الإمام الكاظم عليه السلام وموسى الهادي العبّاسي
١ ـ الخليفة موسى الهادي قصير العمر كثير الشرّ
أوصى المهدي بالخلافة الى ابنيه من زوجته المفضلة خيزران ، فجعل ولي عهده موسى الهادي ، وبعده أخاه هارون الرشيد.
وحكم المهدي عشر سنوات ، وكان في الصيد يطارد مع كلابه غزالاً ، فاقتحم به فرسه خربة فاصطدم رأسه بعتبة بابها فمات على الفور سنة ١٦٩ ، فحكم بعده ابنه موسى الهادي سنة وربعاً ، ومات وعمره ٢٦ سنة.
كان موسى الهادي : « طويلاً جسيماً جميلاً ، أبيض مشرباً حمرة ، وكان بشفته العليا تقلص ». « وكان يشرب المسكر ، وفيه ظلم وشهامة ولعب ، وربّما ركب حماراً فارهاً ». [ سير الذهبي : ٧ / ٤٤١ ]. « كان يثب على الدابة وعليه درعان ، وكان المهدى يسمّيه ريحانتي ». [ الطبري : ٦ / ٤٢٨ ، ٤٣٣ ].
« قال ابن دأب : فدخلت عليه وهو منبطح على فراشه ، وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل ، فقال لي : حدّثني بحديث في الشراب ! فقلت : نعم يا أمير المؤمنين خرجت رجُلة من كنانة ينتجعون الخمر من الشام ، فمات أخ لأحدهم فجلسوا عند قبره يشربون .. الخ. ». [ الطبري : ٦ / ٤٣٦ ].
وقال الطبري : ٦ / ٤٢١ : « كانت الخيزران في أوّل خلافة موسى تفتات عليه في أموره ، وتسلك به مسلك أبيه من قبله ، في الإستبداد بالأمر والنهي ... فكان يجيبها إلى كلّ ما تسأله حتّى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته ، وانثال الناس عليها وطمعوا فيها ، فكانت المواكب تغدو إلى بابها. قال فكلّمته يوماً في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلاً ، فاعتلّ بعلّة فقالت : لا بدّ من إجابتي. قال : لا أفعل ! قالت : فإنّي قد تضمنت هذه الحاجة لعبدالله بن مالك ، قال فغضب موسى وقال : ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنّه صاحبها ، والله لا قضيتها لك !
قالت : إذاً والله لا أسألك حاجة أبداً » !
أقول : عبدالله بن مالك ، الذي اتّهم به موسى الهادي أمّه الخيزران ، كان رئيس شرطة أبيه المهدي. ثمّ رئيس شرطته. [ الطبري : ٦ / ٤٤٣ ].
٢ ـ كان موسى الهادي مشهوراً بالفسق !
في معاهد التنصيص / ١٩٨ ، والوافي : ١٠ / ٨٦ : « وكان السبب في قتل المهدي بشاراً أنه كان نهاه عن التشبيب فمدحه بقصيدة ، فلم يحظ منه بشيء ، فهجاه فقال :
خَليفةٌ يَزْني بعمّاتِهِ |
يَلْعَبُ بالدّبُّوقِ والصَّولَجانْ |
|
أَبدَلنَا الله بهِ غيرَهُ |
ودسَّ موسى في حِرِ الخيزُرَانْ |
وأنشدها في حلقة يونس النحوي ، فسعى به إلى يعقوب بن داود الوزير ، وكان بشار قد هجاه بقوله من البسيط :
بنِي أميةَ هُبّوا طَالَ نوْمُكْمُ |
إنّ الخليفةَ يعقوبُ بنُ داود |
|
ضاعتْ خلافَتُكُمْ يا قومُ فالْتَمِسُوا |
خَليفةَ الله بين الزّقّ والعُودِ |
فدخل يعقوب على المهدي فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك ! قال : بأيّ شيء ؟ قال : بما لا ينطق به لساني ولا يتوهّمه فكري ! فقال : بحياتي أنشدني إيّاه ، فقال : والله لو خبرتني بين إنشادي إيّاه وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي ! فحلف عليه المهدي بالأيمان التي لا فسحة له فيها ، فقال : أما لفظاً فلا ، ولكنني أكتب ذلك فكتبه ودفعه ! فكاد ينشق غيظاً ! وعمل على الإنحدار إلى البصرة لينظر في أمرها وما في فكره غير بشار ، فانحدر فلمّا بلغ إلى البطيحة .. فإذا بشار .. فأمر بضربه بالسوط فضربه بين يديه على صدر الحراقة سبعين سوطاً أتلفه فيها .. فألقي في سفينة حتى مات ، ثمّ رمى به في البطيحة فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة » . والطبري : ٦ / ٤٠١ ، وطبعة : ٤ / ٤٨٥ ، و٥٩٠ ، والكامل : ٦ / ٨٦ ، والأغاني : ٣ / ٢٤١ ، وفيات الأعيان : ١ / ٢٧٣ ، وبدائع البداية / ١٥.
