لقد تسلّم معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام في عهد عمر بن الخطّاب ، وكان فرقه مع سائر ولاته أنّهم كانوا يخضعون لمساءاته بين الحين والآخر إلّا معاوية ، وقنفذ العدوي (1) ، بل كان عمر يسمّي معاوية بكسرى العرب (2).
وازدادت سيطرته على الشام في عهد عثمان بحيث يمكن القول إن الشام كانت تتمتّع بما يشبه الحكم الذاتي المنفصل (3) ، ثمّ اتسقت له الأمور عقب استشهاد الإمام علي عليه السلام وما جرى في صلح الإمام الحسن عليه السلام ، فكان منهجه التعتيم على فضائل أهل البيت عليهم السلام بل اختلاق المثالب لهم ، واحكم الحصار الذي ضربه أسلافه على السنة النبويّة بل صرّح بسبب الكامن وراء طمس السنة عندما قال :
أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة ، وعلى كلِّ منبر ، يلعنون عليا ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته. (4).
وسخّر لأجل ذلك جملة من الرواة ، فأعطى سمرة بن جندب الأنصاري أربعة مائة ألف درهم ليخطب في أهل الشام ويروي لهم ، أنّ الآية الشريفة : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (5) نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام ، ففعل ذلك سمرة بن جندب (6). وتبعه عمر بن العاص عندما روى عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال : إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنّما وليّي الله وصالح المؤمنين (7).
لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عامّ الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة مّن استقبله من الناس جَثّا على ركبتيه ، ثم ضرب صَلعته مرارا ، وقال : يا أهل العراق ، أتزعمون أنّي أكذب على الله وعلى رسوله ، وأحرق نفسي بالنار ! والله لقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : « إنّ لكل نبيٍّ حَرماً ، وإنّ حَرَمي بالمدينة ، ما بين عَيْر إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » ، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها : فلما بلغ معاوية قولُه أجازه وأكرمه وولّاه إمارة المدينة. (8)
وقد أثر كلّ ذلك على مرور السنوات في تجهيل الناس بمكانة أهل البيت عليهم السلام ، وأصبح لأشخاص آخرين المكانة المقدّسة والمبجلة.
ويروي لنا سليم بن قيس الهلالي في كتابه ، أنّ الحسين عليه السلام في حياة معاوية بن أبي سفيان جمع الناس من بني هاشم في منى وقت الموسم ، فبلغوا مع مواليهم 700 رجل منهم 200 من الصحابة والباقي من التابعين ، فما ترك شيئاً ممّا أنزل الله في أهل البيت من القرآن إلّا تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمّه ونفسه وأهل بيته إلّا رواه وأشهد الحاضرين عليه ، وطلب إليهم أن يحدثوا من يثقون به من الناس بذلك ، وما ذلك إلّا لكسر هذا الحصار الفكري الذي تعرض له أهل البيت عليهم السلام. (9)
وكان أكبر همّاً لمعاوية أن يضفي على نفسه الشرعيّة الدينيّة وعلى شخصه القداسة ، فشاع في الأحاديث :
قال (ص) : معاوية بن أبي سفيان احلم أمّتي واجودها.
قال (ص) : صاحب سري معاوية بن أبي سفيان. (10)
أتى جبرئيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : يا محمد اقرىء معاوية السلام واستوص به خيراً ، فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الأمين. (11)
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : الأُمَنَاءً عِنْدَ اللهِ ثَلَاثَةٌ : أَنَا وَجِبْرِيلُ وَمُعَاوِيَةُ. (12)
عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنه ذَكَرَ معاويةَ وقال : « اللهمَّ اجْعَلْهُ هادياً مَهْدِيّاً ، واهدِ به ». (13)
الى غير ذلك من الترهات التي تريد أن تلمع صورة طليقٍ ابن طليق ابن آكلة الأكباد.
وكرّس بين الناس عدم جواز الخروج على الحاكم حتّى ولو كان ظالماً فاسقاً فاجراً يبتز الأمّة حقّها ، فروى له :
قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم : « مَنْ رَأَى مِن أَميرهِ شيئاً يَكْرَهُهُ ، فَلْيَصْبِرْ ، فإِنَّه مَنْ خالفَ الجَماعةَ شِبْراً فماتَ ، فَمِيتَتُهُ جاهِليَّةٌ ». (14).
