الولادة في الكعبة المعظَّمة فضيلة لعليّ عليه السّلام خصّه بها ربّ البيت

البريد الإلكتروني طباعة

الولادةُ في الكَعْبةِ المُعَظَّمَةِ فَضِيلةٌ لِعَليٍّ عَليهِ السَّلام خَصَّهُ بِهَا رَبُّ البَيْتِ

السلام عليك يا أمير المؤمنين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، وصحبه الأخيار المنتجبين.

أمّا بعد :

فقد حالفني الحظّ في مطالعة كتاب « عليٌّ وليدُ الكعبةِ » لسماحة الشيخ الحجّة الميرزا محمّد علي الغروي الأُردوبادي تغمّدَهُ الله برحمته ، وسبرت غوره بقدر ما وسعني ذلك ، فامتلأتْ نفسي إعجاباً به وإكباراً له ، ووجدتني مندفعاً لتسجيل كلمة تُعرب عن مبلغ ارتياحي وابتهاجي بهذا الأثر القيّم ومكانته.

ولم يَعْرُني شكٌّ في أنّه نفحة من نفحات أمير المؤمنين عليه السلام منحها المؤلفَ فاستأثر بها ، مطلقاً العنان لسعة باعه وقوّة بيانه المفعم بعناصر التجويد والإِبداع ، مَوقِفَاً الباحث على جليّة حديث الولادة الميمونة ، مظهراً في أثناء ذلك مبلغ عنائه في جمع موادّه.

ولشدّة ما استهواني موضوع الكتاب بدأت أجمع استدراكات له ، تتميماً وتعضيداً ، والذي حداني إلى ذلك ثقتي بأنّه قدّس سرّه لو أمدَّ الله في عمره لصنع مثل ما صنعت ، وبارك لي فيما كتبت ، خاصّة أنّي اقتفيتُ في هذا التتميمِ أثرَه ، وسلكت منهجَه.

وقد تجمّعت لديَّ نصوصٌ كثيرة من مخطوط الكتب ومطبوعها ، قديمها وحديثها ، نادرها ونفيسها ، ممّا كان الوصول إليه والحصول عليه في زمان الحجّة المؤلِّف أمراً عسيراً ، ومجموع ذلك يُغني لإِثبات صحّة الحديث ، والكشف عن اتّفاق أهل العلم والفضل عليه.

ولكن الّذين ( يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) لم تُطاوعهم نفوسهم لقبول فضائل الإِمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وهذه أوّلها بما فيها من دلالات عميقة ، فحاولوا تشويهها بشتّى الأساليب ، تمريراً لسياسة معاوية في التصدّي لفضائل الإِمام عليّ عليه السلام ، تلك السياسة التي دبّرها وعمّمها في مرسوم سلطاني يقول فيه :

برئت الذمّة ممّن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته (1).

ثمَّ كتب إلى عمّاله في جميع الآفاق :

إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب ، إلّا وتأتوني بمناقضٍ له في الصحابة ، فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ وأقرُّ لعيني ، وأدحضُ لحجّة أبي تراب وشيعته (2).

قال الرواي : فَرُوِيَتْ أخبارٌ كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها !

فظهر حديثٌ كثيرٌ موضوع ، وبهتان منتشر ! (3).

وبهذه الجرأة والصلافة ملأوا كتبهم بالأكاذيب الكثيرة ، والفضائل المجعولة ، والأحاديث الموضوعة.

وحيث لم يطالوا إنكار فضيلة المولد الشريف للإِمام عليّ عليه السلام لوضوحه واشتهاره ، بل تواتره والاتّفاق عليه ، عمدوا إلى وضع أُسلوب آخر لإِخفاء أثرها ، وهو ادّعاء مثل ذلك لشخص آخر هو الصحابي حكيم بن حزام ، وروّجوا لهذه المزعومة حسب الإِمكانات التي هيّأتها لهم السلطة وأعوانها.

وهذه ليست أوّل خصوصية يحاولون سلبها عليّاً عليه السلام ، بل هناك غيرها كثير ، منها :

الحديث المتواتر المتَّفق على صحّته : « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ».

وضعوا قباله حديثاً واهياً هو : « أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعليٌّ بابها ! » (4).

وحديثاً آخر ، أشدُّ وهناً ، وأظهر وضعاً ، هو : « أنا مدينة العلم ، وعليٌّ بابها ، ومعاوية
حلقتها ! » (5).

ومنها الحديث المتواتر الثابت الآخر : « عليٌّ منّي بمنزلة هارون من موسى ».

وضعوا قباله حديثاً يشهد متنه وسياقه بوضعه ، فضلاً عن سنده ، هو : « أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى ! » (6).

ومنها الحديث المتواتر الصحيح الآخر : « لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورَسولَه ، ويحبّه اللهُ ورسولُه ... ».

وضعوا قباله حديثاً مثيراً للضحك والسخرية والاستغراب ، هو : « لأُعطينَّ هذا الكتاب رجلاً يحبُّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ! قم يا عثمان بن أبي العاص. فقام عثمان بن أبي العاص ، فدفعه إليه » ؟! (7).

ويكشف عن هذا التلاعب المكشوف ، ويبيّن أنّه كان أمراً معروفاً ومألوفاً ، قول الزهري في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد بن حنبل في « فضائل الصحابة » قال :

حدّثنا عبد الرزّاق ، قال : أنا معمّر ، قال : سألتُ الزهري : مَن كان كاتب الكتاب يوم الحديبيّة ؟

فضحك وقال : هو عليٌّ ، ولو سألت هؤلاء ـ يعني بني أُميّة ـ قالوا : عثمان (8).

واستعراض باقي الأمثلة يُخْرِجُنَا عن موضوع البحث الرئيسي ، وإنّما أردنا التدليل على منهج أُولئك في سلب الخصوصية ، وجرأتهم على وضع الأحاديث الواهية قبال الأحاديث السليمة.

هذا رغم ميل بعض العلماء إلى أنَّ ولادة حكيم بن حزام في الكعبة ليست فضيلة ولا مكرمة ، وإنّما كانت اتّفاقاً ولم تكن قصداً ، كما ارتأى ذلك الصفوري وغيره (9).

وأغرق بعضهم نزعاً في الضلال ، ورمى القول على عواهنه ، متحدِّياً ما أثبته مهرة الفنّ وأئمّة النقل ، وأخبت كبار العلماء والمؤرّخين بصحَّته ، ولم يكترث بأسانيده المتضافرة ، وطرقه المتَّصِلة المعتمدة عند كلّ مؤالف ومُخالِف ، فقال :

« إنَّ حكيم بن حزام وُلِدَ في جوف الكعبة ، ولا يُعْرَف ذلك لغيره ، وأمّا ما روي أنَّ عليّاً وُلِدَ فيها فضعيفٌ عند العلماء » (10) !!

وقد أجاد الحجّة الأُردوبادي في الردِّ عليه ، وتفنيد مزاعمه ، فراجع أواخر باب « حديث الولادة والمؤرِّخون ».

ولكن نجد رغم ذلك أنَّ محاولتهم فيما يخصّ فضيلة المولد الشريف في الكعبة المعظّمة باءت بالفشل (11) ، فلو رجعنا إلى مصادر الحديث لوجدنا خلالها ـ مع إثبات تلك الفضيلة للإِمام عليّ عليه السلام على اليقين والجزم ـ أنَّ من المؤلّفين والعلماء والرواة مَن أعلن أنَّ هذه الفضيلة مختصّة بالإِمام عليه السلام لم يشركه فيها أحد قبله ولا بعده ، مصرّحين بذلك بعبارات شتّى تدلُّ على حصر هذه الفضيلة للإِمام عليه السلام بضرس قاطع.

وإليك نصوصها :

« لم يولَد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه ، إكراماً له بذلك وإجلالاً لمحلّه في التعظيم ».

رواها الحافظ أبو عبد الله محمّد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي ( ت 658 هـ ) عن الحاكم أبي عبد الله النيشابوري ( 321 ـ 405 هـ ) (12).

