بحث الجبر والتفويض
وإعلم : أن بيانه تعالى أن الإضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره تعالى في أعمال العباد ونتائجها ( وهو الذي يراد حله في بحث الجبر والتفويض ).
بيان ذلك : أنه تعالى قال : « لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ » البقرة ـ 284 ، وقال : « لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ » الحديد ـ 5 ، وقال : « لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ » التغابن ـ 1 ، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الإطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه ، كما أن الفرد من الإنسان يملك عبداً أو شيئاً آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء ، وأما التصرفات السفهية فلا يملكها ، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الإطلاق ، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها ، فان الإنسان المالك لحمار مثلاً إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل والركوب مثلاً وإما أن يقتله عطشاً أو جوعاً أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك ، أي كل مالكية في هذا الإجتماع الإنساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن ، وهذا بخلاف ملكه تعالى للأشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى ، فأي تصرف تصرف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحاً ولا ذماً ولا لوما في ذلك ، إذ التصرف من بين التصرفات انما يستقبح ويذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لأن العقلاء لا يرون له ذلك ، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل ، وأما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك وتصرف في مملوك فلا قبح ولا ذم ولا غير ذلك ، وقد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ ، فقال تعالى : « مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » البقرة ـ 255 ، وقال تعالى : « مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ » يونس ـ 3 ، وقال تعالى : « لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا » الرعد ـ 31 ، وقال : « يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ » النحل ـ 93 ، وقال تعالى : « وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ » الدهر ـ 30 ، وقال تعالى « لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ » الأنبياء ـ 23 ، فالله هو المتصرف الفاعل في ملكه وليس لشيء غيره شيء من ذلك إلا بإذنه ومشيته ، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.
ثم انا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الإنساني ، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذم عليه كما قال تعالى : « إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ » البقرة ـ 271 ، وقال : « بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ » الحجرات ـ 11 ، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإنسان ومفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى : « إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ » الأنفال ـ 24 ، وقال تعالى : « ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ » الصف ـ 11 ، وقال تعالى : « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ( إلى أن قال ) وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ » النحل ـ 90 ، وقال تعالى : « إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ » الأعراف ـ 28 ، والآيات في ذلك كثيرة ، وفي ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع ، بمعنی أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذم وغير ذلك والأحكام المتعلقة بها كقولهم : الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل ، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك ، كما انها هي الأساس للأحكام العامة العقلائية كذلك الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعى فيها ذلك ، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض ومصالح عقلائية ، ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للاحكام والقوانين ، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإساءة بالاساءة إن شاؤا فهذه كلها معللة بالمصالح والأغراض الصالحة ، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الأوامر العقلائية ما فيه صلاح الإجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله ، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشريّة وبمقدار يناسب وكيف يناسب ، ومن احكامهم أن الأمر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل وأيضاً إن الجزاء الحسن أو السيء أعني الثواب والعقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الإختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الإختيار والوقوع في الإضطرار مستنداً إلى سوء الإختيار كمن أوقع نفسه في إضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحاً ، ولا يبالون بقصة إضطراره.
فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزاء المطيع بالجنة والعاصي بالنار الا جزافاً في مورد المطيع ، وظلماً في مورد العاصي ، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم ايضاً ولا حجة في قبيح وقد قال تعالى : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » النساء ـ 165 ، وقال تعالى « لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ » الأنفال ـ 42 ، فقد اتضح بالبيان السابق أمور :
أحدهما : أن التشريع ليس مبنياً على أساس الإجبار في الأفعال ، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولاً ، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانياً ، والمكلفون انما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختياراً.
ثانيها : أن ما ينسبه القرآن اليه تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة اليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر ، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال وشعبه وأنواعه ، وليس كل إضلال حتى الإضلال البدوي وعلى سبيل الإغفال بمنسوب اليه ولا لائق بجنابه ، بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى : « يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الآية » البقرة ـ 26 ، وقال : « فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ » الصف ـ 5 ، وقال تعالى : « كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ » المؤمن ـ 34.
ثالثها : أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث أنها منسوبة الى الفاعلين بالإنتساب الفعلي دون الإنتساب الوجودي ، وسيجيء لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إنشاء الله تعالى.