٣ ـ ثورة الحسين بن علي صاحب فخ على موسى الهادي
كان عهد المهدي العبّاسي على سوئه ، فسحةً للإمام الكاظم عليه السلام وشيعته ، أمّا عهد ابنه موسى الهادي فكان على قصره ، شرّاً على الأمّة وخاصّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم لأنّه نفذ سياسة جدّه المنصور في إبادة أبناء علي وفاطمة عليهم السلام !
وقد قرّر العلويّون مواجهة هذه السياسة ، فكانت ثورة الحسين بن علي في منطقة فخّ ، وهو مكان في مكّة يعرف بوادي الزاهرية. [ معجم البلدان : ٤ / ٢٣٧ ].
وفي مقاتل الطالبيين / ٢٩٤ : « كان سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أن موسى الهادي ولَّى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي ، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبدالعزيز بن عبدالله ، فحمل على الطالبيين وأساء إليهم ، وأفرط في التحامل عليهم ، وطالبهم بالعرض كلّ يوم وكانوا يعرضون في المقصورة ، وأخذ كلّ واحد منهم بكفالة قرينه ونسيبه ، فضمن الحسين بن علي ويحيى بن عبدالله بن الحسن ، الحسن بن محمّد بن عبدالله بن الحسن.
ووفى أوائل الحاج وقدم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً ، فنزلوا دار ابن أفلح بالبقيع وأقاموا بها ، ولقوا حسيناً وغيره ، فبلغ ذلك العمري فأنكره .. فأشاع أنه وجدهم على شراب .. أغلظ العمري أمر العرض وولى على الطالبيين رجلاً يعرف بأبي بكر بن عيسى الحائك مولى الأنصار ، فعرضهم يوم جمعة ، فلم يأذن لهم بالإنصراف حتّى بدأ أوائل الناس يجيئون إلى المسجد ، ثمّ أذن لهم فكان قصارى أحدهم أن يغدو ويتوضّأ للصلاة ويروح إلى المسجد ، فلمّا صلوا حبسهم في المقصورة إلى العصر ، ثمّ عرضهم فدعا باسم الحسن بن محمّد فلم يحضر ، فقال ليحيى والحسين بن علي : ليأتياني به أو لأحبسنّكما فإن له ثلاثة أيّام لم يحضر العرض ولقد خرج أو تغيب .. فغضب يحيى بن عبدالله فقال له : فما تريد منّا ؟ فقال : أريد أن تأتياني بالحسن بن محمّد ! فقال : لا نقدر عليه ، هو في بعض ما يكون فيه الناس ، فابعث إلى آل عمر بن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا ثمّ أعرضهم رجلاً رجلاً فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك فقد أنصفتنا ، فحلف على الحسين بطلاق امرأته وحريّة مماليكه أنّه لا يخلي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته ، وأنّه إن لم يجئ به ليركبن إلى سويقة فيخربها ويحرقها ، وليضربنّ الحسين ألف سوط ، وحلف بهذه اليمين إن وقعت عينه على الحسن بن محمّد ليقتلنّه من ساعته !
فوثب يحيى مغضباً فقال له : أنا أعطي الله عهداً ، وكلّ مملوك لي حرّ إن ذقت الليلة نوماً حتّى آتيك .. فاجتمعوا ستّة وعشرين رجلاً من ولد علي ، وعشرة من الحاج ، ونفر من الموالي ، فلمّا أذّن المؤذّن للصبح دخلوا المسجد ثمّ نادوا : أحدٌ أحد ، وصعد عبدالله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي صلّى الله عليه وآله عند موضع الجنائز فقال للمؤذّن : أذن بحيّ على خير العمل ، فلمّا نظر إلى السيف في يده أذن بها وسمعه العمري فأحسّ بالشرّ ودهش وصاح : إغلقوا البغلة وأطعموني حبتي ماء !