وقالها أيضاً :

ـ الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي ، الشيخ المفيد ( ت 413 ) (13).

ـ الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلّي ، المعروف بابن البطريق ( 533 ـ 600 هـ ) (14).

ـ الشيخ الثبت أبو علي محمّد بن الحسن الواعظ الشهيد النيسابوري ، المعروف بابن الفتّال ، من علماء القرن السادس (15).

ـ الشيخ الوزير بهاء الدين أبو الحسن علي بن عيسى الأربلي ( ت 693 هـ ) (16).

ـ الإِمام جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ( 648 ـ 726 هـ ) (17).

ـ السيّد المحدَّث جلال الدين عبد الله بن شرفشاه الحسيني ، المتوفّى نيف وثمانمائة من الهجرة (18).

ـ الشيخ المحدِّث الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، من أعلام القرن الثامن الهجري (19).

ـ الشيخ المؤرِّخ النسّابة جمال الدين أحمد بن علي الحسني ، المعروف بابن عنبة ( ت 828 هـ ) (20).

ـ العلّامة المحدِّث السيّد وليّ الله بن نعمة الله الحسيني الرضوي ، من أعلام القرن التاسع الهجري (21).

ـ العالم اللغوي الشيخ فخر الدين الطريحي ( 979 ـ 1087 هـ ) (22).

ـ العلّامة محمود بن محمّد بن علي الشيخاني القادري الشافعي المدني ، من أعلام القرن الحادي عشر (23).

* * *

« ولد بمكّة في البيت الحرام ، ولم يولد قطّ في بيت الله تعالى مولود سواه ، لا قبله ولا بعده ، وهذه فضيلة خصّه الله تعالى بها ، إجلالاً لمحلّه ومنزلته ، وإعلاءً لقدره ».

قالها :

ـ أمين الإِسلام الشيخ المفسِّر أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت 548 هـ ) (24).

ـ الحافظ محمّد بن معتمد خان البدخشاني الحارثي ، من أكابر علماء العامّة في القرن الثاني عشر (25).

* * *

« ولد بداخل البيت الحرام ، ولم يولد في البيت الحرام قبله أحدٌ سواه ، وهي فضيلة خصّه الله تعالى بها إجلالاً له ، وإعلاءً لمرتبته ، وإظهاراً لتكرمته ».

قالها :

ـ الحافظ نور الدين عليّ بن محمّد بن الصبّاغ المكّي المالكي ( 784 ـ 855 هـ ) (26).

وحكاها عنه :

ـ الفقيه المؤرِّخ نور الدين علي بن عبد الله الشافعي السمهودي ( 844 ـ 911

هـ ) في « جواهر العقدين في فضل الشرفين العلم الجليّ والنسب العليّ ».

ـ الشيخ علي بن برهان الدين الحلبي ( 975 ـ 1044 هـ ) في « إنسان العيون » (27).

ـ الشيخ مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي ، من علماء القرن الثالث عشر (28).

* * *

« ولد في البيت الحرام ، ولا نعلم مولوداً في الكعبة غيره ».

قالها نقيب الطالبيين الأديب الفقيه أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوي ، المعروف بالشريف الرضي ( 359 ـ 406 هـ ) (29).

* * *

« ولدته ـ أُمّه ـ في الكعبة ، ولا نظير له في هذه الفضيلة ».

قالها علم الهدى ذو المجدين علي بن الحسين الموسوي ، المعروف بالشريف المرتضى ( 355 ـ 436 هـ ) (30).

* * *

« لم يولد في الكعبة إلّا عليّ ».

قالها :

ـ الحافظ الفقيه محمّد بن علي القفّال الشاشي الشافعي ( ت 365 هـ ) (31).

ـ شيخ الإِسلام الحافظ المحدِّث إبراهيم بن محمّد الجويني الشافعي ( 644 ـ 730 هـ ) (32).

* * *

« ولدت ـ فاطمة بنت أسد ـ عليّاً عليه السلام في الكعبة ، وما ولد قبله أحدٌ فيها ».

نصّ على ذلك السيّد الشريف النسّابة نجم الدين أبو الحسن علي بن محمّد العلوي العمري ، من علماء القرن الخامس الهجري (33).

« لقد وُلِدَ عليه السلام في بيت الله الحرام ، ولم يولد فيه أحدٌ غيره قط ».

قالها الشيخ الفقيه أبو الحسين سعيد بن هبة الله ، المعروف بقطب الدين الراوندي ( ت 573 هـ ) (34).

* * *

« مولده عليه السلام في الكعبة المعظّمة ، ولم يولَد بها سواه ».

قالها العلّامة عمر بن محمّد بن عبد الواحد (35).

* * *

« ... فالولد الطاهر ، من النسل الطاهر ، وُلِدَ في الموضع الطاهر ، فأين توجد هذه الكرامة لغيره ؟!

فأشرف البقاع : الحرم ، وأشرف الحرم : المسجد ، وأشرف بقاع المسجد :

الكعبة ، ولم يولد فيه مولودٌ سواه.

فالمولود فيه يكون في غاية الشرف ، فليس المولود في سيّد الأيّام ( يوم الجمعة ) في الشهر الحرام ، في البيت الحرام سوى أمير المؤمنين عليه السلام ».

قالها الحافظ المؤرّخ أبو عبد الله محمّد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني ( ت 588 هـ ) بعد أن ذكر عدّة أحاديث في ولادة عليٍّ عليه السلام في الكعبة (36).

* * *

« وُلِدَ في الكعبة بالحرم الشريف ، فكان شرف مكّة وأصل بكّة لامتيازه بولادته في ذلك المقام المنيف ، فلم يسبقه أحد ولا يلحقه أحد بهذه الكرامة ».

قالها المحدّث الجليل السيّد حيدر بن علي الحسيني الآملي من علماء القرن الثامن الهجري (37).

* * *

« كانت ولادته بالكعبة المشرّفة ، وهو أوّل مَن وُلِدَ بها ، بل لم يُعْلَم أنَّ غيرَه وُلِدَ بها ».

قالها العلّامة صفي الدين أحمد بن الفضل بن محمّد باكثير الحضرمي الشافعي ، من أعلام القرن الحادي عشر (38).

* * *

« وُلِدَ عليه السلام بمكّة داخل الكعبة على الرخامة الحمراء ، ولم ينقل ولادة أحدٍ قبله ولا بعده في الكعبة ، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء ».

قالها كلٌّ من :

ـ العالم المحدِّث الفقيه السيّد تاج الدين بن علي بن أحمد الحسيني العاملي ، من علماء القرن الحادي عشر (39).

ـ العالم الفاضل محمّد بن رضا القميّ ، من علماء القرن الحادي عشر (40).

* * *

« ولادة معدن الكرامة في جوف الكعبة ، ولم يولَد أحدٌ فيها غيره ، وقد خصّه الله تعالى بهذه الفضيلة ، وشرّف الكعبة بهذا الشرف ».

قالها العلّامة الفاضل محمّد مبين بن محبِّ الله بن أحمد اللكهنوي الأنصاري الحنفي ( ت 1225 هـ ) (41).

« ولادته في مكّة المكرّمة في جوف بيت الله الحرام ، ولم يُولَد أحدٌ غيره في هذا المكان المقدّس ».

قالها العلّامة الشيخ محمّد صدّيق خان الحسيني البخاري القنوجي ( 1248 ـ 1307 هـ ) (42).

* * *

« كانت ولادته عليه السلام في جوف الكعبة ، ولم تتح هذه السعادة لأيّ أحدٍ منذ بدء الخليقة إلى الغاية ؛ وإنَّ لصحّة هذا الخبر بين المؤرّخين المتحفّظين على الفضائل صيتٌ لا تشوبه شبهة ، وتجاوز عن أن يصحبه الشكّ والترديد ».

قالها المؤرّخ الشهير محمّد بن خاوند شاه بن محمود ( ت 903 هـ ) (43).

* * *

« من المتّفق عليه أنَّ غيره صلوات الله عليه لم يولد هناك ».