وسوّق أيضاً لفكرة الجبر وأنّ الله يجبرُ العبادَ على أفعالهم وليس للعبد خيارٌ في ذلك :
وروى ان معاوية أول من زعم ان الله يريد أفعال العباد كلّها ، وانه اول من ترك القنوت في صلاة الغداة. (15)
وعندما اعترض عليه عبد الله بن عمر وتنصيب ولده يزيد على رقاب العباد أجابه ، من جملة ما أجاب :
وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين ، وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإن أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم ... (16)
وكان جوابه لعائشة مماثلاً لذلك ، حين اعترضت عليه في استخلاف يزيد ولده ، كما سوّق وبقوّة لفكرة الارجاء ومفادها ، أن الانسان طال ما اعتقد بالتوحيد فهو لم يسئل عن بقيّة أفعاله ، وأسّس لقاعدة مفادها : لا تضرّ من الايمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة (17).
وبالتالي لم بيعد من مبرّر للأمّة فيما أن تسئل معاوية عن طغيانه طال ما هو متلبّس بالتوحيد ، اذن لقد انتشر الضلال بعنوان الدين ، فأصبح الدين أمويين (18) وليس محمّديّاً ، وعُدّ التظليل منهجاً وشعاراً ترفده السلطة بالنفوذ والمال ويسير في ركبه كلّ وصوليين دنيويّاً انتهازيّاً ، ومع طول المدّة انخدع لحلّ الأمّة بهذا التظليل ، وما بقي من الدين إلّا صبابة في قعر إناء وجعل من معاوية وولده أئمّة للمسلمين.
فقد خطب زياد بن أبيه في الناس خطبته في تخذيله عن مسلم بن عقيل فقال فيها :
أما بعد ـ يا أهل الكوفة ! فاعتصموا بطاعة الله ؛ وطاعة رسول الله وطاعة أئمتكم ، ولا تختلفوا وتفرَّقوا ، فتهلكوا وتندموا ، وتذلوا وتقهروا وتحرموا ، ولا يجعلن أحد على نفسه سبيلاً ، وقد أعذر من أنذر. (19)
ثمّ خاطب مسلم بن عمر الباهلي مسلم بن عقيل بعد القاء القبض عليه شامخاً بنفسه وبضلالته فقال :
أنا من عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح الإمامه إذْ غششته ، وأطاع إذْ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي. (20)
الهوامش
1. كتاب سليم بن قيس الهلالي / المجلّد : 2 / الصفحة : 673 ـ 674 / الناشر : الهادي / الطبعة : 1 :
قال سليم : فأغرم عمر بن الخطّاب تلك السنة جميع عمّاله أنصاف أموالهم لشعر أبي المختار ولم يُغرم قنفذ العدويّ شيئاً ـ [ وقد كان من عمّاله ـ وردّ عليه ما أخذ منه وهو عشرون ألف درهم ولم يأخذ عُشره ولا نصف عُشره ] !
وكان من عمّاله الّذين اُغرموا أبو هريرة ـ وكان على البحرين ـ فأحصى ماله فبلغ أربعة وعشرون ألفاً ، فأغرمه إثنى عشر ألفاً.
قال أبان : قال سليم : فلقيت عليّاً صلوات الله عليه فسألتُه عمّا صنع [ عمر ] ، فقال : هل تدري لِمَ كفَّ عن قنفذ ولم يُغرمه [ شيئاً ] ؟ قلت : لا. قال : لأنّه هو الّذي ضرب فاطمة عليها السلام بالسوط حين جائت لتحول بيني وبينهم ، فماتت صلوات الله عليها وإنّ أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج.
2. راجع :
أنساب الأشراف « للبلاذري » / المجلّد : 5 / الصفحة : 147 / الناشر : دار الفكر / الطبعة : 1.
الاستيعاب « لابن عبد البر » / المجلّد : 3 / الصفحة : 1417 / الناشر : دار الجيل / الطبعة : 1.
الاصابة « لابن حجر العسقلاني » / المجلّد : 6 / الصفحة : 121 / الناشر : دار الكتب العلمية / الطبعة : 1.
3. راجع :
أنساب الأشراف « للبلاذري » / المجلّد : 5 / الصفحة : 550 / الناشر : دار الفكر / الطبعة : 1.
