُ ،
وَبَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كثيرُ البَرْقِ ، فَأَبانَ لَهُ الطَّريقَ ، وَسَلَكَ به السَّبِيلَ ، وَتَدَافَعَتْهُ
الأَبْواب إلى بابِ السلامةِ ، ودارِ الإقامةِ ، وَثَبَتَتْ رِجْلاهُ بِطُمَأْنينَةٍ في بَدَنِهِ في قرار
الأمن والراحة ، بما استعملَ قَلْبَه ، وأَرضى رَبَّه » (3) .
ويقول عليه السلام ، في كلمة أخرى تعرب عن رأي الإسلام في هذه
المجال ، قالها عند تلاوته قوله سبحانه : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ
لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ ) قال : « إنّ الله سبحانه جعل الذِّكر جلاءً
للقلوب ، تَسْمع به بعد الوَقْرَة ، وتبْصِر به بعد العَشْوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ،
وما برح لله ـ عزّت آلاؤه ـ في البُرهة بعد البُرهة ، وفي أزمان الفترات ، عباد
__________________
(1) سورة الكهف : الآية 14 .
(2) صحيح البخاري ، ج 2 ، ص 149 .
(3) نهج البلاغة ، الخطبة 215 .
ناجاهم في فكرهم ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يَقَظَةٍ في الأبصار
والأسماع والأَفئدة ، يُذَكِّرونَ بأَيّام الله ، وَيُخَوِّفونَ مَقامَهُ ، بِمَنْزِلَةِ الأَدلّةِ في
الفَلَواتِ . . . إلى أن قال : وإِنّ للذِّكْرِ لأَهلاً أَخذُوه من الدُّنيا بَدَلاً ، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ
تجارةٌ ولا بيعٌ عنه يقطعون به أيام الحياة ، ويهتِفون بالزواجر عن محارم الله ، في
أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ، ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون
عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة ، وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأَنّما
اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عداتها ،
فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون
ما لا يسمعون . . . » (1) .
وقد تربى في أحضان علي عليه السلام ، صفوة من رجال الخير ، يُسْتَدَرّ بهم
الغمام ويضنّ بهم الزمان ، كزيد وصعصعة ابني صوحان ، وأُوَيْس القَرَني ،
والأَصْبَغ بن نُباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التّمار ، وكُميل بن زياد ،
وأشباههم ، وكان هؤلاء مُثلاً للفضيلة وخزانة للعلم والأسرار ، منحهم أمير
المؤمنين عليه السلام من سابغ علمه ، واستأمَنَهم على غامض أسراره ، ممّا لا
يقوى على احتماله غير أمثالهم ، حتى زكت نفوسهم ، وكادوا أن يكونوا بعد
التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم .
__________________
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 217 .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 509 ـ 513