قالها المؤرّخ العالم زين العابدين الشيرواني ، من علماء القرن الثاني عشر (44).

* * *

أمّا الشعراء ، وخاصّة العلماء منهم ، فقد زيّنوا شعرهم بقصائد في بيان فضائله ومناقبه عليه السلام المرويّة بالطرق الصحيحة المصحّحة المتواترة ، تخليداً لذكراه ، وأداءً لبعض حقّه ، وأثبتوا فيها خصوصية ولادته في الكعبة المعظّمة ، ومنهم :

العالم الأديب أبو الحسن علاء الدين عليّ بن الحسين الحلّي ، من العلماء الشعراء في القرن الثامن الهجري ، يقول في قصيدة دالية طويلة :

أمْ هل ترى في العالمين بأسرهم

 

بَشَراً سِواه ببيتِ مكّة يُولَدُ ؟

في ليلةٍ جبريل جاءَ بها مَع

 

الملأ المقدَّسِ حَولَهُ يَتَعَبَّدُ

فلقدْ سَمَا مجداً عليٌّ كما عَلا

 

شَرَفاً به دونَ البقاع المسْجِدُ (45)

ومنهم العالم المتكلِّم المحدِّث الفقيه المولى محمّد طاهر بن محمّد حسين القميّ ، صاحب المؤلّفات القيّمة النافعة ، المتوفّى سنة 1098 هـ ، في لاميّته البديعة التي مطلعها :

سَلَامَةُ القَلْبِ نَحَّتْنِي عَن الزَّلَلِ

 

وشُعْلَةُ العِلمِ دَلَّتني عَلى العَمَلِ

إلى أن يقول :

طُوبَى لَهُ كَانَ بَيتُ اللهِ مَوْلِدُهُ

 

كمِثلِ مولِدهِ ما كَانَ للرُّسُلِ (46)

ومنهم الفقيه المحدِّث الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ( 1033 ـ 1104 هـ ) صاحبُ « وسائل الشيعة » ، قال في أُرجوزةٍ له في تواريخ المعصومين عليهم السلام :

مَوْلِدُهُ بمكّة قد عُرِفَا

 

في داخِلِ الكعبةِ زيدت شرفا

على رُخامةٍ هناك حمرا

 

معروفة زادَتْ بذاكَ قدرا

فيا لها مزيّة عليّة

 

تخفضُ كلَّ رُتبةٍ عليّة

ما نالها قط نبيٌّ مرسلُ

 

ولا وصيّ آخرٌ وأوّلُ

ثمَّ شرع بنظم حديث يزيد بن قعنب المشهور (47).

ومنهم الشيخ الفقيه حسين نجف التبريزي النجفي ( 1159 ـ 1251 هـ ) ، حيث يقول في قصيدته الهائية :

جَعَلَ اللهُ بيتَهُ لعليٍّ

 

مولداً يا لَهُ عُلا لا يُضاهَىٰ

لم يشاركهُ في الولادةِ فيهِ

 

سيّد الرسلِ لا ولا أنبياها (48)

ومنهم العلّامة السيّد علي نقي النقوي الهندي اللكهنوي في موشّحة ميلاديّة طويلة ، منها قوله :

لم يكن في البيتِ مولودٌ سواهْ

 

إذ تعالى عن مثيلٍ في عُلاهْ

أُوتي العلم بتعليم الإِلٰهُ

 

فغذاه درّه قبل الفطامْ

يرتوي منه بأهنى مشربِ (49)

ومنهم آية الله السيّد محسن الأمين ( 1284 ـ 1371 هـ ) صاحب الموسوعة القيّمة « أعيان الشيعة » ، حيث ذكر في أول باب سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ، فصل في مولده ، من موسوعته الآنفة الذكر :

وُلِدْتَ ببيتِ اللهِ وهِيَ فَضِيلةٌ

 

خُصِصْتَ بها إذ فيكَ أمثالُها كُثْرُ (50)

وله أيضاً من مقصورة :

وَوُلِدْتَ في البيتِ الحَرامِ ولم يكن

 

هٰذا لغيركَ مَن يكون ومَن مضى (51)

ومنهم السيّد حسن بن محمود الأمين ( 1299 ـ 1368 هـ ).

في قصيدة بائية طويلة :

وُلِدتَ في البيتِ بيت الله فارتفعتْ

 

أركانهُ بكَ فوقَ السَّبعةِ الحُجُبِ

وتلكَ منزلةٌ لم يؤتها بشرٌ

 

بلى ومرتبةٌ طالت على الرُّتُبِ (52)

ومنهم الفاضل الأديب الشيخ محمود عبّاس العاملي في قصيدته العلويّة المسماة بـ « الدرر السنيّة » :

مَن مثلهُ في بيتِ بارِئهِ وِلِدْ ؟

 

ذي خصلةٍ قد خُصَّ فيها مُذ وُجِدْ

أمعن بها يا صَاح فكراً وٱعتمدْ

 

وٱنظُر لَها النظرَ الصحيحَ ولا تحِدْ

من واضحِ المنهاجِ وقِيتَ الضرر (53)

والشعر في خصوصية ولادة عليٍّ عليه السلام في الكعبة كثير ، التقطتُ منه هنا ما هو أروع إلى السمع وأوقع في القلب.

* * *

بعد هذه المقدمة لا بُدّ من خوض غمار حديث ولادة حكيم في الكعبة ، هذه المزعمة الزائفة ، والرواية المجعولة ، وإخضاعها لشيء من البحث والتحقيق والتمحيص ، لكشف زيفها وبيان وضعها ، إذ فيها الكثير ممّا يوجب الشكّ والريب في سلامتها وصحّتها ، وبراءة ساحة رواتها.

وأوّل من نُسِبَت إليه وحُكِيَت عنه ، وأقدمهم :

هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، النسّابة المعروف ، صاحب التآليف التي نيّفت على المائة والخمسين ، والمتوفّى سنة أربع أو ستّ ومائتين ، وقيل : الأوّل أصحّ.

والكلبي ممّن تكالب بعض علماء الجرح والتعديل من العامّة على تضعيفه وترك ما رواه ، وعدم الاحتجاج به.

قال الدارقطني وغيره : متروك الحديث (54).

وقال يحيى بن معين : غير ثقة (55).

وقال السمعاني : « يروي العجائب والأخبار التي لا أُصول لها ... أخباره في الْأُغلوطات أشهر من أن يحتاج إلى الإِغراق في وصفها » (56).

وهذه الاتّهامات ضدّ الكلبي ليس لها وزن عندنا ، لأنّها ناشئة عن تعصّب طائفي ، ومنقوضة بما يخالفها من آراء حسنة في الرجل تدلُّ على خبرته وأمانته.

إلّا أنّا نشكِّك في صحّة نسبة ذلك القول إليه ، وفي صدق الحكاية عنه.

والمتّهَم في التقوّلِ عليه هو روايته السكَّري ، فقد نسب إلى الكلبي أنّه قال في « جمهرة النسب » :

« وحكيم بن حزام بن خويلد عاش عشرين ومائة سنة ، وكانت أمّه ولدته في الكعبة » (57).

وكتاب الجمهرة من أشهر كتبه ، عدّه كبار المؤرّخين من مصنّفاته ، وذكروا أنّ محمّد بن سعد كاتب الواقدي ومصنّف كتاب « الطبقات » الكبير رواه عنه مع سائر مصنّفاته.

ولكنّ النسخة التي بأيدينا من كتاب الجمهرة هي برواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري ( 212 ـ 275 هـ ) عن أبي جعفر محمّد بن حبيب بن أُميّة البغدادي ( ت 245 هـ ) عن الكلبي.

وهذا خلاف ما أثبته المؤرِّخون كالنديم والحموي وغيرهما (58).

وكان لهذا الاختلاف أثرٌ كبير ، ودور مؤثِّر في متن الكتاب الأصلي.