رابعها : أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض ، إذ لا معنى للأمر والنهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئاً ، مضافاً الى أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.
( بحث روائي )
إستفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم قالوا : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث ».
وفي العيون بعدة طرق لما إنصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من صفين قام اليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر ، فقال له أمير المؤمنين : « أجل يا شيخ فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله وقدر » ، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال : « مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما وقدراً لازماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن على مسيء لائمة ولا لمحسن محمدة ، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالإحسان من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الامة ومجوسها.
يا شيخ إن الله كلف تخييراً ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكروهاً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث ».
أقول : قوله : بقضاء من الله وقدر الى قوله : عند الله أحتسب عنائي. ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الإسلام مورداً للنقض والإبرام ، وتشاغبت فيه الأنظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجته فإذا هي أن الارادة الإلهية الأزلية تعلقت بكل شيء من العالم فلا شيء من العالم موجودا على وصف الإمكان ، بل إن كان موجوداً فبالضرورة ، لتعلق الإرادة بها واستحالة تخلف مرادة تعالى عن إرادته ، وان كان معدوماً فبالإمتناع لعدم تعلق الإرادة بها وإلا لكانت موجودة ، وإذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال في الأفعال الإختيارية الصادرة منا فانا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الافعال وجوداً وعدماً الينا متساوية ، وإنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الإرادة به بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا إختيارية ، والإرادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده ، ولكن ، فرض تعلق الإرادة الالهية الأزلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل إختيارية الفعل أولاً ، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانياً وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل ، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصة في صورة الخلاف والتمرد فيكون تكليفاً بما لا يطاق ، ولا معنى لإثابة المطيع بالجبر لأنه جزاف قبيح ، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم ، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل ، والحسن والقبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن ولا يتصف فعله تعالى بالقبح ، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح ، ولا من الإرادة الجزافية ، ولا من التكليف بما لا يطاق ، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.
وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الأول مساوقاً لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالإستحقاق ولذلك لما سمع الشيخ منه عليه السلام كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثر واليأس : عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الإرادة الإلهية بها فلم يبق لي إلا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإمام عليه السلام بقوله : لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب الخ ، وهو أخذ بالأصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها واستدل في آخر كلامه عليه السلام بقوله : ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا الخ ، وذلك لأن صحة الإرادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الإختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والإيجاد ، وهذا الإمكان يساوق الوجوب ، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والإيجاد ، وذلك خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ، وفيه بطلان المعاد وفيه كل محذور ، وقوله ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكروهاً كانّ المراد لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع.
وفي التوحيد والعيون عن الرضا عليه السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض فقال : ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ؟ قلنا : إن رأيت ذلك ، فقال : إن الله عز وجل لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه فان إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادّاً ، ولا منها مانعاً وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وان لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.
اقول : قد عرفت أن الذي ألزم المجبّرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة أيضاً نتيجة صحيحة غير أنهم اخطأوا في تطبيقها ، واشتبه عليهم أمر الحقائق والإعتباريات ، واختلط عليهم الوجوب والإمكان ، توضيح ذلك أن القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الأشياء في نظام الإيجاد والخلقة على صفة الوجوب واللزوم فكل موجود من الموجودات وكل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه ، معين له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلف عنه ولا يختلف ، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب من شؤون العلة فإن العلة التامة هي التي اذا قيس اليها الشيء صار متصفاً بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شيء كان لم يصر إلا متصفاً بالإمكان ، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلية التامة والمعلولية في العالم بتمامه وجميعه ، وذلك لا ينافي سريان حكم القوة والإمكان في العالم من جهة أخرى وبنظر آخر ، فالفعل الإختياري الصادر عن الإنسان بإرادته إذا فرض منسوباً إلى جميع ما يحتاج اليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادة يتعلق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية كان ضروري الوجود ، وهو الذي تعلقت به الإرادة الإلهية الأزلية لكن كون الفعل ضرورياً بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة ومن جهتها لا يوجب كونه ضرورياً إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة ، كما اذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الإمكان ، ولا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء وتعلق الإرادة الإلهية بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الإختيار ، بل الإرادة الإلهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصياته الوجودية ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده ، وبعبارة أخرى تعلقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقاً بل من حيث أنه فعل إختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كون الفعل إختيارياً وإلا تخلف متعلق الإرادة الإلهية عنها فإذن تأثير الإرادة الإلهية في صيرورة الفعل ضرورياً يوجب كون الفعل إختيارياً أي كون الفعل ضرورياً بالنسبة إلى الإرادة الإلهية ممكناً إختيارياً بالنسبة إلى الإرادة الإنسانية الفاعلية ، فالإرادة في طول الإرادة وليست في عرضها حتى تتزاحما ، ويلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الانسانية فظهر أن ملاك خطأ المجبرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الارادة الالهية بالفعل ، وعدم فرقهم بين الارادتين الطوليتين وبين الارادتين العرضيتين وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به.