الفتوح « لأحمد بن أعثم الكوفي » / المجلّد : 2 / الصفحة : 533 / الناشر : دار الأضواء / الطبعة ك 1.
4. شرح نهج البلاغة « لابن أبي الحديد » / المجلّد : 11 / الصفحة : 44 / الناشر : دار احياء الكتب العربيّة.
5. البقرة : 204 ـ 205.
6. بحار الأنوار « الشيخ المجلسي » / المجلّد : 33 / الصفحة : 215 / الناشر : دار احياء التراث العربي :
قال أبو جعفر الإسكافي : وروي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتّى يروي أنّ هذه الآية نزلت في عليّ عليه السلام ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) فلم يقبل فبذل له مأتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل فبذل أربعمائة فقبل.
7. راجع :
صحيح مسلم / المجلّد : 1 / الصفحة : 136 / الناشر : دار الفكر.
شرح نهج البلاغة « لابن أبي الحديد » / المجلّد : 4 / الصفحة : 64 / الناشر : دار احياء الكتب العربيّة.
8. شرح نهج البلاغة « لابن أبي الحديد » / المجلّد : 4 / الصفحة : 67 / الناشر : دار احياء الكتب العربيّة.
9. كتاب سليم بن قيس الهلالي / المجلّد : 2 / الصفحة : 788 ـ 790 / الناشر : الهادي / الطبعة : 1.
10. حياة الإمام الحسين عليه السلام « الشيخ باقر القرشي » / المجلّد : 2 / الصفحة : 157 ـ 158 / الناشر : مدرسه علميه ايرواني / الطبعة : 4.
راجع :
تاريخ مدينة دمشق « لابن عساكر » / المجلّد : 13 / الصفحة : 365 / الناشر : دار الفكر.
11. البداية والنهاية « لابن كثير » / المجلّد : 8 / الصفحة : 128 / الناشر : دار إحياء التراث العربي / الطبعة : 1.
12. المجروحين « لابن حبان » / المجلّد : 1 / الصفحة : 160 / الناشر : دار الصميعي / الطبعة : 1.
13. مسند أحمد بن حنبل / المجلّد : 29 / الصفحة : 426 / الناشر : مؤسسة الرسالة / الطبعة : 1.
14. مسند أحمد بن حنبل / المجلّد : 4 / الصفحة : 290 / الناشر : مؤسسة الرسالة / الطبعة : 1.
15. الأوائل « لأبي هلال العسكري » / الصفحة : 368 / الناشر : دار البشير / الطبعة : 1.
16. الإمامة والسياسة « لابن قتيبة الدينوري » / المجلّد : 1 / الصفحة : 210 / الناشر : دار الأضواء / الطبعة : 1.
17. الملل والنحل « للشهرستاني » / المجلّد : 1 / الصفحة : 162 / الناشر : دار المعرفة.
18. البرهان في تفسير القرآن « للسيد هاشم البحراني » / المجلّد : 3 / الصفحة : 544 / الناشر : مؤسسة البعثة :
عن أبي عبدالله الصادق ( عليه السلام ) : « أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) رأى ذاتَ ليلة ـ وهو بالمدينة ـ كأنّ قُروداً أربعة عشر قد علّوا مِنْبره واحداً بعد واحدٍ ، فلمّا أصبح قَصّ رُؤْياه على أصحابه ، فسألوه عن ذلك ، فقال : يصعَد مِنبَري هذا بعدي جماعةً من قُرَيش ليسوا لذلك أهلاً ». قال الصادق ( عليه السلام ) : « هم بنو أُميّة ».
19. مقتل الحسين عليه السلام « للموفق الخوارزمي » / المجلّد : 1 / الصفحة : 297 / الناشر : أنوار الهدى / الطبعة : 2.
راجع :
تاريخ الطبري « لمحمد بن جرير الطبري » / المجلّد : 4 / الصفحة : 275 / الناشر : مؤسسة الأعلمي.
20. مقتل الحسين عليه السلام « للموفق الخوارزمي » / المجلّد : 1 / الصفحة : 302 / الناشر : أنوار الهدى / الطبعة : 2.
راجع :
تاريخ الطبري « لمحمد بن جرير الطبري » / المجلّد : 4 / الصفحة : 281 / الناشر : مؤسسة الأعلمي.