فقد عمد السكّري إلى دسّ بعض آرائه وأقواله ومرويّاته في متن الجمهرة ، مصدِّراً بعضها بـ « قال أبو سعيد » ، هاملاً البعض الآخر ، كما قام بتحريف بعض الجُمل والكلمات ، أو تبديلها بما يتلاءم وآراءه الفكرية والمذهبيّة.

وكان هذا ديدن السكّري في ما يرويه من مصنّفات غيره ، وهكذا صنع بكتاب « المحبّر » لأُستاذه وشيخه أبي جعفر محمّد بن حبيب.

وقد تنبّه لهذا الأمر محقّقا كتابي الجمهرة والمحبَّر.

قال الدكتور ناجي حسن محقّق الجمهرة في مقدّمة التحقيق :

« لقد وصلتنا جمهرة النسب لابن الكلبي برواية أبي سعيد السكّري ، عن محمّد ابن حبيب ، عن ابن الكلبي ، ومع ذلك ظهرت فيها إضافات واضحة ، وزيادات ، وتعليقات بيّنة ، لم ترد في أصل الجمهرة ، بل أضافها الرواة والنسّاخ.

ولا يستبعد أن يكون أبو سعيد السكّري هو نفسه الذي قام بهذا العمل ، حين وجد لديه فيضاً من الأخبار ذات الصلة بالأنساب » (59).

بعد هذا كلّه فليس من المستبعد ، ولا المستحيل ، أن تكون جملة « وكانت أُمّه ولدته في جوف الكعبة » في ذيل كلمة الكلبي المتقدِّمة من تلك الإِضافات ، والزيادات ، والتعليقات البيّنة ، المحسوبة « فيضاً من الأخبار ذات الصلة بالأنساب ».

فإنْ كانت هذه الزيادة مبهمة بعض الشيء أو مشكّك في أنّها من الجمهرة ، فهي واضحة ، مكشوفة ، جليّة في المحبّر.

ففي فصل الندماء من قريش :

« وكان الحارث بن هشام بن المغيرة نديماً لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ـ وحكيم هذا ولد في الكعبة ، وذلك أنّ أُمّه دخلت الكعبة وهي حامِلٌ به ، فضربها المخاض فيها ، فولدته هناك ـ أسلما جميعاً » (60).

فالعبارة التي بين شارحتين قد أحدثت فاصلة بين صدر الكلام وذيله ، إذ المراد بقوله « أسلما جميعاً » : الحارث وحكيم ، كما يدلُّ عليه قوله المتقدِّم في أول الفصل المذكور : « وكان حمزة بن عبد المطّلب نديماً لعبد الله بن السائب المخزومي ، أسلما جميعاً » (61).

على أنَّ هذا الفصل هو في الندماء من قريش ، وليس في ذكر أحوالهم وأحوال أُمّهاتهم وتاريخ ولاداتهم وكيفيّتها.

أضف إلى هذا أنَّ عناوين الفصول والأبواب في المحبّر انتخبت بدقة لتتلاءم مع محتوياتها ، كما يلاحظ بشكل جليّ أنّها خالية من الحشو وذكر الْأُمور الفرعية ، اللّهمّ إلّا في بعض الموارد التي هي من إضافات السكّري.

ففي فصل أسلاف رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم :

« وسالفه صلّى الله عليه : سعيد بن الأخنس ـ قال أبو سعيد السكّري : سعيد هذا هو الذي قال النبي صلّى الله عليه : أبعده الله ، فإنّه كان يبغض قريشاً ـ بن شريق ابن وهب .... » (62).

وما أشبه قوله « سعيد هذا » بقوله « حكيم هذا ».

وما أشبه الفاصلة بين « بن الأخنس ... بن شريق » بالفاصلة الحادثة في الفقرة موضع البحث ، وكلّ ما في الأمر تصديرها بـ « قال أبو سعيد السكّري » هنا ، وتركها سائبة مهملة هناك.

لم يكتف السكّري بهذا ، بل أضاف في بعض الموارد جملاً وروايات تتماشى مع اعتقاداته المذهبيّة.

أذكر منها ما في أواسط فصل « ذكر سرايا رسول الله صلّى الله عليه وجيوشه ».

« وفيها غزوة عمرو بن العاص السهمي على ذات السلاسل ، ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح في جيشه ، وكان استمدَّ ، فأمدَّه النبي صلّى الله عليه بجيش فيهم أبو بكر وعمر ، ورئيس الجيش أبو عبيدة بن الجرّاح.

قال أبو سعيد : فشكا أبو بكر وعمر رحمهما الله إلى النبي صلّى الله عليه عمرو ابن العاص ، فقال لهما : لا يتأمّر عليكما أحدٌ بعدي. وهذا توكيد لخلافة أبي بكر وعمر رحمهما الله » (63).

ولستُ في صدد الخوض في بحوث الخلافة والإِمامة ، ومَن هو أحقُّ بها من غيره ، أو الولوج في مدى صحّة حديث « لا يتأمّر عليكما أحد بعدي » وعدمه ، فهذا أمر أشبعه علماؤنا بحثاً وتفصيلاً ، ولكن أوردت هذا المثال لبيان تلاعب السكّري في متون الكتب ، وهدفه من ذلك وغايته.

يقول محقّق كتاب المحبّر في كلمة الختام :

« وأظن أنّه ـ أي ابن حبيب ـ كان يميل إلى الشيعية ، فإنّه لا يذكر أبداً أُمّ المؤمنين عائشة ، وسيّدنا أبا بكر الصدّيق ، وسيّدنا عمر إلّا بكلمة ( رحمه الله ) مع أنّه دائماً يذكر أُمّ المؤمنين خديجة وسيّدنا عليّاً بكلمة ( رضي الله عنه ) رضي الله عنهم أجمعين.

وأيضاً قد أثبت جميع ما يعاب به الرجل في سيّدنا عمر ، مثل أنّه كان أحول (64).

أو كان قد ضرب ، قبل أن يسلم ، جاريته ضرباً مبرّحاً على قبولها الإِسلام ، ربّنا لا تجعل في قلوبنا غِلاً للّذين آمنوا !

فمن أجل ذلك ، فيما أحسب ، أنَّ راويه أبا سعيد السكّري يضيف أحياناً إلى متن الكتاب ما يؤيّد رأي أهل السنّة والجماعة في أمر الخلافة » (65).

وقد تحامل كثيراً على ابن حبيب لوصفه عمر بأنّه أحول ، وهو أمرٌ خلقي وليس عيباً كما ادعى.

أو إثباته لبعض الحقائق التاريخية الثابتة المرويّة في جلِّ كتب السيرة والتاريخ كضرب عمر جاريته لأنّها سلكت طريق الحقّ وأسلمت.

حتّى أنّه عدَّها من الغِل جهلاً وتعصّباً !

ويا ليته أمعن في مسألة تلاعب السكّري المكشوف بمتن المحبّر ، وإضافاته الواضحة إليه ، حتّى يراها عين اليقين ، لكنّه تساهل كثيراً وقال « فيما أحسب » فكان من الّذين ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون.

* * *

فإنْ قيل : لا يهمّ عدم ذكر الكلبي وابن حبيب لخبر ولادة حكيم بن حزام في الكعبة ، في أصل كتابيهما ، وأنّها ممّا أضافه السكّري فيما بعد باعتباره الراوي الأول لهما ، وثبوت نسبة هذه الزيادات إليه ؛ لأنّنا نروي عن أئمة الجرح والتعديل عندنا توثيقه.

فقد قال فيه الخطيب البغدادي : كان ثقة ديِّناً صادقاً (66).

وقال ياقوت الحموي : الراوية الثقة المكثر (67).

فما زاده السكّري في متن الكتابين نعدّه صحيحاً مقبولاً.

قيل لهم : إنَّ ما أثبتناه من التلاعب السافر للسكّري في نصوص الكتب ومتونها ، ينافي إطلاقكم صفة « ثقة » عليه ، لأنَّ الوثاقة هي الأمانة ، والثقة : الأمين ، يقال : وَثِقْتُ بفلان أثِقُ ثِقَةً إذا ائتمنته (68).