والمعتزلة وإن خالفت المجبرة في إختيارية افعال العبد وسائر اللوازم إلا إنهم سلكوا في اثباته مسلكاً لا يقصر من قول المجبرة فساداً ، وهو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق ارادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار ، ومن جهة أخرى أصروا على اختيارية الأفعال الاختيارية فنفوا بالأخرة تعلق الارادة الإلهية بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للأفعال وهو الإنسان ، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية ، ثم وقعوا في محاذير اخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة ، كما قال عليه السلام : مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث.
فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبداً من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك مما يحتاج اليه الإنسان في حيوته إلى حين محدود وأجل مسمى ، فإن قلنا أن المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملَّكه ما ملك فإنه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة ، وان قلنا أن للمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكاً وإنعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة ، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا :
أن المولى مقامه في المولوية وللعبد مقامه في الرقية وإن العبد إنما يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وقام عليه البرهان هذا.
وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعي الأسدي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في معنى الإستطاعة ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : تملكها من دون الله أو مع الله ؟
فسكت عباية بن ربعي فقال له : قل يا عباية ، قال : وما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال :
تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.
أقول : ومعنى الرواية واضح مما بيّناه آنفاً.
وفي شرح العقائد للمفيد قال : وقد روى عن أبي الحسن الثالث عليه السلام إنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه السلام : لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه : إن الله بريء من المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم.
اقول : للافعال جهتان : جهة ثبوت ووجود ، وجهة الانتساب إلى الفاعل ، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الأفعال بأنها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيئة ، فإن النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقق ، وإنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لأمر الله تعالى ، والزنا فاقد للموافقة المذكورة ، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس ، وضرب اليتيم تأديباً وضربه ظلماً ، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الأمر او الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها ، وقد قال تعالى : « اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » الزمر ـ 62 ، والفعل شيء بثبوته ووجوده ، وقد قال عليه السلام : « كل ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله الحديث » ثم قال تعالى : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » السجدة ـ 7 ، فتبيّن أن كل شيء كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن ، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلاً ، ثم إنه تعالى سمّى بعض الأفعال سيئة فقال : « مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا » الأنعام ـ 160 ، وهي المعاصي التي يفعلها الانسان بدليل المجازاة ، وعلمنا بذلك أنها من حيث أنها معاص عدمية غير مخلوقة وإلا كانت حسنة ، وقال تعالى : « مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا » الحديد ـ 22 ، وقال : « مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ » التغابن ـ 11 ، وقال : « وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ » الشورى ـ 30 ، وقال : « مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ » النساء ـ 79 ، وقال : « وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا » النساء ـ 78 ، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الانسان المنعم بنعمة من نعم الله كالأمن والسلامة والصحة والغنى يعد واجداً فاذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لأنها مقارنة لفقد ما وعدم ما ، فكل نازلة فهي من الله وليست من هذه الجهة سيئة وإنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الانسان وهو واجد ، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة وإن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالإذن فيه ونحو ذلك.
وفي قرب الاسناد عن البزنطي ، قال : قلت : للرضا عليه السلام إن أصحابنا بعضهم يقول : بالجبر ، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي : « أكتب ، قال الله تبارك وتعالى يا بن آدم بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قوّيت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ، وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون ، فقد نظمت لك كل شيء تريد الحديث » وهو أو ما يقربه مرويّ بطرق عامية وخاصية اخرى وبالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الأفعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة ، وبذلك يعلم معنى قوله عليه السلام في الرواية السابقة ؛ لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها إلى قوله وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم الحديث.