قال علي بن إبراهيم في حديثه : فولده إلى الآن بالمدينة يعرفون ببني حبتي ماء » !
قال اليعقوبي في تاريخه : ٢ / ٤٠٤ : « وبويع لموسى الهادي بن محمّد المهدي ... وكانت هادئة والأمور ساكنة ، والملوك في الطاعة ، فظهر منه أمور قبيحة ، وضعف شديد ، فاضطربت البلاد ... وتحرك جماعة من الطالبيين وصاروا إلى ملوك النواحي ، فقبلوهم ووعدوهم بالنصر والمعونة ، وذلك أنّ موسى ألحَّ في طلب الطالبيين ، وأخافهم خوفاً شديداً ، وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الأرزاق والأعطية ، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم !
فلما اشتدّ خوفهم وكثر من يطلبهم ويحث عليهم ، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي ، وكان له مذهب جميل وكمال ومجد وقالوا له : أنت رجل أهل بيتك ، وقد ترى ما أنت وأهلك وشيعتك فيه من الخوف والمكروه ، فقال : وإنّي وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر ، فبايعه خلق كثير ممّن حضر الموسم ، فقال لهم : إن الشعار بيننا أن ينادي رجل : من رأى الجمل الأحمر ، فما وافاه إلّا أقلّ من خمس مائة ، وكان ذلك في سنة ١٦٩ بعد انقضاء الموسم. فلقيه سليمان بن أبي جعفر ، والعبّاس بن محمّد بن علي ، وموسى بن عيسى ـ قادة عسكريّون ـ بفخّ فانهزم ومن كان معه وافترقوا ، وقتل الحسين بن علي وجماعة من أهله ، وهرب خاله إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ، فصار إلى المغرب ، فغلب على ناحية تتاخم الأندلس يقال لها فاس ، فاجتمعت عليه كلمة أهلها ، فذكر أهل المغرب أن موسى وجه إليه من اغتاله بسم في مسواك فمات ، وصار إدريس بن إدريس مكانه ، وولده بها إلى هذه الغاية يتوارثون تلك المملكة .. فلم تزل البلاد مضطربة أيام موسى ـ الهادي ـ كلّها ».
وفي مقاتل الطالبيين / ٣٠٢ : « لما قتل أصحاب فخّ ، جلس موسى بن عيسى ـ العبّاسي ـ بالمدينة ، وأمر الناس بالوقيعة ـ السبّ ـ على آل أبي طالب ، فجعل الناس يوقعون عليهم حتّى لم يبق أحد ، فقال بقي أحد قيل له : موسى بن عبدالله ـ الحسني ـ وأقبل موسى بن عبدالله على أثر ذلك وعليه مدرعة وإزار غليظ وفي رجليه نعلان من جلود الإبل ، وهو أشعث أغبر حتّى قعد مع الناس ولم يسلم عليه ، وإلى جنبه السري بن عبدالله من ولد الحرث بن العباس بن عبدالمطلب ، فقالوا لموسى بن عيسى : دعني أكسف عليه باله وأعرفه نفسه ! قال أخافه عليك ! قال : دعني فأذن له فقال له : يا موسى ! قال : أسمعت فقل ! قال : كيف رأيت مصارع البغي الذي لا تدعونه لبني عمّكم المنعمين عليكم. فقال موسى : أقول في ذلك :
بني عمنا ردوا فضول دمائنا |
ينمْ ليلكم أولا يَلُمْنا اللوائمُ |
|
فإنا وإياكم وما كان بيننا |
كذي الديْن يقضي دينه وهو راغم |
فقال السري : والله ما يزيدكم البغي إلّا ذلّة ، ولو كنتم مثل بني عمّكم ـ الحسينيين ـ سلمتم ! يعني موسى بن جعفر وكنتم مثله ، فقد عرف حقّ بني عمّه وفضلهم عليه ، فهو لا يطلب ما ليس له ! فقال له موسى بن عبدالله :
فإن الأولى تثني عليهم تعيبني |
أولاك بنو عمي وعمهم أبي |
|
فإنّك إن تمدحهم بمديحة |
تُصدق ، وإن تمدح أباك تكذب |
قالوا : ولما بلغ العمري ـ الوالي ـ وهو بالمدينة قتل الحسين بن علي صاحب فخّ ، عمد إلى داره ودور أهله فحرقها ، وقبض أموالهم ونخلهم ، فجعلها في الصوافي المقبوضة » . أيّ في أموال الدولة.