وقد بيَّنّا أنَّه لم يكن أميناً في رواية الكتابين ، لخيانته للأمانة العلميّة المتَّبعة في الاحتفاظ بالنصوص على ما هي عليه ونقضه قواعد الرواية ، ففتح بذلك باباً للتلاعب المُعْلَن بالكتب والآثار ، لم يُغْلَق إلى عصرنا هذا.

على أنّا لو سلَّمنا أنه كان ثقة كما تدَّعون ، فروايته هذه مردودة لأكثر من سبب.

منها : الإِرسال ؛

والذي عليه جلّ العلماء وأجلّتهم أنّه ضعيف ، مردود ، لا يحتجّ به.

قال النووي في التقريب : « ثمَّ المرسَل حديث ضعيف عند جماهير المحدِّثين ، وكثير من الفقهاء وأصحاب الْأُصول » (69).

وقال مسلم في مقدَّمة صحيحه : « والمرسَل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجَّة » (70).

وقال ابن الصلاح في مقدّمته : « ثمَّ اعلم أنَّ حكم المرسَل حكم الحديث الضعيف ، إلّا أن يصحّ مخرجه بمجيئه من وجه آخر » (71).

وقال النووي : « ودليلنا في ردِّ العمل به أنّه إذا كانت رواية المجهول المسمّى لا تُقْبَل لجهالة حاله ، فرواية المرسل أوْلى ، لأنَّ المرويّ عنه محذوف ، مجهول العين والحال ».

وقال ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل : « سمعتُ أبي وأبا زرعة يقولان : لا يُحْتَجَّ بالمراسيل ، ولا تقوم الحجَّة إلّا بالأسانيد الصحاح المتَّصلة » (72).

أمّا معنى المُرسَل فهو أن يكون في طريق الخبر راوٍ مُلْتَبِس العين ، إمّا بأن لا يُذْكَر ، أو أن يُذْكَر على نحو الإِبهام (73).

وعرّفه أبو العبّاس القُرطبي ، مِن أئمة المالكية قائلاً : « المرسَل عند الْأُصوليّين والفقهاء عبارة عن الخبر الذي يكون في سنده انقطاع ، بأنْ يُحَدِّث واحد منهم عمّن لم يلقه ، ولا أخذ عنه » (74).

ورواية السكّري ، حتّى لو فرضنا أنّها رواية الكلبي وابن حبيب ، هي من المراسيل ، وليست من المسند الذي هو عند أهل الحديث ما اتّصل إسناده من راويه إلى منتهاه (75).

والمعروف أنّ الكلبي وابن حبيب والسكّري وغيرهم ممّن سيأتي ذكرهم قد عاشوا ونبغوا في القرن الثالث للهجرة وما بعده ، فمَن الذي حدَّثهم بولادة حكيم في الكعبة ، مع أنّها كانت قبل الإِسلام بستّين سنة ، كما أرّخ ذلك بعض المؤرّخين ؟! (76).

ومنها : الشذوذ ومخالفة المشهور.

والحديث الشاذّ هو الحديث الذي يتفرَّد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصلٌ متابع لذلك الثقة (77).

روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيره بإسنادهم إلى يونس بن عبد الأعلى قال : قال لي الشافعي : ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره ، هذا ليس بشاذّ ؛ إنّما الشاذّ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس ، هذا الشاذّ من الحديث (78).

زاد ابن الصلاح في مقدَّمته : « فخرج من ذلك أنَّ الشاذّ المردود قسمان :

أحدهما : الحديث المنفرد المخالف.

والثاني : الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما وقع جابراً لما يوجبه التفرّد والشذوذ من النكارة والضعف » (79).

ونحو هذا التقسيم قسَّم ابن الصلاح الحديث المنكر (80).

وقد أمر أحمد بن حنبل ابنه أن يحذف حديث « يهلك أُمّتي هذا الحيّ من قريش » لمخالفته المشهور.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : « قال أبي في مرضه الذي مات فيه : اضرب على هذا الحديث ، فإنّه خلاف الأحاديث عن النبي صلّی الله عليه وسلّم ».

تعقَّبه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب « خصائص المسند » قائلاً : « وهذا مع ثقة رجال إسناده ، حين شذَّ لفظه عن الأحاديث المشاهير أمر بالضرب عليه » (81).

ونقل ابن الجوزي عن بعضهم أنّه قال : « إذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو يخالف المنقول ، أو يناقض الْأُصول ، فاعلم أنّه موضوع » (82).

ولا شبهة في أنَّ ما تفرّدت به هذه الآحاد من زعمهم أنَّ ولادة حكيم كانت في الكعبة هو خبر شاذّ ، منكر ، موضوع ، خالفوا فيه المنقول ، وناقضوا الْأُصول ، إذ لم تتوفّر فيهم وفي خبرهم ما يدفع شذوذه ونكارته ووضعه.

وقد مرَّ عليك قول شهاب الدين الآلوسي وغيره من الأعلام أنّ حديث ولادة عليّ عليه السلام في الكعبة « أمرٌ مشهور في الدنيا ، ولم يشتهر وضع غيره ـ كرّم الله وجهه ـ كما اشتهر وضعه ، بل لم تتّفق الكلمة عليه ».

والتأكيد عليه في مصادر الحديث المعتبرة ، وكلمات مَهَرة الفنّ ، وحملة العلم ، وأهل السِيَر ، وأصحاب التاريخ ، وصاغة الشعر ، لا يدع مجالاً لشيء إلّا الإِذعان بأنّه الصحيح الشائع الذائع المستفيض ، السائر ذكره مع الركبان ، الدائر بين الناس ، المقبول عند الْأُمّة ، المشهور بين القاصي والداني ، شهرة لازمها تواتر الأسانيد التي لم يخل سند منها من محدِّث ثقة ، وناقد خبير ، وعالم باحث ، ومؤرّخ ثبت ، وإمام من أئمّة الفريقين وأساطينهم ، لا يستهان بعددهم ، ولا يطعن في روايتهم ، ولا يغمز في شيء من أمانتهم ، كٱبن إسحاق المطَّلِبي ، وابن زكرة الأزدي ، والقفّال الشاشي ، والشيخ ابن بابويه الصدوق ، والشيخ المفيد ، والحاكم النيسابوري ، والشريف الرضي ، والسيّد المرتضى علم الهدى ، والكراجكي ، وشيخ الطائفة الطوسي ، وابن أبي الغنائم العمري النسّابة ، وابن أبي الفوارس ، وابن المغازلي ، وعماد الدين الطبري ، وسبط ابن الجوزي ، والحافظ الكنجي ، والسيّد ابن طاوُس ، وشيخ الإِسلام الجويني ، وابن الصبّاغ المالكي ، و ... و ...

فلا شكّ إذن في أنّه من ، الأحاديث « المشهورة التي يعرفها أهل العلم ، وقلَّما يخفى ذلك عليهم ، وهو المشهور الذي يستوي في معرفتها الخاصّ والعامّ » (83).

* * *

وروى ولادة حكيم في الكعبة الزبير بن بكّار ( 172 ـ 256 هـ ) في كتابه « جمهرة نسب قريش » ، قال : « حدَّثني مصعب بن عثمان ، قال : دخلت أُمّ حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش ، وهي حامل مُتمٌّ بحكيم بن حزام ، فضربها المخاض في الكعبة ، فأُتيت بنطع حيت أعجلها الولاد ، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع » (84).

وليست هذه الرواية بأحسن حالاً من سابقتيها ، ففيها :

أولاً : الزبير ، وهو ضعيف عند بعضهم ، قال عنه الحافظ أحمد بن علي السليماني في كتاب الضعفاء : منكر الحديث (85).

وذكره في عِداد مَن يضع الحديث ، وقال مرّة : منكر الحديث (86).

واعتذر عنه ابن حجر العسقلاني بأنّ السليماني « لعلّه استنكر إكثاره عن الضعفاء ، مثل محمّد بن الحسن بن زبالة ، وعمر بن أبي بكر المؤملي ، وعامر بن صالح الزبيري وغيرهم ، فإنَّ في كتاب النسب عن هؤلاء أشياء كثيرة منكرة » (87).

