عليٌّ عليه السلام وآخر لحظات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
لمَّا كثر التنازع عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كما رأينا سابقاً بشأن الكتاب ، وخرجوا من عنده ، قال : « رُدُّوا عَلَيَّ أخي عَلِيَّ بن أبي طالب ». ولمَّا حضر قال : « ادنُ منِّي » فدنا منه فضمَّه إليه ، ونزع خاتمه من يده ، فقال له : « خُذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه ولامته ، فدفع جميع ذلك إليه ، وقال له : « اقبض هذا في حياتي » ودفع إليه بغلته وسرجها وقال : « امضِ علىٰ اسم الله إلىٰ منزلك » (1).
وكان عليٌّ عليه السلام لا يفارقه إلَّا لضرورة ، ولمَّا خرج لبعض شأنه قال لهم : « أُدعوا لي أخي وصاحبي » وفي رواية : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له أبا بكر ، فنظر إليه ، ثم وضع رأسه ، ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له عمر ، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فقالت أُمُّ سلمة : أُدعوا له عليَّاً ، فدُعي أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمَّا دنا منه أومأ إليه فأكبَّ عليه ، فناجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طويلاً (2) ، ولمَّا سُئل عن ذلك قال : « علَّمَني ألف باب من العلم ، فتح لي من كلِّ باب ألف باب (3) ، ووصَّاني بما أنا قائمٌ به إن شاء الله » (4).
ولمَّا قرب خروج تلك النفس الطيِّبة إلىٰ جنان الخلد وسدرة المنتهىٰ قال له : « ضع رأسي يا عليُّ في حجرك ، فقد جاء أمر الله عزَّ وجلَّ فإذا فاضت نفسي ، فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثُمَّ وجِّهني إلىٰ القبلة وتولَّ أمري ، وصلِّ عليَّ أوَّل الناس ، ولا تفارقني حتَّىٰ تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزَّ وجلَّ ».
ثمَّ قضىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويد أمير المؤمنين اليمنىٰ تحت حنكه ، ففاضت نفسه ، فرفعها إلىٰ وجهه فمسحه بها ، ثُمَّ وجَّهه وغمَّضه ومدَّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره ..
ولمَّا أراد عليٌّ عليه السلام غسله استدعىٰ الفضل بن العبَّاس ، فأمره أن يناوله الماء ، بعد أن عصَّب عينيه ، فشقَّ قميصه من قبل جيبه ، حتىٰ بلغ به إلىٰ سرَّته ، وتولَّىٰ غسله وتحنيطه وتكفينه ، والفضل يناوله الماء ، فلمَّا فرغ من غسله وتجهيزه تقدَّم فصلَّىٰ عليه (5).
هذه خاتمة ثلاثين عاماً من الجهاد مع هذا الإنسان العظيم المسجَّىٰ اليوم بين يدي عليِّ بن أبي طالب ، فكانت النهاية أن وارىٰ جسده التراب وما أصعبها من نهاية !!
أمَّا البداية فقد احتضن محمَّد بن عبدالله عليَّاً في حجره وهو وليد ، وها هو عليٌّ يحتضن محمَّداً علىٰ صدره في آخر رمق من حياته ! آه فطبت حيَّا وميِّتاً ..
ولنقرأ ما قاله عليُّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يصفُ هذه الخاتمة المؤلمة : « ولقد قُبِض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وإنَّ رأسه لعلىٰ صدري ، ولقد سالت نفسه في كفِّي ، فأمررتُها علىٰ وجهي ، ولقد وُلِّيتُ غسله صلّى الله عليه وآله وسلّم والملائكة أعواني ، فضجَّت الدار والأفنية : ملأ يهبط ، وملأ يعرج ، وما فارقتْ سمعي هينمةٌ منهم ، يصلُّون عليه ، حتَّىٰ واريناه ضريحه » (6).
وبعد هذه النهاية المفجعة تتساقطُ قطرات الدمع من عليٍّ عليه السلام حزناً منه علىٰ فراق أخيه محمَّد بن عبدالله ، الرسول ، الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيضجُّ صدره بالآلام والمحن ، ويقف علىٰ شفير قبر أخيه مطأطأ رأسه ، والدمع يجري كحبَّات لؤلؤ تناثرت علىٰ خدَّيه ، وهو يقول : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء ، خصَّصت حتى صرت مسلِّياً عمّن سواك ، وعمَّمت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ؛ لانفدنا عليك ماء الشؤون » (7).
الهوامش
1. إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٩.
2. انظر الحديث بألفاظه المتقاربة في : ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ٣ : ١٧ / ١٠٣٦ ، الرياض النضرة ٣ : ١٤١ ، ذخائر العقبى : ٧٣ ، المناقب للخوازرمي : ٢٩.
3. كنز العمَّال ١٣ : ١١٤ ح / ٣٦٣٧٢ ، ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في ترجمة الإمام عليٍّ منه ٢ : ٤٨٥ / ١٠١٢ ، والجويني في فرائد السمطين ١ : ١٠١ / ٧٠.
4. إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٦.
5. إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٩ ، ارشاد المفيد ١ ؛ ١٨٧ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٤ ، الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، ٢١٢ ـ ٢١٥ ، ٢٢٠ ، تهذيب الكمال ١٣ : ٢٩٨ ، مجمع الزوائد ، باب إسلامه ٩ / ١٠٣.
6. نهج البلاغة ، الخطبة : ١٩٧.
7. نهج البلاغة ، الخطبة : ٢٣٥.
مقتبس من كتاب : [ الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ ] / الصفحة : 110 ـ 112