وفي التوحيد : عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام « قالا : إن الله عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون » قال : فسئلا عليهما السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء والأرض.
وفي التوحيد عن محمد بن عجلان ، قال : قلت : لأبي عبد الله عليه السلام فوّض الله الأمر إلى العباد ؟ قال : « الله أكرم من أن يفوّض إليهم » قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال : « الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثم يعذّبه عليه ».
وفي التوحيد أيضاً عن مهزم ، قال قال أبو عبد الله عليه السلام : أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا ، قال : قلت : في الجبر والتفويض ؟ قال : فاسألني قلت : أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : « الله أقهر لهم من ذلك » قلت : ففوّض إليهم ؟ قال : الله أقدر عليهم من ذلك ، قال قلت : فأيّ شيء هذا ، أصلحك الله ؟ قال : فقلّب يده مرتين أو ثلاثاً ثم قال : « لو أجبتك فيه لكفرت ».
اقول : قوله عليه السلام : الله أقهر لهم من ذلك ، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة ، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى إختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته وإختياره أو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.
وفي التوحيد أيضاً عن الصادق عليه السلام قال : قال : « رسول الله : من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيّة الله فقد أخرج الله من سلطانه ».
وفي الطرائف : روي أن الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو ابن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر ، فكتب إليه الحسن البصري أن أحسن ما انتهى إليّ ما سمعت أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام ، إنه قال : « أتظن ان الذي نهاك دهاك ؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك ، والله بريء من ذاك ». وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « لو كان الزور في الأصل محتوماً لكان المزوّر في القصاص مظلوماً ». وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق ؟ » وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : « كلما استغفرت الله منه فهو منك ، وكلما حمدت الله عليه فهو منه » فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال : لقد أخذوها من عين صافية.
وفي الطرائف أيضاً روى أن رجلاً سأل جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن القضاء والقدر فقال : « ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه ، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله » يقول الله للعبد : لِمَ عصيت ، لِمَ فسقت ، لِمَ شربت الخمر ، لِمَ زنيت ؟ فهذا فعل العبد ، ولا يقول له لِمَ مرضت ، لِمَ قصرت ، لِمَ إبيضضت ، لِمَ إسوددت ؟ لأنه من فعل الله تعالى.
وفي النهج سئل عليه السلام عن التوحيد والعدل فقال : « التوحيد أن لا تتوهمه ، والعدل أن لا تتَّهمه ».
اقول : والأخبار فيما مرّ متكاثرة جداً غير أن الذي نقلناه حاوٍ لمعاني ما تركناه ولئن تدبرت فيما تقدم من الأخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.
منها : الاستدلال بنفس الأمر والنهي والعقاب والثواب وأمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر ولا تفويض ، كما في الخبر المنقول عن امير المؤمنين علي عليه السلام فيما أجاب به الشيخ ، وهو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.
ومنها : الاستدلال بوقوع امور في القرآن لا تصدق لو صدق جبر أو تفويض ، كقوله تعالى : « لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ » ، وقوله : « وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ » ، وقوله تعالى : « قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ » الآية ، ويمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأما إذا نسب اليه تعالى فلا يسمى فاحشة ولا ظلماً فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم ، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول : « وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ » الآية ، فالإشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجهاً إليه سواءٌ سمي فحشاء أو لم يسمّ.
ومنها : الاستدلال من جهة الصفات وهو أن الله تسمى بأسماء حسنى وإتصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فانه تعالى قهّار قادر كريم رحيم ، وهذه صفات لا تستقر معانيها إلا عندما يكون وجود كل شيء منه تعالى ونقص كل شيء وفساده غير راجع الى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.
ومنها : الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللوم فان الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره ولو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر.
وهيهنا روايات أُخر مرويّة فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الإضلال والطبع والإغواء وغير ذلك.
ففي العيون عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى : « وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ » قال عليه السلام : « إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم إنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم ».
وفي العيون ايضاً عنه عليه السلام في قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم ، قال : الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال الله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً.
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : إن الله لا يستحيي الآية ، هذا القول من الله رد على من زعم إن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث ، أقول : قد مر بيان معناها.