وثانياً : رغم البحث الجادّ فيما وقع بيدي من معاجم رجالية لم أعثر على مدحٍ أو توثيق لمصعب بن عثمان ، هذا الذي روى هذه الحادثة ، سوى نسبه وهو : مصعب بن عثمان بن عروة بن الزبير بن العوّام (88) ، فلا أقلّ من أنَّ حاله مجهول ، إنْ لم يكن من أُولئك الضعفاء الّذين أكثر ابن بكّار في الرواية عنهم في الجمهرة أشياء منكرة كثيرة ، خاصّة أنّه كان الواسطة بين عامر بن صالح وبينه.

وشيخه هذا ـ عامر ـ كان كذّاباً ، ليس بثقة ، عامّةُ حديثه مسروق ، يروي الموضوعات ، لا يحلُّ كَتْبُ حديثه إلّا على التعجّب ، ولعلّه ورَّث تلميذَه شيئاً من ذلك (89).

ثالثاً : أنَّ مصعب بن عثمان هذا لم يذكر سنداً لهذه الرواية ، ولا صرّح بٱسم من حكاها له ، ولا أشار إلى المصدر الذي استقاها منه ، وأقلُّ ما يمكننا القول إنَّها كسابقتيها مُرسلة ، منكرة ، شاذّة ، ضعيفة.

ومن العجب أنَّ بعض المؤلِّفين أوردوا رواية الزبير هذه في مؤلّفاتهم يرسلونها إرسال المسلَّمات ، ويوردونها مستدلِّين بها محتجِّين ، وكأنَّها من الأحاديث المسندة الصحيحة المتواترة الثابتة التي لا تقبل الجدل ، ولا تخضع للنقاش !!

فقد أخرجها عن الزبير :

جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي ( 510 ـ 597 هـ ) في كتابه « صفة الصفوة » (90).

جمال الدين أبو الحجّاج يوسف المزّي ( 654 ـ 742 هـ ) في كتابه « تهذيب الكمال » (91).

شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي ( 673 ـ 748 هـ ) في كتابه « سِيَر أعلام النبلاء » (92).

شهاب الدين ابن حجر العسقلاني ( 773 ـ 852 هـ ) في كتابه « الإِصابة » (93).

وقد تعوّدنا من هؤلاء الأربعة ـ خصوصاً ـ محاولاتهم الدائبة للتستّر على فضائل عليٍّ وأهل بيته عليهم السلام وكتمانها ، وتضعيفها مهما كثرت طرقها وتواترت أسانيدها ، وأفرطوا في ذلك حتّى اشتهروا به.

كما تعوّدنا منهم الإِخبات بصحّة الفضائل الموضوعة ، والكرامات المختلَقة ، والأحاديث الضعيفة الواهية المرويّة في مَن كان على رأيهم ، ويذهب مذهبهم ، ويوافق هواهم وزيغ قلوبهم ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ).

* * *

ورواها الحاكم أبو عبد الله النيسابوري ( 321 ـ 405 هـ ) في « المستدرك » بطريقين :

الأوّل : « سمعتُ أبا الفضل الحسن بن يعقوب ، يقول : سمعت أبا أحمد محمّد ابن عبد الوهّاب ، يقول : سمعت عليّ بن عَثّام العامري ، يقول :

ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة ، دخلت أُمّه الكعبة فمخضت فيها ، فولدت في البيت » (94).

وابن عثّام هذا هو أبو الحسن الكلابي الكوفي ، توفّي سنة 228 هـ ، وتحرّف اسمه في مطبوعة المستدرك إلى : غنام.

قال عنه الحاكم في تاريخه : « أديب فقيه ... أكثر ما أُخذ عنه الحكايات ، والزهديّات ، والتفسير ، والجرح والتعديل » (95).

وروايته المتقدّمة التي لا تقوم بها الحجّة عند أهل العلم بالحديث ، تدخل في باب الحكايات ، وهو أنسب باب لها ولمثيلاتها من المرسَلات الواهية والأحاديث المختلَقة.

ولعلّ الذهبي قد تنبّه إلى ما فيها من الوهن والضعف فحذفها من مختصره ولم ينبس عنها ببنت شفة ، ولو صحّت بوجه من الوجوه لم يحذفها ، إذ استنفد ما لديه من حقد وعلم مقلوب في تجريح وتضعيف وتقبيح وسبّ لرواة مناقب عليّ وأهل بيته عليه السلام !

الثاني : « أخبرنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن بالويه ، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، ثنا مصعب بن عبد الله ، فذكر نسب حكيم بن حزام وزاد فيه :

وأُمّه فاختة بنت زهير بن أسد بن عبد العزّى ، وكانت وَلَدَتْ حكيماً في الكعبة ، وهي حامل ، فضربها المخاض وهي في جوف الكعبة ، فولدت فيها ، فحملت في نطع وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم ، ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد !

قال الحاكم : وَهَمَ مصعب في الحرف الأخير ، فقد تواترت الأخبار أنَّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة » (96).

ويا ليت شعري هل أصاب في الحرف الأول ، كي ينبّه الحاكم إلى وهمه في الأخير ؟!

أم حسب أنّ هذه المزعمة المرسلَة والمقطوعة السند قد وصلت إليه بـ « الأسانيد المنقولة إلينا بنقل العدل عن العدل ، وهي كرامة من الله لهذه الْأُمّة خصّهم بها دون سائر الْأُمم » (97) ؟!

ومَن هؤلاء العدول الّذين أهمل الزبيري ذكرهم ؟!

ونقل الذهبي هذه السفسطة في تلخيصه ، مؤيِّداً ـ على غير عادته ـ رأي الحاكم في وهم مصعب الزبيري. وقد تكلّم الحجّة الْأُوردبادي على رواية مصعب هذه في عدّة موارد ، ونبّه إلى بعض ما فيها من نقاط الضعف ، فراجع (98).

* * *

ورواها أبو الوليد محمّد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في « أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار » قال :

حدَّثني محمّد بن يحيى ، حدَّثنا عبد العزيز بن عمران ، عن عبد الله بن أبي سليمان ، عن أبيه أنَّ فاختة ابنة زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى ـ وهي أُمّ حكيم بن حزام ـ دخلت الكعبة وهي حامل ، فأدركها المخاض فيها ، فولدت حكيماً في الكعبة ، فحُمِلتْ في نطعٍ وأُخِذَ ما تحت مَثْبرِها (99) ، فغُسِلَ عند حوض زمزم ، وأُخِذَتْ ثبابُها التي ولدت فيها فجُعِلَتْ لَقىً (100) (101).

وللباحث أن يتساءل عن الأزْرَقيِّ هذا :

ـ مَن هو ؟!

ـ ما قيمة أخباره وأحاديثه عند علماء الحديث وأئمة الجرح والتعديل ؟!

ـ مَن هؤلاء الرجال الّذين روى عنهم هذا الحديث ؟!

الأزْرَقيُّ ، هو : محمّد بن عبد الله بن أحمد بن محمّد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق الغسّاني المكّي ، عرّفه ابن النديم بأنّه « أحد الإِخباريّين وأصحاب السِّيَر ، وله من الكتب كتاب مكّة وأخبارها وجبالها وأوديتها ، كتابٌ كبيرٌ » (102).

هذا هو كُلُّ ما ذكر عنه ، وليس فيه تصريح يستفاد منه حُسن الرجل أو وثاقته ، ويبدو أنَّ ابن النديم قد تفرّد بترجمته ، حيث أهملها علماء الرجال والمتخصِّصون الأقدمون ، وإنّما ذكروه ضمناً في ترجمة جدِّه أحمد ـ المتوفّى سنة 212 ، أو 217 ، أو 222 هـ ـ المعدود في مشايخ البُخاري ، وأبي حاتم محمّد بن إدريس الرازي ، ومحمّد بن سعد كاتب الواقدي.