٤ ـ موسى الهادي يقرر قتل الإمام الكاظم عليه السلام
في مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٢٣ ، عن علي بن يقطين ، وعبدالله بن أحمد الوضاح قال : « لما حمل رأس صاحب فخّ إلى موسى بن المهدي ، أنشأ يقول :
بني عمنا لا تنطقوا الشعر بعدما |
دفنتم بصحراء الغميم القوافيا |
|
فلسنا كمن كنتم تصيبون سلمه |
فيقبل قيلاً أو يحكم قاضيا |
|
ولكن حد السيف فيكم مسلط |
فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا |
|
فإن قلتم إنا ظلمنا فلم نكن |
ظلمنا ولكنا أسأنا التقاضيا |
|
فقد ساءني ما جرت الحرب بيننا |
بني عمنا لو كان امراً مدانيا |
ثمّ أخذ في ذكر الطالبيين وجعل ينال منهم ، إلى أن ذكر موسى بن جعفر وحلف بالله ليقتله ، فتكلّم فيه القاضي أبو يوسف حتّى سكن غضبه.
وأنهي الخبر إلى الإمام عليه السلام وعنده جماعة من أهل بيته فقال لهم : ما تشيرون ؟ قالوا : نشير عليك بالإبتعاد عن هذا الرجل وأن تغيب شخصك عنه ، فإنّه لا يؤمن شرّه ، فتبسّم أبو الحسن وتمثل :
زعمت سخينةُ أن ستقتل ربها |
وليغلبنَّ مُغلبُ الغُلاب |
ثمّ أنشد : زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربعُ !
ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي كم من عدوّ شحذ لي ظبة مديته ، وأرهف لي شبا حده ، ودفع لي قواتل سمومه ، ولم تنم عني عين حراسته ، فلمّا رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح ، وعجزي عن ملمات الجوائح ، صرفت ذلك بحولك وقوتك. إلخ ..
ورواه في مهج الدعوات / ٢١٧ ، بتفصيل ، قال : « فمن ذلك الدعاء المعروف بدعاء الجوشن المروي عنه عليه السلام رويناه بعدّة طرق .. حدّثنا أبو الوضاح محمّد بن عبدالله بن زيد النهشلي قال : لما قتل الحسين بن علي صاحب فخّ ، وهو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن ، وتفرق الناس عنه ، حمل رأسه والأسرى من أصحابه إلى موسى بن المهدي ، فلمّا بصر بهم أنشأ يقول متمثلاً :
بني عمّنا لا تنطقوا الشعر بعد ما |
دفنتم بصحراء الغميم القوافيا |
|
فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله |
فنقبل ضيما أو نحكم قاضيا |
|
ولكن حكم السيف فينا مسلط |
فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا |
|
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا |
بني عمنا لو كان أمرا مدانيا |
|
فإن قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ظلمنا |
ولكن قد أسأنا التقاضيا |
ثمّ أمر برجل من الأسرى فوبخه ثمّ قتله ، ثمّ صنع مثل ذلك بجماعة من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، وأخذ من الطالبين ، وجعل ينال منهم إلى أن ذكر موسى بن جعفر صلوات الله عليه فنال منه ، ثمّ قال : والله ما خرج حسين إلّا عن أمره ، ولا اتبع إلّا محبّته ، لأنّه صاحب الوصيّة في أهل هذا البيت ، قتلني الله إن أبقيت عليه ! فقال له أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي وكان جريئاً عليه : يا أمير المؤمنين أقول أم أسكت ؟ فقال : قتلني الله إن عفوت عن موسى بن جعفر ، ولولا ماسمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور ما كان به جعفر من الفضل المبرز عن أهله في دينه وعمله وفضله ، وما بلغني من السفاح فيه من تعريضه وتفضيله ، لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً !
فقال أبو يوسف : نساؤه طوالق ، وعتق جميع ما يملك من الرقيق ، وتصدّق بجميع ما يملك من المال وحبس دوابّه ، وعليه المشي إلى بيت الله الحرام ، إن كان مذهب موسى بن جعفر الخروج ، ولا يذهب إليه ، ولا مذهب أحد من ولده ، ولا ينبغي أن يكون هذا منهم ! ثمّ ذكر الزيديّة وما ينتحلون فقال : وما كان بقي من الزيديّة إلّا هذه العصابة ، الذين كانوا قد خرجوا مع حسين ، وقد ظفر أمير المؤمنين بهم ! ولم يزل يرفق به حتّى سكن غضبه.