( بحث فلسفي )
لا ريب ان الامور التي نسميها أنواعاً في الخارج هي التي تفعل الأفاعيل النوعية ، وهي موضوعاتها ، فإنا انما أثبتنا وجود هذه الأنواع ونوعيتها الممتازة عن غيرها من طريق الآثار والأفاعيل ، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة وآثاراً مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها امراً وراء الآثار العرضية ، ثم أثبتنا من طريق القياس والبرهان علة فاعلة لها وموضوعاً يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني الأنواع لإختلاف الآثار والأفاعيل المشهودة لنا ، فالإختلاف المشهود في آثار الانسان وساير الأنواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك انواعاً مختلفة تسمى بكذا وكذا ولها آثار وأفاعيل كذا وكذا ، وكذا الاختلافات بين الأعراض والأفاعيل إنما نثبتها ونحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها.
وكيف كان فالافاعيل بالنسبة الى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولى الى قسمين :
الاول : الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنمو والتغذي للنبات والحركات للأجسام ، ومن هذا القبيل الصحة والمرض وأمثال ذلك فإنها وأن كانت معلومة لنا وقائمة بنا الا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها وصدورها شيئاً وانما هي مستندة تمام الاستناد الى فاعلها الطبيعي ،
والثاني : الفعل الصادر عن الفاعل من حيث أنه معلوم تعلق به العلم كما في الأفعال الارادية للانسان وساير ذوات الشعور من الحيوان ، فهذا القسم من الفعل انما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به وتشخيصه وتمييزه ، فالعلم فيه انما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره ، وهذا التمييز والتعيين انما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالاً للفاعل انطباقاً بواسطة العلم ، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له.
ومن هنا ما نرى أن الأفعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الانسان المتكلم ، وكذا الافعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الانسان ، وكذا الافعال الصادرة عن الانسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج الى ترو من الفاعل ، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لا حالة منتظرة لفعله ، فيفعل البتة ، واما الأفعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق كمال الانسان حقيقة أو تخيلا ، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة الى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسموماً ويمكن أن يكون قذراً يتنفر عنه الطبع ، وهكذا والانسان انما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا ، فإذا تعين أحد العناوين وسقطت بقيّتها وصار مصداقاً لكمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلاً ، والقسم الاول : نسمّيه فعلا إضطرارياً كالتأثيرات الطبيعية. والقسم الثاني : نسميه فعلاً إرادياً كالمشي والتكلم.
والفعل الارادي : الصادر عن علم وارادة ينقسم ثانياً الى قسمين : فإن ترجيح احد جانبي الفعل والترك إما مستند الى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجّح أن يبقيه ولا يأكله لأنه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ واختاره أو رجح الأكل فأكله إختياراً ، وإما أن يكون الترجيح والتعيين مستنداً الى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجباراً من غير أن يكون متعيناً بانتخابه واختياره والقسم الأول.
يسمى فعلاً اختيارياً ، والثاني فعلا اجبارياً هذا ، وانت تجد بجودة التأمل أن الفعل الإجباري وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالاً وممتنعاً بواسطة الاجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد ، لكن الفعل الإجباري أيضاً كالإختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الذي يجبره هو المتسبب الى الفعل بوجه ، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستنداً بوجه الى اجبار المجبر وتهديده لم يقع ، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك ، ومن هنا يظهر أن تقسيم الأفعال الارادية إلى إختيارية وجبرية ليس تقسيماً حقيقياً ينوّع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار ، فإن الفعل الارادي انما يحتاج إلى تعيين وترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله ، وهو في الفعل الاختياري والجبري على حد سواء ، وأما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند الى رسله وفي آخر الى آخر فلا يوجب إختلافاً نوعياً يؤدي الى اختلاف الآثار . ألا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقضّ ، فخرج خائفاً عدَّ فعله هذا إختيارياً ؟ وأما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه ، فخرج خائفاً عدَّ فعله هذا اجبارياً من غير فرق بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند الى ارادة الجبار.
فان قلت : كفى فرقاً بين الفعلين أن الفعل الإختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتب عليه المدح والذم ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار ، وهذا بخلاف الفعل الإجباري فانه لا يترتب عليه شيء من ذلك.
قلت : الأمر على ما ذكر ، غير أن هذه الآثار انما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الأخير الإجتماعي ، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية ، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثاً فلسفياً لأن البحث الفلسفي انما ينال الموجودات الخارجية وآثارها العينية ، وأما الامور المنتهية إلى أنحاء الإعتبارات العقلائية ، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان البتة ، وان كانت معتبرة في بابها ، مؤثرة أثرها ، فالواجب أن نرد البحث المزبور من طريق آخر ، فنقول : لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة ، والحكم ثابت من طريق البرهان ، ولا شك ايضاً أن الشيء ما لم يجب لم يوجد إذ الشيء ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كان نسبته الى الوجود والعدم بالسوية ، ولو وجد الشيء وهو كذلك لم يكن مفتقراً إلى علة وهف ، فإذا فرض وجود الشيء كان متصفاً بالضرورة ما دام موجوداً ، وهذه الضرورة انما إكتسبها من ناحية العلة ، فاذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود ، ولا موقع لأمر ممكن الوجود في هذه السلسلة.
ثم نقول : هذه النسبة الوجوبية انما تنشأ عن نسبة المعلول الى علتها التامة البسيطة أو المركبة من امور كثيرة كالعلل الأربع والشرائط والمعدات وأما اذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شيء آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الإمكان بالضرورة ، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علة تامة هف ، ففي عالمنا الطبيعي نظامان : نظام الضرورة ونظام الامكان ، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات ولا فعل ذات ، ونظام الإمكان منبسط على المادة والصور التي في قوة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها ، فإذا فرضت فعلا من أفعال الانسان الاختيارية ونسبتها الى تمام علتها ، وهي الانسان والعلم والارادة ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وإرتفاع الموانع ، وبالجملة كل ما يحتاج اليه الفعل في وجوده كان الفعل واجباً ضرورياً ، وإذا نسب إلى الإنسان فقط ، ومن المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالامكان.
ثم نقول : سبب الاحتياج والفقر الى العلة كما بيّن في محله كون الوجود ( وهو مناط الجعل ) وجوداً إمكانياً ، أي رابطاً بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه ، فما لم ينته سلسلة الربط الى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر والفاقة.
ومن هنا يستنتج اولا : أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج الى العلة الواجبة التي اليها تنتهي سلسلة الامكان.
وثانياً : ان هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية وارتباطاته بعلله وشرائطه الزمانية والمكانية إلى غير ذلك.
فقد تبين بهذا أمران : ألاول : أن الانسان كما أنه مستند الوجود إلى الإرادة الإلهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الإنسان مستنده الوجود إلى الإرادة الإلهية ، فما ذكره المعتزلة من كون الأفعال الإنسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من اصله ، وهذا الإستناد حيث أنه إستناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه ، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له ، فكما أن الفرد من الإنسان إنما يستند إلى العلة الاولى بجميع حدوده الوجودية من أب وأم وزمان ومكان وشكل وكم وكيف وعوامل أُخر مادية ، فكذلك فعل الإنسان إنما يستند إلى العلة الاولى مأخوذاً بجميع خصوصياته الوجودية ، فهذا الفعل إذا إنتسب إلى العلة الاولى والإرادة الواجبة مثلاً لا يخرجه ذلك عما هو عليه ولا يوجب بطلان الإرادة الإنسانية مثلاً في التأثير ، فإن الإرادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الإنسان عن إرادة وإختيار ، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي وغير إختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وهو محال ، فما ذهب إليه المجبّرة من الأشاعرة من أن تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال الإرادية يوجب بطلان تأثير الإرادة والإختيار فاسد جداً ، فالحق الحقيق بالتصديق أن الأفعال الإنسانية لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب ، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الاخري لكونهما طوليتين لا عرضيَّتين.
الثاني : أن الأفعال كما أن لها إستناداً إلى عللها التامة ( وقد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب ) كذلك لها إستناداً إلى بعض اجزاء عللها التامة كالإنسان مثلا ، وقد عرفت أن هذه النسبة بالإمكان فكون فعل من الافعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكناً بنظر آخر ، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الإختيار باطل جداً بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها وأجزاء عللها ممكنة الوجود ، وهذا هو الملاك في أعمال الإنسان وأفعاله فبنائه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك ، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم ، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر.
مقتبس من كتاب : الميزان في تفسير القرآن / الجزء : 1 / الصفحة : 93 ـ 110