فقال المِزِّي في تهذيب الكمال : أحمد بن محمّد ... جدُّ أبي الوليد محمّد بن عبد الله الأزْرَقي صاحب تاريخ مكّة (103).

ثمَّ عدَّ الرواة عنه ومنهم : ابن ابنه أبو الوليد محمّد بن عبد الله الأزْرَقيُّ (104).

وذكره وكتابَه هذا شمس الدين السخاوي ( المتوفّى سنة 902 هـ ) في « الإِعلان بالتوبيخ لِمَن ذمَّ التاريخ » وقال : كان في المائة الثالثة (105).

ولعلّه استنتج ذلك من كتاب الأزْرَقي نفسه ، حيت أرّخ فيه لحادثة وقعت في سنة عشرين ومائتين (106) ، أو من معرفته بطبقة جدّه وعصره.

* * *

في النتيجة يتبيّن لنا أنّه ليس في المصادر التي ترجمت للأزْرَقي ، أو ذكرته ، ما يُشجِّع ، أو يساعد ، على قبول أخباره عموماً ، وحديثه الشاذّ هذا خصوصاً.

أمّا شيخه الحافظ أبو عبد الله محمّد بن يحيى بن أبي عمر العدني ، فقد ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه « الجرح والتعديل » وقال :

سألت أبي عنه فقال : كان رجلاً صالحاً ، وكانت به غفلة ، رأيت عنده حديثاً موضوعاً (107).

وقال البخاري : مات بمكّة لإِحدى عشرة بقيت من ذي الحجّة سنة ثلاث وأربعين ومائتين (108).

والملاحظ أنَّ جلّ روايته في « أخبار مكّة » عن شيخيه : محمد بن عمر الواقدي المتّفق على ضعفه وترك حديثه (109).

وعبد العزيز بن عمران.

وهو : عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني الأعرج ، المعروف بابن أبي ثابت.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن عبد العزيز بن عمران فقال : ما كتبتُ عنه شيئاً.

وقال البخاري : لا يكتب حديثه ، منكر الحديث.

وقال النسائي : متروك الحديث.

وقال يحيى بن معين : ليس بثقة ، إنّما كان صاحب شعر.

وقال عليّ بن الحسين بن حبّان : وجدتُ في كتاب أخي بخطِّ يده : أبو زكريّا ابن أبي ثابت الأعرج المديني قد رأيته هاهنا ببغداد ، كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم ، ليس حديثه بشيء.

وقال أبو حاتم الرازي : متروك الحديث ، ضعيف الحديث ، منكر الحديث جدّاً.

وقال محمّد بن يحيى الذهلي النيسابوري : عليَّ بدنة إنْ حدّثتُ عن عبد العزيز ابن عمران حديثاً.

وقال ابن حبّان : يروي المناكير عن المشاهير.

وقال الرازي : امتنع أبو زرعة من قراءة حديثه ؛ وتَرَكَ الرواية عنه (110).

إنَّ اتّفاق هؤلاء الأعلام على ضعف عبد العزيز بن عمران وترك حديثه ، واشتهاره بالكذب ، ورواية المناكير ، وسوء الخلق و ... ، أغناني عن اللجوء إلى التدقيق والبحث في بقيّة السند.

إنَّ مصنّفاً مجهول الحال كالأزْرَقي وراوٍ كالأعرج ، لا يصحُّ الاعتماد عليهما في إثبات حادثة شاذّة كهذه ، وسندٌ هذا مبدؤه ومنتهاه محكوم عليه بالإِهمال والإِعراض التامَّيْن ، ولا يصحُّ للباحث الجادّ أن يستند إليه بأيّ وجه ، وفق ما قرّره علماء الدراية.

قال الحافظ يحيى بن سعيد القطّان ـ الذي وصفه الذهبي بأمير المؤمنين في الحديث (111) ! ـ : « لا تنظروا إلى الحديث ، ولكن اُنظروا إلى الإِسناد ، فإنْ صحَّ الإِسنادُ ، وإلّا فلا تَغْتَرُّوا بالحديث إذا لم يصحَّ الإِسنادُ » (112).

وقال الحافظ عبد الله بن المبارك : « ليس جَوْدَةُ الحديثِ قُرب الإِسناد ، جَوْدَةُ الحديث صِحَّةُ الرجال » (113).

وقد عرفتَ فيما تقدّم أنَّ رواية الأزْرَقي هذه لم تصحَّ إسناداً ولا رجالاً على أقلّ تقدير.

* * *

تُشكِّل الروايات والنصوص المتقدّمة المصدر الرئيسي والمرجع الأساسي المهمّ لهذه المزعمة الواهية.

والقاسم المشترك بينها جميعاً هو الإِرسال ، والشذوذ ، ومخالفة ما هو مشهور ، والنكارة ، والتحريف ، والتلاعب في بعض مصادرها ، وضعف بعض رواتها ، وعلّة واحدة من هذه العلل يُسْقِطُ الاعتماد عليها ، ويُوجِبُ نبذها جانباً ، فكيف بها مجتمعة ؟!

وتبيّن من خلال البحث في تواريخ رواتها أنّها ظهرت في القرن الثالث الهجري ، وأنّها ممّا تعمّد وضعه وتدرّج نحته في الأزمنة المتأخّرة ، وما أكثرها.

يقول يحيى بن معين مُشيراً إلى كثرتها : « كتبنا عن الكذّابين ، وسجّرنا به التنور ، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً » (114).

والعجب أنَّ أكثر هذه الأحاديث وجلّها قد وضعها « أهل الخير والزهد » !

قال يحيى بن سعيد القطّان : « لم نرَ الصالحين في شيء أكذبَ منهم في الحديث » (115).

وقال : « لم نرَ أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث » (116).

وقال : « ما رأيت الكذب في أحدٍ أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد » (117).

من أجل هذا ـ وغيره ـ ينبغي لنا ألّا نمنح هذا التاريخ ثقتنا واعتمادنا ، بل يجب غربلته وأزالة شوائبه بإخضاع نصوصه وأخباره لدراسة علمية ، حيادية ، مستوعبة وشاملة لجميع جوانبه ، مع الاهتمام بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ ، فلا فائدةَ من تصنيفِ الأخبارِ إلى تافهٍ وقيّمٍ ، إلّا بعد البحث والدراسة ، فالتافهُ ما أثبتَ التحقيقُ تفاهته وزيفه وضعف قواعده وتضعضع دعائمه ؛ والقيّمُ ما أثبتَ التمحيصُ أصالته ، وظهرت براهينه ، ولاحت دلائله ، وصمد عند النقد.

وفي الختام أحمدُ اللهَ سُبحانهُ لِما خصَّني به من لطفِ القيام بهذا العمل المتواضع ، آملاً أن يروق أهل الفضل والتحقيق ، متوكّلاً على الفرد الصمد ، متوسِّلاً بحِجْزةِ وليد الكعبة ، مستمدَّاً العون من ساحة قُدسه.

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) ( وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ) ( أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ).

* * *

الهوامش

1. شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 11 / 44 عن كتاب « الأحداث » لأبي الحسن علي بن محمّد المدائني.

2. المصدر السابق : 11 / 46.

3. المصدر السابق.

4. راجع الغدير 7 : 197 ـ 199.

5. راجع الغدير 7 : 197 ـ 199.

6. راجع الغدير 10 : 94.

7. المعجم الأوسط للطبراني 1 : 438 ح 788 ، عنه مجمع الزوائد 9 : 371.

8. فضائل الصحابة 2 : 591 ح 1002 طبعة مكّة.

9. نزهة المجالس 2 : 204.

10. أُنظر إنسان العيون 1 : 227.

11. قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر العسقلاني في الإِصابة : 4 / 269 : « كلّما أرادوا ـ يعني بنو أُميّة ـ إخمادها وهدّدوا مَن حَدَّثَ بمناقبه لا تزداد إلّا انتشاراً ».

12. كفاية الطالب : 407.

13. الإِرشاد : 9.