وقال : وكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام بصورة الأمر فورد الكتاب ، فلمّا أصبح أحضر أهل بيته وشيعته فأطلعهم أبو الحسن عليه السلام على ما ورد من الخبر ، وقال لهم : ما تشيرون في هذا ؟ فقالوا : نشير عليك أصلحك الله وعلينا معك أن تباعد شخصك عن هذا الجبّار ، وتغيب شخصك دونه ، فإنّه لا يؤمن شرّه وعاديته وغشمه ، سيّما وقد توعدك وإيّانا معك !
فتبسّم موسى عليه السلام ثمّ تمثل ببيت كعب بن مالك أخي بني سلمة وهو :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها |
فليغلبن مغالب الغلاب |
ثمّ أقبل على من حضره من مواليه وأهل بيته فقال : ليفرج روعكم ، إنّه لا يرد أوّل كتاب من العراق إلّا بموت موسى بن مهدي وهلاكه !
فقالوا وما ذاك أصلحك الله ؟ فقال : قد وحرمة هذا القبر مات في يومه هذا ! والله إنّه لحق مثلما أنّكم تنطقون ! سأخبركم بذلك : بينما أنا جالس في مصلّاي بعد فراغي من وردي ، وقد تنومت عيناي ، إذ سنح لي جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله في منامي فشكوت إليه موسى بن المهدي ، وذكرت ما جرى منه في أهل بيته ، وأنا مشفق من غوائله ، فقال لي : لتطب نفسك يا موسى فما جعل الله لموسى عليك سبيلاً ! فبينما هو يحدّثني إذ أخذ بيدي وقال لي : قد أهلك الله آنفاً عدوّك ، فلتحسن لله شكرك ! قال ثمّ استقبل أبو الحسن القبلة ورفع يديه إلى السماء يدعو !
فقال أبو الوضاح : فحدّثني أبي قال كان جماعة من خاصّة أبي الحسن عليه السلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال ، فإذا نطق أبو الحسن عليه السلام بكلمة أو أفتى في نازلة ، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك ، قال فسمعناه وهو يقول في دعائه : شكراً لله جلت عظمته. ثمّ أورد دعاء الجوشن الذي كان الإمام عليه السلام دعا به ، وهو طويل ».
أقول : كانت قريش تعاب بأكل السخينة في أيّام فقرها ، وهي طعام من الدقيق والسمن. والبيت لكعب بن مالك الأنصاري شاعر النبي صلّى الله عليه وآله.
وقد روي عن الأئمّة عليهم السلام مدح صاحب فخّ والثائرين معه ، وذهب أكثر علمائنا الى شرعيّة ثورته التي كان هدفها إيقاف خطّة إبادة العلويين !
ففي مقاتل الطالبيين / ٣٠٤ : أن صاحب فخّ رحمه الله قال : « ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا ، وشاورنا موسى بن جعفر ، فأمرنا بالخروج »
وفي الكافي : ١ / ٣٦٦ : « لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخّ ، واحتوى على المدينة ، دعا موسى بن جعفر إلى البيعة فأتاه فقال له : يا ابن عمّ لا تكلفني ما كلف ابن عمّك عمّك أبا عبدالله ، فيخرج منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبدالله ما لم يكن يريد ! فقال له الحسين : إنّما عرضت عليك أمراً فإن أردته دخلت فيه ، وإن كرهته لم أحملك عليه ، والله المستعان. ثمّ ودعه فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر حين ودعه : يا ابن عمّ إنّك مقتول فأجد الضراب ، فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويسترون شركاً ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، أحتسبكم عند الله من عصبة ، ثمّ خرج الحسين وكان من أمره ما كان قتلوا كلّهم كما قال عليه السلام ».
وفي مقاتل الطالبين / ٣٠٢ : « جاء الجند بالرؤس إلى موسى والعبّاس ، وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين ، فلم يتكلّم أحد منهم بشيء إلّا موسى بن جعفر فقال له : هذا رأس الحسين ! قال : نعم ، إنّا لله وإنا إليه راجعون ، مضى والله مسلماً ، صالحاً ، صواماً ، قواماً ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله ! فلم يجيبوه بشيء ».
وفي عمدة الطالب : ١٨٣ ، والسلسلة العلويّة لأبي نصر البخاري ، عن الإمام الجواد عليه السلام قال : « لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخّ ».
مقتبس من كتاب : [ الامام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد ] / الصفحة : 135 ـ 146