زيارة الأربعين تغيظ الكافرين
قال أحد المؤمنين أنّه كان ينوي زيارة الحسين عليه السلام في العشرين من صفر المُعبّر عنها بزيارة الأربعين ، مشياً على الأقدام زمن النظام البعثي المقبور ، وكان خائفاً قلقاً ؛ لأن إلقاء القبض عليه من قبل أزلام النظام ، كان يعني حلول الموت بساحته ، فتردّد أيّاماً قبل الزيارة يخيِّر نفسه بين الحياة والموت ، ثمّ انقدحت في ذهنه أن يستفتح بالقرآن لعلّ الله يهديه سبيلاً سواء ، ففتح كتاب الله فإذا هو بين يدي هذه الآية الكريمة : ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّـهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) [ التوبة : 120 ] ، فأطبق الكتاب مسروراً مستبشراً بهذه البشارة الإلهيّة ، ومضى مسرعاً يجدُّ السَّير إلى كربلاء ، فماذا يريد الإنسان المؤمن أكثر من ألّا يرفع قدماً ويضع أخرى ، إلا ويكتب الله له بذلك عملاً صالحاً ، وهو مستلزم بطبيعة الحال للأجر والثواب ، وثمّ يعدُّه الله من المحسنين ؟ لكن أكثر ما لفت نظره في الآية الشريفة قوله تعالى : ( وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا ).
الإغاظة ودلالاتها
الإغاظة : مبدأ من مبادئ الحرب النفسيّة ، مارسه الإنسان مع أعداءه وخصومه فطريّاً منذ أقدم العصور ، وهو من الأساليب الناجحة في إشعار العدو بالخيبة والهزيمة والفشل.
والغيظ في اللغة : يعني الغضب الشديد ، وهو كما يقول الراغب الأصفهاني في المفردات : الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه ، وهي تعني عند ابن منظور : الغضب الكامن للعاجز ، وهي مبدأ قرآني مارسه الله تعالى مع أعدائه ، وأمر المؤمنين أن يمارسوها معهم ، قال تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) [ الفتح : 29 ] ، وقال : ( هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) [ آل عمران : 119 ]. والموطئ : هو الأرض التي توطئ بالأقدام ، والآية الشريفة مطلقة لا تختصّ بنوع معين من الوطء ، فكلّ خطوة يخطوها مؤمن سواء أكانت في طريق الجهاد في سبيل الله ، أو في سبيل إحياء شعائر الله ، أو لإقامة فريضة معيّنة ، تعدُّ قرآنيّاً عملاً صالحاً يثاب عليه العبد ، طالما كان ذلك العمل ممّا يغيظ الكفّار والمنافقين ، لوجود هذا الملاك ـ الإغاظة ـ في الجميع.
ومن المؤكّد أن الجموع المليونيّة الزاحفة إلى كربلاء مشياً على الأقدام من داخل العراق وخارجه ، تشعل النار في قلوب أعداء آل البيت عليهم السلام من كفّار ومنافقين وتغيظهم وتشعرهم بالعجز ، وأنّ أساليبهم الخبيثة التي مارسوها في سبيل إيقاف هذا المدّ الزاحف من القتل والتفجير والدعايات المغرضة ، قد ذهبت أدراج الرياح ( وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ) [ الأحزاب : 25 ]. وهذه الممارسة « الإغاظة » بذاتها تعد عملاً صالحاً فضلاً عمّا يناله الزائرون من الأجر والثواب على نفس الزيارة ، خصوصاً إذا كان فيها تعب ومشقّة ، كما هو الشأن في الزيارة مشياً على الأقدام ومن أماكن بعيدة ، فإن أفضل الأعمال أحمزها ـ أيّ أشدّها مشقّة ـ.
ومن هنا على الزائر أن يستحضر ما يمكن استحضاره من معان ونيّات في هذه الممارسة العباديّة ، وسيثاب إن شاء الله بعدد تلك النيّات ، وإن كان العمل واحداً من باب تداخل المستحبّات ، فيمكن أن يقصد في مشيه الزيارة قربة إلى الله ، وأن يقصد فيه إغاظة الكافرين والمنافقين ، وأن يقصد به حبس نفسه على الله بالعبادة طيلة الأيّام التي يمشي فيها ، بترك المعصية ، والمداومة على الذكر من التحميد والتهليل والصلاة على النبي وآله صلّى الله عليه وآله.
النيل من العدوّ
نال من الشيء أو الشخص يعني أوقع به إصابة أو ضربة ، وهي لا تختصّ بالأشياء الماديّة بل تتجاوزها إلى الأمور المعنويّة ، فعندما يشتم شخص شخصاً مثلاً يقال نال منه ، والآية الشريفة أعمّ من أن يكون النيل من العدوّ ماديّاً كأخذ أمواله ، أو إيقاع ضربة عسكريّة به ، أو إيقاع ضربة نفسيّة به ، بل لعلّ الضربة النفسيّة ـ أيّ تلك التي تؤلم النفس ـ أشدّ تأثيراً في العدوّ من سابقتيها.
ولا ضربة أشدّ ولا أقوى من حركة الجماهير إلى كربلاء ، حيث تشعر أعداء الله ورسوله بالذلّ والهوان والهزيمة.
والخلاصة : لا تخلو شعيرة المشي إلى كربلاء في زيارة الأربعين ، خصوصاً بهذه الأعداد المليونيّة ، من إغاظة للكافرين تشحن صدورهم همّاً وألماً ، وهي ضربة شديدة توجّهها الجماهير المؤمنة إلى صدور الكفّار والمنافقين.