14. عمدة عيون صحاح الأخبار : 24.

15. روضة الواعظين : 76.

16. كشف الغمّة 1 : 59.

17. نهج الحقّ وكشف الصدق : 232.

18. منهج الشيعة في فضائل وصيّ خاتم الشريعة : 7 ، نسخة مكتبة آية الله الكلبايكاني المؤرّخة 1265 هـ.

19. إرشاد القلوب : 211.

20. عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : 58.

21. كنز المطالب وبحر المناقب : 41 ، نسخة المدرسة الفيضية المؤرّخة 989 هـ.

22. جامع المقال : 187.

23. الصراط السويّ : 152 ، نسخة المكتبة الناصرية في لكهنو بالهند ، والتي يظهر أنّها بخطّ المؤلّف.

24. إعلام الورى : 153 ، تاج المواليد : 12.

25. مفتاح النجا في مناقب آل العبا ، نزل الأبرار بما صحَّ من مناقب أهل البيت الأطهار : 115.

26. الفصول المهمّة : 30.

27. عنهما عليٌّ وليد الكعبة : 119.

28. نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار : 156.

29. خصائص الأئمّة : 4.

30. شرح قصيدة السيّد الحميري المذهَّبة : 51 ، طبعة مصر سنة 1313 هـ.

31. فضائل أمير المؤمنين : مخطوط ، عنه إحقاق الحقّ 7 : 489.

32. فرائد السمطين 1 : 425.

33. المجدي في أنساب الطالبيّين : 11.

34. الخرائج والجرائح 2 : 888.

35. النعيم المقيم لعترة النبأ العظيم : 16 ، مخطوطة مكتبة آيا صوفيا ـ تركيا ، وأنظر بشأنه إيضاح المكنون 2 : 661 ، أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في المكتبة العربيّة.

36. مناقب آل أبي طالب 2 : 175.

37. الكشكول فيما جرى على آل الرسول : 189.

38. وسيلة المآل : 282 ، نسخة مكتبة آية الله المرعشي النجفي العامة ، المؤرّخة 1280 هـ.

39. التتمّة في تواريخ الأئمّة ، الفصل الثالث ، مخطوط.

40. كاشف الغمّة : 422 ، نسخة المؤلِّف المخطوطة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى ، برقم 2000.

41. وسيلة النجاة : 60 ، طبعة كلشن فيض ـ لكهنو.

42. تكريم المؤمنين بتقويم مناقب الخلفاء الراشدين : 99 ، طبعة الهند سنة 1307 هـ.

43. روضة الصفا في آداب زيارة المصطفى ، الجزء الثاني.

44. بستان السياحة : 543 ، الطبعة الثانية.

45. تجد القصيدة كاملة في الغدير 6 : 356 ـ 364.

46. الغدير 11 : 320.

47. عليٌّ وليد الكعبة : 36.

48. نقلها الشيخ الأوردبادي في عليٌ وليد الكعبة : 69 عن ديوان الشيخ المخطوط.

49. تجدها كاملة في عليّ وليد الكعبة : 85 ـ 88 ، والغدير 6 : 33 ـ 35.

50. أعيان الشيعة 1 : 323.

51. عليٌّ وليد الكعبة : 108.

52. أعيان الشيعة 5 : 285 ، دائرة المعارف الشيعية 1 : 153.

53. عليّ وليد الكعبة : 83.

54. سير أعلام النبلاء 10 : 101 ، لسان الميزان 6 : 196.

55. سير أعلام النبلاء 10 : 101 ، لسان الميزان 6 : 196.

56. الأنساب 5 : 86.

57. جمهرة النسب 1 : 353.

58. الفهرست : 143 ، معجم الأدباء 19 : 291.

59. جمهرة النسب : 10.

60. المحبّر : 176.

61. المصدر نفسه : 174.

62. المصدر نفسه : 105.

63. المصدر نفسه : 121 و 122.

64. أُنظر المحبَّر : 303.

65. المصدر نفسه : 509.

66. تاريخ بغداد 7 : 296.

67. معجم الأدباء 8 : 94.

68. أُنظر الصحاح 4 : 1562 ، لسان العرب 10 : 371.

69. التقريب : 66.

70. صحيح مسلم 1 : 30.

71. مقدمة ابن الصلاح : 136.

72. المراسيل : 15.

73. جامع التحصيل في أحكام المراسيل : 26.

74. المصدر نفسه.

75. مقدّمة ابن الصلاح : 119.

76. تاريخ البخاري الكبير 3 : 11 رقم 42.

77. معرفة علوم الحديث : 119.

78. المصدر السابق ، ومقدّمة ابن الصلاح : 173.

79. مقدّمة ابن الصلاح : 179.

80. مقدّمة ابن الصلاح : 874.

81. مسند أحمد 2 : 301 ، فتح الملك العليّ : 126.

82. فتح الملك العليّ : 122.

83. معرفة علوم الحديث : 93.

84. جمهرة نسب قريش 1 : 353.

85. سير أعلام النبلاء 12 : 314 ، تهذيب التهذيب 3 : 313.

86. ميزان الاعتدال 2 : 66.

87. تهذيب التهذيب 3 : 313.

88. التبيين في أنساب القرشيّين : 266.

89. أُنظر تهذيب الكمال : 14 / 46 ، سير أعلام النبلاء : 4 / 429.

90. ج 1 : 725.

91. ج 7 : 173.

92. ج 3 : 46.

93. ج 2 : 32.

94. ج 3 : 482.

95. أُنظر سير أعلام النبلاء 10 : 570.

96. المستدرك 3 : 483.

97. المستدرك 1 : 2.

98. عليٌّ وليد الكعبة : 1 ـ 3 ، و 125.

99. المَثْبِرُ : الموضع الذي تلد فيه المرأةُ من الأرض. الصحاح : 2 / 604 ( ثبر ).

100. اللَقَى ، بالفتح : الشيء المُلْقَى لهوانهِ. الصحاح : 6 / 2484 ( لقى ).

101. أخبار مكّة : 1 / 174.

102. الفهرست : 162.

103. تهذيب الكمال : 1 / 480.

104. تهذيب الكمال : 1 / 481.

105. الإِعلان بالتوبيخ : 132.

106. أخبار مكّة 2 : 103.

وانظر بشأنه كشف الظنون : 1 / 306 وج 2 / 1684 ، هديّة العارفين : 2 / 11 ، معجم المؤلّفين : 10 / 198 ، الأعلام للزركلي : 6 / 222 ، وفيها اختلاف كثير في تحديد عصره !

107. الجرح والتعديل : 8 / 124 ، تذكرة الحفّاظ : 2 / 501 ، سير أعلام النبلاء : 12 / 96.

108. التاريخ الكبير : 1 / 265 ، التاريخ الصغير : 2 / 348.

109. أُنظر أخبار مكّة ( موارد كثيرة ) ، الجرح والتعديل : 9 / 454 ، سير أعلام النبلاء : 8 / 20.

110. راجع : التاريخ الكبير : 6 / 29 ، التاريخ الصغير : 2 / 234 ، الجرح والتعديل : 5 / 390 و 391. تاريخ بغداد : 10 / 441 ، تهذيب التهذيب : 6 / 351 ، ميزان الاعتدال : 2 / 632 ، وغيرها.

111. سير أعلام النبلاء : 9 / 175.

112. تهذيب الكمال : 1 / 165 ، سير أعلام النبلاء : 9 / 188.

113. تهذيب الكمال : 1 / 166.

114. تاريخ بغداد 14 : 184 ، سير أعلام النبلاء : 11 / 83 عن تاريخ الأبَّار.

115. صحيح مسلم 1 : 17 ، تاريخ بغداد 2 : 98.

116. صحيح مسلم 1 : 18.

117. اللآلئ المصنوعة ... ، فتح الملك العليّ : 92.

وللتوسّع راجع الغدير 5 : 275 ـ 296.

مقتبس من : مجلّة تراثنا / العدد : 26

 

أضف تعليق

الإمام علي عليه السلام

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية