الخبر المشتهر بتوحيد المفضل بن عمر
روى محمّد بن سنان قال : حدّثنا المفضّل بن عمر قال : كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر والمنبر ، وأنا مفكّر فيما خصَّ الله به سيّدنا محمّداً صلّى الله عليه وآله من الشرف والفضائل ، وما منحه وأعطاه وشرَّفه به وحباه (1) ممّا لا يعرفه الجمهور من الاُمّة ، وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته وخطر مرتبته ، (2) فإنّي لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه فلمّا استقرَّ به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلّم ابن أبي العوجاء فقال : لقد بلغ صاحب هذا القبر العزَّ بكماله ، وحاز الشرف بجميع خصاله ، ونال الحظوة في كلّ أحواله ، فقال له صاحبه : إنّه كان فيلسوفاً ادَّعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى ، وأتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول ، وضلّت فيها الأحلام ، وغاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات وهي حسير ، فلمّا استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء دخل الناس في دينه أفواجاً فقرن اسمه باسم ناموسه ، فصار يهتف به على رؤوس الصوامع في جميع البلدان ، والمواضع الّتي انتهت إليها دعوته ، وعلت بها كلمته ، ظهرت فيها حجّته برّاً وبحراً وسهلاً وجبلاً في كلِّ يوم وليلة خمس مرّات ، مردّداً في الأذان والإقامة ليتجدَّد في كلِّ ساعة ذكره ، لئلّا يخمل أمره. فقال ابن أبي العوجاء : دع ذكر محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقد تحيَّر فيه عقلي ، وضلَّ في أمره فكري ، وحدِّثنا في ذكر الأصل الّذي يمشى به. ثمَّ ذكر ابتداء الأشياء وزعم أنَّ ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير ، ولا صانع له ولا مدبّر ، بل الأشياء تتكوَّن من ذاتها بلا مدبّر ، وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال.
بيان : الحوز : الجمع وكلُّ من ضمَّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه . والحظوة بالضمّ والكسر وللحاء المهملة والظاء المعجمة : المكانة والمنزلة. والفيلسوف : العالِم. وخسأ البصر أي كلَّ. والناموس : صاحب السرّ المطّلع على أمرك ، أو صاحب سرّ الخير ، و جبرئيل علیه السلام ، والحاذق ومن يلطف مدخله ، ذكرها الفيروزآباديُّ ، ومراده هنا الربُّ تعالى شأنه. وخمل ذكره : خفي . والخامل : الساقط الّذي لا نباهة له. وقوله : الّذي يمشى به أي يذهب إلى دين محمّد صلّى الله عليه وآله وغيره بسببه ، أو يهتدى به كقوله تعالى : نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. (3) وفي بعض النسخ « يسمى » إمّا بالتشديد أي يذكر اسمه ، أو بالتخفيف أي يرتفع الناس به ويدعون الانتساب إليه.
قال المفضّل : فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً (4) فقلت : يا عدوَّ الله ألحدت في دين الله ، وأنكرت الباري جلَّ قدسه الّذي خلقك في أحسن تقويم ، وصوَّرك في أتمّ صورة ، ونقلك في أحوالك حتّى بلغ بك إلى حيث انتهيت ، فلو تفكّرت في نفسك و صدقك لطيف حسّك لوجدت دلائل الربوبيّة وآثار الصنعة فيك قائمةً ، وشواهده ـ جلَّ وتقدَّس ـ في خلقك واضحةً ، وبراهينه لك لائحةً . فقال : يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك ، فإن ثبت لك حجّةٌ تبعناك ، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك ، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا يخاطبنا ، ولا بمثل دليلك يجادلنا ، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت ، فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا ، وإنّه لَلحليم الرزين العاقل الرصين ، لا يعتريه (5) خرق ولا طيش ولا نزق ، ويسمع كلامنا ويصغي إلينا ويستعرف حجّتنا حتّى استفرغنا ما عندنا وظننّا أنّا قد قطعناه أدحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة ، ويقطع العذر ، ولا نستطيع لجوابه ردّاً ، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه.
بيان : وصدقك بالتخفيف أي قال لك صدقاً . لطيف حسّك أي حسُّك اللّطيف أي لم يلتبس على حسّك غرائب صنع الله فيك لمعاندتك للحقِّ ، وفي بعض النسخ حسنك فالمراد بصدق الحسن ظهور ما أخفى الله فيه منه على الناظر ، وعلى الوجهين يمكن أن يقرأ صدَّقك بالتشديد بتكلّف لا يخفى على المتأمّل . والرزين : الوقور ، والرصين بالصاد المهملة : الحكم الثابت. والخرق بالضمّ : ضدّ الرفق. والنزق : الطيش والخفّة عند الغضب. وقوله : استفرغنا لعلّه من الإفراغ بمعنى الصبّ ، قال الفيروزآباديُّ : استفرغ مجهوده : بذل طاقته ، والإدحاض : الإبطال.
قال المفضّل : فخرجت من المسجد محزوناً مفكّراً فيما بلي به الإسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها ، (6) فدخلت على مولاي صلوات الله عليه فرآني منكسراً ، فقال : ما لك ؟ فأخبرته بما سمعت من الدهريّين (7) وبما رددت عليهما ، فقال : لاُلقينَّ إليك من حكمة الباري جلَّ وعلا وتقدَّس اسمه في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوامّ ، وكلّ ذي روح من الأنعام ، والنبات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول من ذلك وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون ، ويسكن إلى معرفته المؤمنون ، ويتحيّر فيه الملحدون فبكّر عليَّ غداً.
قال المفضّل : فانصرفت من عنده فرِحاً مسروراً وطالت عليَّ تلك اللّيلة انتظاراً لما وعدني به ، فلمّا أصبحت غدوت فاستوذن لي فدخلت وقمت بين يديه ، فأمرني بالجلوس فجلست ، ثمَّ نهض إلى حجرة كان يخلو فيها ، فنهضت بنهوضه فقال : اتّبعني فتبعته فدخل ودخلت خلفه ، فجلس وجلست بين يديه ، فقال : يا مفضّل : كأنّي بك وقد طالت عليك هذه اللّيلة انتظاراً لما وعدتك ؟ فقلت : أجل يا مولاي ، فقال : يا مفضّل إنَّ الله كان ولا شيء قبله ، وهو باق ولا نهاية له ، فله الحمد على ما ألهمنا ، وله الشكر على ما منحنا ، وقد خصّنا من العلوم بأعلاها ومن المعالي بأسناها ، واصطفانا على جميع الخلق بعلمه ، وجعلنا مهيمنين عليهم بحكمه ، فقلت : يا مولاي أتأذن لي أن أكتب ما تشرحه ؟
ـ وكنت أعددت معي ما أكتب فيه ـ فقال لي : افعل.
بيان : أسناها أي أرفعها أو أضوأها. والمهيمن : الأمين والمؤتمن والشاهد.
يا مفضّل إنَّ الشكّاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة ، وقصرت أفهامهم عن تأمّل الصواب والحكمة ، فيما ذرأ (8) الباري جلَّ قدسه وبرأ (9) من صنوف خلقه في البرّ والبحر ، والسهل والوعر (10) فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود ، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود ، حتّى أنكروا خلق الأشياء وأدّعوا أنَّ كونها بالإهمال لا صنعة فيها ولا تقدير ، ولا حكمة من مدبّر ولا صانع ، تعالى الله عمّا يصفون ، وقاتلهم الله أنّى يؤفكون. فهم في ضلالهم وعماهم وتحيّرهم بمنزلة عميان دخلوا داراً قد بنيت أتقن بناء وأحسنه ، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره ، واُعدَّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب (11) الّتي يحتاج إليها لا يتسغنى عنها ، ووضع كلُّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير وحكمة من التدبير فجعلوا يتردَّدون فيها يميناً وشمالاً ويطوفون بيوتها إدباراً وإقبالاً ، محجوبةً أبصارهم عنها ، لا يبصرون بنية الدار (12) وما اُعدَّ فيها ، وربّما عثر بعضهم بالشيء الّذي قد وضع موضعه واُعدَّ للحاجة إليه ، وهو جاهل بالمعنى فيه ولما اُعدَّ ولماذا جعل كذلك فتذمّر وتسخط وذمَّ الدار وبانيها فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة ، (13) فإنّهم لمّا غربت (14) أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى ، ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته وحسن صنعته وصواب تهيئته ، وربّما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه والإرب فيه فيسرع إلى ذمّه ووصفه بالإحالة والخطأ ، كالّذي أقدمت عليه المانويّة الكفرة ، وجاهرت به الملحدة المارقة الفجرة وأشباههم من أهل الضلال ، المعلّلين أنفسهم بالمحال ، فيحقّ على من أنعم الله عليه بمعرفته وهداه لدينه ، ووفّقه لتأمّل التدبير في صنعة الخلائق ، والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير وصواب التعبير بالدلالة القائمة الدالّة على صانعها ، أن يكثر حمد الله مولاه على ذلك ، ويرغب إليه في الثبات عليه والزيادة منه فإنَّه جلَّ اسمه يقول : لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد.
بيان : قاتلهم الله أي قتلهم ، أو لعنهم . أنّى يؤفكون كيف يصرفون عن الحقّ ؟
وقال الجوهريُّ : ظلَّ يتذمّر على فلان إذا تنكّر له وأوعده. انتهى. وغربت بمعنى غابت.
والإرب بالفتح والكسر : الحاجة. ووصفه بالإحالة أي بأنّه يستحيل أن يكون له خالق مدبّر أو يستحيل أن يكون من فعله تعالى. والمانويّة فرقة من الثنويّة أصحاب ماني الّذي ظهر في زمان سابور بن أردشير ، وأحدث ديناً بين المجوسيّة والنصرانيّة ، وكان يقول بنبوّة المسيح ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ ولا يقول بنبوّة موسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ وزعم أنَّ العالم مصنوع مركّب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة ، وهؤلاء ينسبون الخيرات إلى النور ، والشرور إلى الظلمة ، وينسبون خلق السباع والموذيات والعقارب والحيّات إلى الظلمة ، فأشار عليه السلام إلى فساد وهمهم بأنَّ هذا لجهلهم بمصالح هذه السباع والعقارب والحيّات الّتي يزعمون أنّها من الشرور الّتي لا يليق بالحكيم خلقها. قوله عليه السلام : المعلّلين أي الشاغلين أنفسهم عن طاعة ربّهم باُمور يحكم العقل السليم باستحالته ، قال الفيروزآباديُّ : علّله بطعام وغيره تعليلاً : شغله به.
يا مفضّل : أوّل العبر والأدلّة على الباري جلَّ قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه ، فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودةٌ كالبساط ، والنجوم منضودةٌ كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلُّ شيء فيها لشأنه معدٌّ ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت ، والمخوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأةٌ لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفةٌ في مصالحه ومنافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على أنَّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ، ونظام وملائمة ، وأنَّ الخالق له واحد وهو الّذي ألّفه ونظمه بعضاً إلى بعض ، جلَّ قدسه ، وتعالى جدُّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وجلَّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون.
بيان : قال الفيروزآباديُّ : نضد متاعه ينضده : جعل بعضه فوق بعض فهو منضود انتهى. والتخويل : الإعطاء والتمليك . قوله عليه السلام وإنّ الخالق له واحد أقول : أشار عليه السلام بذلك إلى أقوى براهين التوحيد ، (15) وهو أنّ ايتلاف أجزاء العالم واحتياج بعضها إلى بعض وانتظام بعضها ببعض ، يدلُّ على وحدة مدبّرها كما أنّ ارتباط أجزاء الشخص بعضها ببعض وانتظام بعض أعضائه مع بعض يدلُّ على وحدة مدبّره.
وقد قيل في تطبيق العالم الكبير على العالم الصغير لطائف لا يسع المقام ذكرها ، وربّما يستدلُّ عليه أيضاً بما قد تقرّر من أنّ المتلازمين إمّا أن يكون أحدهما علّة للآخر ، أو هما معلولا علّة ثالثة ، وسيأتي الكلام فيه في باب التوحيد.
نبتدىء يا مفضّل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به ، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، هو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذوا الماء النبات فلا يزال ذلك غذاؤه حتّى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه ، وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقات الضياء هاج الطلق باُمّه فأزعجه أشدّ إزعاج ، وأعنفه حتّى يولد ، وإذا ولد صرف ذلك الدم الّذي كان يغذوه من دم اُمّه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللّون إلى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدُّ موافقةً للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلباً للرضاع فهو يجد ثديي اُمّه كالإداوتين المعلّقتين لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللّبن مادام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء ، حتّى إذا تحرّك واحتاج إلى غذاء فيه صلابةٌ ليشتدّ ويقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ، ليمضغ به الطعام فيلين عليه ، ويسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتّى يدرك فإذا أدرك وكان ذكراً طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعزُّ الرجل الّذي يخرج به من حدّ الصبا وشبه النساء ، وإن كانت اُنثى يبقى وجهها نقيّاً من الشعر ، لتبقى لها البهجة والنضارة الّتي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.
بيان : الأديم : الجلد. والطلق : وجع الولادة. ويقال : أزعجه أي قلعه عن مكانه ويقال : تلمّظ إذا أخرج لسانه فمسح به شفتيه ، وتلمّظت الحيّة إذا أخرجت لسانها كتلمّظت الأكل. والإداوة بالكسر : إناء صغير من جلد يتّخذ للماء. والطواحن : الأضراس ، ويطلق الأضراس غالباً على المآخير ، والأسنان على المقاديم كما هو الظاهر هنا ، وإن لم يفرِّق اللّغويّون بينهما ، والمراد بالطواحن هنا جميع الأسنان. والإساغة : الأكل والشرب بسهولة.
اعتبر يا مفضّل فيما يدبّر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال ؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوي ويجفّ كما يجفّ النبات إذا فقد الماء ؟ ولو لم يزعجه المخاض (16) عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤود في الأرض ؟ ولو لم يوافقه اللّبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعاً ، أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه ؟ ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته ، أو يقيمه على الرضاع فلا يشدّ بدنه ولا يصلح لعمل ؟ ثمَّ كان تشتغل اُمّه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد ، ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء فلا ترى له جلالةً ولا وقاراً ؟.
فقال المفضّل : فقلت : يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر ، فقال : ذلك بما قدّمت أيديهم وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ، فمن هذا الّذي يرصده حتّى يوافيه بكلّ شيء من هذه المآرب إلّا الّذي انشأه خلقاً بعد أن لم يكن ، ثمَّ توكّل له بمصحلته بعد أن كان فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطأ والمحال لأنّهما ضدّا الإهمال ، وهذا فظيع (17) من القول وجهل من قائله ، لأنَّ الإهمال لا يأتي بالصواب ، والتضادُّ لا يأتي بالنظام ، تعالى الله عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيراً ، ولو كان المولود يولد فَهِماً عاقلاً لأنكر العالم عند ولادته ولبقي حيران تائه العقل (18) إذا رأى ما لم يعرف وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم ، واعتبر ذلك بأنّ من سبي من بلد إلى بلد وهو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع في تعلّم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيراً غير عاقل ، ثمَّ لو ولد عاقلاً كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولاً مرضعاً ، معصّباً بالخرق ، مسجّى في المهد لأنّه لا يستغني عن هذا كلّه لرقّة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثمَّ كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيّاً غافلاً عمّا فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ، ثمَّ لا يزال يتزايد في المعرفة قليلاً قليلاً وشيئاً بعد شيء ، وحالاً بعد حال حتّى يألف الأشياء ويتمرّن (19) ويستمرّ عليها ، فيخرج من حدّ التأمّل لها والحيرة فيها إلى التصرُّف والاضطراب إلى المعاش بعقله وحيلته وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية ، وفي هذا أيضاً وجوه آخر فإنّه لو كان يولد تامّ العقل مستقلّاً بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة ، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكلّفات (20) بالبرّ والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ، ثمَّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم لأنَّ الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم (21) فيتفرّقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه واُمّه ، ولا يمتنع من نكاح اُمّه واُخته وذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهنّ ، وأقلّ ما في ذلك من القباحة ـ بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع ـ لو خرج المولود من بطن اُمّه وهو يعقل أن يرى منها ما لا يحلّ له ولا يحسن به أن يراه. أفلا ترى كيف اُقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصواب ، وخلا من الخطأ دقيقه وجليله ؟.
بيان : أفرأيت أي أخبرني ، قال الزمخشريُّ : لمّا كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقاً إلى الإحاطة بها علماً وصحّة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر. انتهى. ويقال : ذوى العود أي يبس. والموؤود الّذي دفن في الأرض حيّاً كما كان المشركون يفعلون في الجاهليّة ببناتهم. قوله عليه السلام : أو يقيمه أي عدم طلوع الأسنان. قوله عليه السلام : ذلك بما قدَّمت أيديهم ، يحتمل أن يكون هذا لتعذيب الآباء وإن كان الأولاد يوجرون لقباحة منظرهم ، أو للأولاد لما كان في علمه تعالى صدوره عنهم باختيارهم. ويرصده أي يرقبه. قوله عليه السلام : فإن كان الإهمال أي إذا لم يكن الأشياء منوطةً بأسبابها ، ولم ترتبط الاُمور بعللها ، فكما جاز أن يحصل هذا الترتيب والنظام التامّ بلا سبب فجاز أن يصير التدبير في الاُمور سبباً لاختلالها ، وهذا خلاف ما يحكم به عقول كافّة الخلق لما نرى من سعيهم في تدبير الاُمور وذمّهم من يأتي بها على غير تأمّل ورويّة ، ويحتمل أن يكون المراد أنَّ الوجدان يحكم بتضادِّ آثار الاُمور المتضادّة ، وربّما أمكن إقامة البرهان عليه أيضاً ، فإذا أتى الإهمال بالصواب يجب أن يأتي ضدُّه وهو التدبير بالخطأ وهذا أفظع وأشنع ، والمراد بالمحال الأمر الباطل الّذي لم يأت على وجهه الّذي ينبغي أن يكون عليه ، قال الفيروزآباديّ : المحال من الكلام بالضمّ : ما عدل عن وجهه . انتهى.
والتيه : الضلال والحيرة. والغضاضة بالفتح : الذلّة والمنقصة. وقوله عليه السلام : معصّباً أي مشدوداً. والتسجية : التغطية بثوب يمدُّ عليه. والغبيُّ على فعيل : قليل الفطنة. والاعتبار من العبرة ، وذكر في مقابلة السهو والغفلة. وقوله : ما قدر وما يوجب كلاهما معطوفان على موضع. وقوله : من المكلّفات بيان لما يوجب أي لذهب التكاليف المتعلّقة بالأولاد بأن يبرُّوا آباءهم ويعطفوا عليهم عند حاجة الآباء إلى تربيتهم ، وإعانتهم لكبرهم وضعفهم ، جزاءاً لما قاسوا من الشدائد في تربيتهم. قوله : أن يرى خبر لقوله : أقلّ ما في ذلك.
اعرف يا مفضّل ما للأطفال في البكاء من المنفعة ، واعلم أنَّ في أدمغة الأطفال رطوبة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثاً جليلةً ، وعللاً ، عظيمةً من ذهاب البصر وغيره فالبكاء يُسيل تلك الرطوبة من رؤوسهم ، فيعقّبهم ذلك الصحَّةَ في أبدانهم ، والسلامةَ في أبصارهم ، أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ، ووالده لا يعرفان ذلك ، فهما دائبان ليسكتاه ويتوخَّيان في الاُمور مرضاته لئلّا يبكي ، وهما لا يعلمان أنَّ البكاء أصلح له وأجمل عاقبةً ، فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال ، ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشيء أنّه لا منفعة فيه من أجل أنّهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه فإنَّ كلَّ ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون ، (22) وكثير ممّا يقصر عنه علم المخلوقين محيط به علم الخالق جلَّ قدسه وعلت كلمته ، فأمّا ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففي ذلك خروج الرطوبة الّتي لو بقيت في أبدانهم لأحدثت عليهم الاُمور العظيمة ، كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حدّ البله (23) والجنون والتخليط ، (24) إلى غير ذلك من الأمراض المختلفة كالفالج واللّقوة (25) وما أشبههما ، فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحّة في كبرهم ، فتفضّل على خلقه بما جهلوه ، ونظر لهم بما لم يعرفوه ، ولو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم ذلك عن التمادي في معصيته ، فسبحانه ما أجلَّ نعمته وأسبغها على المستحقّين وغيرهم من خلقه ، وتعالى عمّا يقول المبطلون علوًّا كبيراً.
بيان : الدؤب : الجدُّ والتعب. والتوخّيّ : التحرّيّ والقصد. وقوله عليه السلام : كلّ ما لا يعرفه أي ممّا لا يقصر عنه علم المخلوقين. ويقال : أبطل أي جاء بالباطل.
انظر الآن يا مفضّل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والاُنثى جميعاً على ما يشاكل ذلك ، فجعل للذكر آلةً ناشزةً (26) تمتدُّ حتّى تصل النطفة إلى الرحم إذ كان محتاجاً إلى أن يقذف ماءه في غيره ، وخلق للاُنثى وعاءاً قعر ليشتمل على المائين جميعاً ، ويحتمل الولد ويتّسع له ويصونه حتّى يستحكم ، أليس ذلك من تدبير حكيم لطيف ؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
بيان : المشاكلة : المشابهة والمناسبة ، واسم الإشارة راجع إلى ما مضى من التدبير في الخلق ، ويحتمل إرجاعه إلى الجماع.
فكّر يا مفضّل في أعضاء البدن أجمع وتدبير كلّ منها للإرب ، فاليدان للعلاج ، والرجلان للسعي ، والعينان للاهتداء ، والفم للاغتذاء ، والمعدة للهضم ، والكبد للتخليص ، (27) والمنافذ لتنفيذ الفضول ، (28) والأوعية لحملها ، والفرج لإقامة النسل ، وكذلك جميع الأعضاء إذا تأمّلتها وأعملت فكرك فيها ونظرك وجدت كلَّ شيء منها قد قدِّر لشيء على صواب وحكمة.
قال المفضّل : فقلت : يا مولاي إنَّ قوماً يزعمون أنَّ هذا من فعل الطبيعة ، فقال : سلهم عن هذه الطبيعة ، أهي شيءٌ له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال ، أم ليست كذلك ؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق ؟ فإنَّ هذه صنعته ، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة علم أنَّ هذا الفعل للخالق الحكيم ، وأنَّ الّذي سمّوه طبيعةً هو سنّةٌ في خلقه الجارية على ما أجراها عليه.
ايضاح : قوله عليه السلام فما يمنعهم ؟ لعلَّ المراد أنّهم إذا قالوا بذلك فقد أثبتوا الصانع فلمَ يسمّونه بالطبيعة وهي ليست بذات علم وإرادة وقدرة ؟. قوله عليه السلام : علم أنَّ هذا الفعل أي ظاهر بطلان هذا الزعم ، والّذي صار سبباً لذهولهم أنَّ الله تعالى أجرى عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها فذهبوا إلى استقلال تلك الأسباب في ذلك ، وبعبارة اُخرى أنَّ سنّة الله وعادته قد جرت لحكم كثيرة أن تكون الأشياء بحسب بادىء النظر مستندةً إلى غيره تعالى ، ثمَّ يعلم بعد الاعتبار والتفكّر أنَّ الكلَّ مستند إلى قدرته وتأثيره تعالى ، وإنّما هذه الأشياء وسائل وشرائط لذلك ، فلذا تحيّروا في الصانع تعالى ، فالضمير المنصوب في قوله : أجراها راجع إلى السنّة ، وضمير « عليه » راجع إلى الموصول.
فكّر يا مفضّل في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير ، فإنَّ الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه ، وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها قد جعلت كالمصفى للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكأها ، وذلك أنَّ الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ، ثمَّ إنَّ الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دماً ، وينفذ إلى البدن كلّه في مجاري مهيّأة لذلك ، بمنزلة المجاري الّتي تهيّؤ للماء حتّى يطرد في الأرض كلّها ، وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مفائض قد اُعدَّت لذلك ، فما كان منه من جنس المرَّة الصفراء جرى إلى المرارة ، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال ، وما كان من البلّة والرطوبة جرى إلى المثانة ، فتأمَّل حكمة التدبير في تركيب البدن ، ووضع هذه الأعضاء منه مواضعها ، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول ، لئلّا تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه ، فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير ، وله الحمد كما هو أهله ومستحقّه.
قال المفضّل : فقلت : صف نشؤ (29) الأبدان ونموّها حالاً بعد حال حتّى تبلغ التمام والكمال . فقال عليه السلام :
أوَّل ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين ولا تناله يد ، ويدبّره حتّى يخرج سويّاً مستوفياً جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجواح والعوامل إلى ما في تركيب أعضائه من العظام واللّحم والشحم والمخّ والعصب والعروق والغضاريف ، فإذا خرج إلى العالم تراه كيف ينمي بجميع أعضائه وهو ثابت على شكل وهيئة لا تتزايد ولا تنقص إلى أن يبلغ أشدَّه إن مدَّ في عمره أو يستوفي مدَّته قبل ذلك ، هل هذا إلّا من لطيف التدبير والحكمة ؟.
يا مفضّل انظر إلى ما خصَّ به الإنسان في خلقه تشريفاً وتفضيلاً على البهائم ، فإنّه خلق ينتصب قائماً ويستوي جالساً ، ليستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ، ويمكنه العلاج والعمل بهما فلو كان مكبوباً على وجهه كذات الأربع لما استطاع أن يعمل شيئاً من الأعمال.
بيان : قال الفيروزآبادىُّ : شجت العروق والأغصان : اشتبكت. وقال : نكأ القرحة كمنع : قشرها قبل أن تبرأ فنديت . انتهى. والمفائض في بعض النسخ بالفاء أي مجاري من فاض الماء ، وفي بعضها بالغين من غاض الماء غيضاً ، أي نضب (30) وذهب في الأرض والمغيض : المكان الّذي يغيض فيه . و « إلى » في قوله : إلى ما في تركيب بمعنى « مع ».
وقال الفيروزآباديُّ : الغضروف كلُّ عظم رخو يؤكل ، وهو مارن الأنف ، (31) وبعض الكتف ، ورؤوس الأضلاع ، ورهابة الصدر ، وداخل فوق الاُذن. انتهى. وقوله : تتزايد ولا تنقص أي النسبة بين الأعضاء. وبلوغ الأشدّ وهو القوّة أن يكتهل ويستوفي السنّ الّذي يستحكم فيها قوَّته وعقله وتميزه.
انظر الآن يا مفضّل إلى هذه الحواسّ الّتي خصَّ بها الإنسان في خلقه وشرِّف بها على غيره ، كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكّن من مطالعة الأشياء ، ولم تجعل في الأعضاء الّتي تحتهنَّ كاليدين والرجلين فتعرضها الآفات ، وتصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعلّلها ويؤثّر فيها وينقص منها ، ولا في الأعضاء الّتي وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر تقلّبها واطّلاعها نحو الأشياء ، فلمّا لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواسّ ، وهو بمنزلة الصومعة لها ؛ فجعل الحواسّ خمساً تلقي خمساً لكي لا يفوتها شيءٌ من المحسوسات ، فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها لم يكن منفعة فيها ، وخلق السمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن فيها إرب (32) وكذلك سائر الحواسّ ، ثمَّ هذا يرجع متكافئاً ، فلو كان بصر ولم يكن ألوان لما كان للبصر معنىً ، ولو كان سمع ولم يكن أصوات لم يكن للسمع موضع ، فانظر كيف قدّر بعضها يلقي بعضاً فجعل لكلّ حاسّة محسوساً يعمل فيه ، ولكلّ محسوس حاسّةً تدركه ، ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسّطة بين الحواسّ والمحسوسات ، لا يتمُّ الحواسُّ إلّا بها ، كمثل الضياء والهواء فإنّه لو لم يكن ضياءٌ يظهر اللّون للبصر لم يكن البصر يدرك اللّون ، ولو لم يكن هواءٌ يؤدّي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت ، فهل يخفى على من صحَّ نظره وأعمل فكره أنَّ مثل هذا الّذي وصفت من تهيئة الحواسّ والمحسوسات بعضها يلقي بعضاً وتهيئة أشياء آخر بها تتمُّ الحواسُّ لا يكون إلّا بعمد وتقدير من لطيف خبير ؟.
بيان : قوله عليه السلام : بعضها يلقي بعضاً حال أو صفة بتأويل أو تقدير.
فكّر يا مفضّل فيمن عدم البصر من الناس وما يناله من الخلل في اُموره ، فإنّه لا يعرف موضع قدمه ولا يبصر ما بين يديه ، فلا يفرق بين الألوان ، وبين المنظر الحسن والقبيح ، ولا يرى حفرةً إن هجم عليها (33) ولا عدوّاً إن أهوى إليه بسيف ، ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئاً من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة حتّى أنّه لولا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى ؛ وكذلك من عدم السمع يختلُّ في اُمور كثيرة فإنّه يفقد روح المخاطبة والمحاورة ، ويعدم لذَّة الأصوات واللّحون بالشجيّة المطربة ، ويعظم المؤونة على الناس في محاورته ، حتّى يتبرّموا به (34) ولا يسمع شيئاً من أخبار الناس وأحاديثهم ، حتّى يكون كالغائب وهو شاهد ، أو كالميّت وهو حيٌّ ؛ فأمّا من عدم العقل فإنّه يحق بمنزلة البهائم بل يجهل كثيراً ممّا يهتدي إليه البهائم ، أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل وسائر الخلال (35) الّتي بها صلاح الإنسان والّتي لو فقد منها شيئاً لعظم ما يناله في ذلك من الخلل يوافي خلقة على التمام حتّى لا يفقد شيئاً منها ، فلمَ كان كذلك إلّا لأنّه خلق بعلم وتقدير ؟. (36)
بيان : روح المخاطبة بالفتح أي راحتها ولذّتها . والشجو : الحزن . ولا يتوهّم جواز الاستدلال به على عدم حرمة الغناء مطلقاً لاحتمال أن يكون المراد الأفراد المحلّلة منها كما ذكرها الأصحاب ، وسيأتي ذكرها في بابه ، أو يكون فائدة إدراك تلك اللّذّة عظم الثواب في تركها لوجهه تعالى. وقوله عليه السلام : يوافي خلقة ، خبر صارت.
قال المفضّل : فقلت : فلمَ صار بعض الناس يفقد شيئاً من هذه الجوارح فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي ؟ قال عليه السلام : ذلك للتأديب والموعظة لمن يحلّ ذلك به ولغيره بسببه ، كما قد يؤدِّب الملوك الناس للتنكيل (37) والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويصوَّب من تدبيرهم ، ثمَّ للّذين ينزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا وأنابوا ما يستصغرون معه ما ينالهم منها حتّى أنّهم لو خيَّروا بعد الموت لاختاروا أن يردُّوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.
فكّر يا مفضّل في الأعضاء الّتي خلقت أفراداً وأزواجاً ، وما في ذلك من الحكمة والتقدير ، والصواب في التدبير ، فالرأس ممّا خلق فرداً ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون أكثر من واحد ، ألا ترى إنّه لو اُضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلاً عليه من غير حاجة إليه ، لأنَّ الحواسَّ الّتي يحتاج إليها مجتمعةٌ في رأس واحد ، ثمَّ كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان فإن تكلّم من أحدهما كان الآخر معطّلاً لا إرب فيه ولا حاجة إليه ، وإن تكلّم منهما جميعاً بكلام واحد كان أحدهما فضلاً لا يحتاج إليه ، وإن تكلّم بأحدهما بغير الّذي تكلّم به من الآخر لم يدر السامع بأيّ ذلك يأخذ ، وأشباه هذا من الأخلاط ، واليدان ممّا خلق أزواجاً ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدةٌ لأنَّ ذلك كان يخلُّ به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ألا ترى أنَّ النجّار والبنّاء لو شلّت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته ، وإن تكلّف ذلك لم يحكمه ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت له يدان يتعاونان على العمل.
أطل الفكر يا مفضّل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان ، فالحنجرة كالاُنبوبة (38) لخروج الصوت ، واللّسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم ، ألا ترى أنَّ من سقطت أسنانه لم يقم السين ، ومن سقطت شفته لم يصحّح الفاء ، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء ، وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم ، فالحنجرة يشبة قصبة المزمار والرية يشبه الزقَّ الّذي ينفخ فيه لتدخل بالريح ، والعضلات الّتي تقبض على الرية ليخرجَ الصوت كالأصابع الّتي تقبض على الزقّ حتّى تجري الريح في المزمار ، والشفتان والأسنان الّتي تصوغ الصوت حروفاً ونغماً كالأصابع الّتي يختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحاناً ، غير أنّه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة والتعريف فإنَّ المزمار بالحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت.
قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف ؛ وفيها مع الّذي ذكرت لك مآرب اُخرى ، فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرية فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الّذي لو احتبس (39) شيئاً يسيراً لهلك الإنسان ، وباللّسان تذاق الطعوم فيميَّز بينها ويعرف كلُّ واحد منها حلوها من مرِّها ، وحامضها من مزِّها ، ومالحها من عذبها ، وطيبها من خبيثها ، وفيه مع ذلك معونةٌ على إساغة الطعام والشراب ، والأسنان تمضغ الطعام حتّى تلين ويسهل إساغته ، وهي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم ، (40) واعتبر ذلك بأنّك ترى من سقطت أسنانه مسترخى الشفة ومضطربها ، وبالشفتين يترشَّف الشراب (41) حتّى يكون الّذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر لا يثجُّ ثجّاً فيغصَّ به الشارب أو ينكا في الجوف ، ثمَّ هما بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحهما الإنسان إذا شاء ، ويطبقهما إذا شاء ، ففيما وصفنا من هذا بيان أنَّ كلَّ واحد من هذه الأعضاء يتصرَّف وينقسم إلى وجوه من المنافع ، كما تتصرَّف الأداة الواحدة في أعمال شتّى ، وذلك كالفاس (42) يستعمل في النجارة (43) والحفر وغيرهما من الأعمال ، ولو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لفَّ بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض وتمسّكه فلا يضطرب ، ولرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما يفتّه هدّ الصدمة والصكّة (44) الّتي ربّما وقعت في الرأس ، ثمَّ قد جلّلت الجمجمة بالشعر حتّى صار بمنزلة الفرو للرأس (45) يستره من شدَّة الحرّ والبرد ، فمن حصَّن الدماغ هذا التحصين إلّا الّذي خلقه وجعله ينبوع الحسّ والمستحقّ للحيطة والصيانة بعلوّ منزلته من البدن وارتفاع درجته وخطر مرتبته ؟.
بيان : المزّ : بين الحلو والحامض. والثجّ : السيلان. والغصص : أن يقف الشيء في الحلق فلم يكد يسيغه. والجمجمة : عظم الرأس المشتمل على الدماغ. والبيضة : هي الّتي توضع على الرأس في الحرب. والفتّ : الكسر. وهدّ البناء : كسره وضعضعه ، وهدّته المصيبة أي أوهنت ركنه. والحيطة بالكسر : الحياطة والرعاية.
تأمّل يا مفضّل الجفن على العين ، كيف جعل كالغشاء والأشفار كالأشراج ، وأولجها في هذا الغار ، وأظلّها بالحجاب وما عليه من الشعر.
بيان : الجفن : غطاء العين من أعلا وأسفل. والأشفار : هي حروف الأجفان الّتي عليها الشعر. والأشراج : العرى. وكأنّه عليه السلام شبّه الأشفار بالعرى والخيط المشدود بها ، فإنَّ بهما ترفع الأستار وتسدل عند الحاجة إليهما ، أو بالعرى الّتي تكون في العيبة من الأدم (46) وغيره ، يكون فيها خيط إذا شدّت به يكون ما في بالعيبة محفوظاً مستوراً ، وكلاهما مناسب ، والأوَّل أنسب بالغشاء قال الجزريّ : في حديث الأحنف : فأدخلت ثياب صونى العيبة فأشرجتها. يقال : اشرجت العيبة وشرجتها : إذا شددتها بالشرج وهي العرى. انتهى. وأولجها يعني أدخلها.
يا مفضّل من غيّب الفؤاد في جوف الصدر ، وكساه المدرعة الّتي هي غشاؤه ، وحصّنه بالجوانح وما عليها من اللّحم والعصب لئلّا يصل إليه ما ينكؤه ؟ من جعل في الحلق منفذين ؟ أحدهما لمخرج الصوت وهو الحلقوم المتّصل بالرية ، والآخر منفذ الغذاء وهو المرىء المتّصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها ، وجعل على الحلقوم طبقاً يمنع الطعام أن يصل إلى الرية فيقتل ؛ من جعل الرية مروّحة الفؤاد ؟ لا تفتر ولا تخلُّ لكيلا تتحيّز الحرارة في الفؤاد فتؤدّي إلى التلف . من جعل لمنافذ البول والغائط أشراجاً تضبطهما ؟
لئلّا يجريا جرياناً دائماً فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا ؟ بل الّذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر ، من جعل المعدة عصبانيّةً شديدةً وقدَّرها لهضم الطعام الغليظ ؟ ومن جعل الكبد رقيقةً ناعمةً لقبول الصفو اللّطيف من الغذء ولتهضم وتعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلّا الله القادر ؟ أترى الإهمال يأتي بشيء من ذلك ؟ (47)
كلّا ، بل هو تدبير من مدبّر حكيم ، قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إيّاها ، لا يعجزه شيءٌ وهو اللّطيف الخبير.
تبيان : الجوانح : الأضلاع ممّا يلي الصدر . وقوله عليهالسلام : لا تخل من الإخلال بالشيء بمعنى تركه . وقوله تتحيّز إمّا من الحيّز أي تسكن ، أو من قولهم : تحيّزت الحيّة : أي تلوّت.
فكّر يا مفضّل لمَ صار المخُّ الرقيق محصّناً في أنابيب العظام ؟ هل ذلك إلّا ليحفظه ويصونه ؟ لمَ صار الدم السائل محصوراً في العروق بمنزلة الماء في الظروف إلّا لتضبطه فلا يفيض ؟ لمَ صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلّا وقايةً لها ومعونةً على العمل ؟ لمَ صار داخل الاُذن ملتوياً كهيئة الكوكب (48) إلّا ليطّرد فيه الصوت حتّى ينتهي إلى السمع وليتكسّر حمّة الريح فلا ينكأ في السمع ؟ لمَ حمل الإنسان على فخذيه وإليتيه هذا اللّحم إلّا ليقيه من الأرض فلا يتألّم من الجلوس عليهما ، كما يألم مَن نحل جسمه وقلَّ لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها ؟ من جعل الإنسان ذكراً واُنثى إلّا من خلقه متناسلاً ؟ ومن خلقه متناسلاً إلّا من خلقه مؤمّلاً ؟ ومن خلقه مؤمّلاً ومن أعطاه آلات العمل إلّا من خلقه عاملاً ؟ ومن خلقه عاملاً إلّا من جعله محتاجاً ؟ ومن جعله محتاجاً إلّا من ضربه بالحاجة ؟ ومن ضربه بالحاجة إلّا من توكّل بتقويمه ؟ ومن خصّه بالفهم إلّا من أوجب له الجزاء ؟ ومن وهب له الحيلة إلّا من ملكه الحول ؟ ومن ملكه الحول إلّا من ألزمه الحجّة ؟ من يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلّا من لم يبلغ مدى شكره ؟ فكّر وتدبّر ما وصفته ، هل تجد الإهمال على هذا النظام والترتيب ؟ تبارك الله عمّا يصفون.
بيان : الكوكب : المحبس . واطّرد الشيء تبع بعضه بعضاً وجرى. وقال الجوهريّ : حمّة الحرّ معظمه. وقوله عليه السلام : إلّا من خلقه مؤمّلاً إشارة إلى أنَّ الأمل والرجاء في البقاء هو السبب لتحصيل النسل ، ولذا جعل الإنسان ذا أمل لبقاء نوعه. قوله عليه السلام : إلّا من ضربه بالحاجة أي سبّب له أسباب الاحتجاج وخلقه بحيث يحتاج. قوله عليه السلام : إلّا من توكّل بتقويمه أي تكفّل برفع حاجته وتقويم أوده. والحول : القوَّة.
أصف لك الآن يا مفضّل الفؤاد ، اعلم أنّ فيه ثقباً موجّهة نحو الثقب الّتي في الرية تروح عن الفؤاد ، حتّى لو اختلفت تلك الثقب وتزايل بعضها عن بعض لما وصل ;الروح إلى الفؤاد ولهلك الإنسان ، أفيستجيز ذو فكر ورويّة أن يزعم أنّ مثل هذا يكون بالإهمال ولا يجد شاهداً من نفسه ينزعه عن هذا القول ؟ لو رأيت فرداً من مصراعين فيه كلّوب أكنت تتوهَّم أنّه جعل كذلك بلا معنى ؟ بل كنت تعلم ضرورةً أنّه مصنوع يلقي فرداً آخر فتبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة ، وهكذا تجد الذكر من الحيوان كأنّه فرد من زوج مهيّأ (49) من فرد اُنثى فيلتقيان لما فيه من دوام النسل وبقائه ، فتبّاً وخيبةً وتعساً لمنتحلي الفلسفة ، كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتّى أنكروا التدبير والعمد فيها ؟ لو كان فرج الرجل مسترخياً كيف كان يصل إلى قعر الرحم حتّى يفرغ النطفة فيه ؟ ولو كان منعظاً أبداً كيف كان الرجل يتقلّب في الفراش أو يمشي بين الناس وشيءٌ شاخصٌ أمامه ؟ ثمَّ يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كلّ وقت من الرجال والنساء جميعاً ، فقدَّر الله جلَّ اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كلّ وقت ، ولا يكون على الرجال منه مؤونة ، بل جعل فيه القوَّة على الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك لما قدَّر أن يكون فيه دوام النسل وبقاؤه.
توضيح : قال الجوهريُّ ؟ : وزعته أزعه وزعاً : كففته (50). انتهى. والكلّوب بالتشديد : حديدة معوّجة الرأس ، وفي بعض النسخ « كلون » وهو فارسيٌّ. قوله عليه السلام مهيّأة في بعض النسخ بالياء فلفظة « من » تعليليّة ، وفي بعضها بالنون فمن تعليليّة أو ابتدائيّةٌ أي إنّما يتمُّ عيشه باُنثى ، وعلى التقديرين يحتمل أن يكون بمعنى « مع » إن جوِّز استعماله فيه. وقال الجوهريّ : تبّاً لفلان ، تنصبه على المصدر باضمار فعل أي الزمه الله هلاكاً وخسراناً. وقال : التعس : الهلاك ، يقال : تعساً لفلان أي ألزمه الله هلاكاً.
اعتبر الآن يا مفضّل بعظيم النعمة على الإنسان في مطعمه ومشربه وتسهيل خروج الأذى ، أليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع فيها ؟ (51)
فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيّأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه ، فلم يجعله بارزاً من خلفه ، ولا ناشراً من بين يديه ، بل هو مغيّب في موضع غامض من البدن ، مستور محجوب يلتقي عليه الفخذان ، وتحجبه الإليتان بما عليهما من اللّحم فيواريانه فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء وجلس تلك الجلسة ألفى ذلك المنفذ منه منصّباً مهيّئاً لانحدار الثفل ، فتبارك الله من تظاهرت آلاؤه ولا تحصى نعماؤه.
بيان : ألفى أي وجد. وقوله عليه السلام : منصّباً إمّا من الانصباب ، كناية عن التدلّيّ أو من باب التفعيل من النصب قال الفيروزآباديُّ : نصب الشي وضعه ورفعه ضدُّ ، كنصَّبه فانتصب وتنصّب.
فكّر يا مفضّل في هذه الطواحن الّتي جعلت للإنسان فبعضها حداد لقطع الطعام وقرضه ، وبعضها عراض لمضغه ورضّه (52) فلم ينقص واحد من الصفتين إذ كان محتاجاً إليهما جميعاً.
تأمّل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار فإنّهما لمّا كانا ممّا يطول ويكثر حتّى يحتاج إلى تخفيفه أوَّلاً فأوَّلاً جعلا عديمي الحسّ لئلّا يولم الإنسان الأخذ منهما ، ولو كان قصُّ الشعر وتقليم الأظفار ممّا يوجد له مسٌّ من ذلك لكان الإنسان من ذلك بين مكروهين : إمّا أن يدع كلّ واحد منهما حتّى يطول فيثقل عليه ، وإمّا أن يخفّفه بوجع وألم يتألّم منه.
قال المفضّل : فقلت فلمَ لم يجعل ذلك خلقةً لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه ؟ فقال عليه السلام : إنَّ لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعماً لا يعرفها فيحمد عليها ، اعلم أنَّ آلام البدن وأدواءه تخرج بخروج الشعر في مسامّه ، (53) وبخروج الأظفار من أناملها ، ولذلك اُمر الإنسان بالنورة وحلق الرأس وقصِّ الأظفار في كلِّ اُسبوع ليسرع الشعر والأظفار في النبات ، فتخرج الآلام والأدواء بخروجها ، وإذا طالا تحيّرا وقلَّ خروجهما فاحتبست الآلام والأدواء في البدن فأحدثت عللاً وأوجاعاً ، ومنع مع ذلك الشعر من المواضع الّتي يضرُّ بالإنسان ويحدث عليه الفساد والضرر ، لو نبت الشعر في العين ألم يكن سيعمى البصر ؟ ولو نبت في الفم ألم يكن سيغصُّ على الإنسان طعامه وشرابه ؟ ولو نبت في باطن الكفّ ألم يكن سيعوقه عن صحّة اللّمس وبعض الأعمال ؟ فلو نبت في فرج المرأة أو على ذكر الرجل ألم يكن سيفسد عليهما لذّة الجماع ؟ فانظر كيف تنكب الشعر هذه المواضع لما في ذلك من المصلحة ، ثمَّ ليس هذا في الإنسان فقط بل تجده في البهائم والسباع وسائر المتناسلات فإنَّك ترى أجسامهنَّ مجلّلةً بالشعر وترى هذه المواضع خاليةً منه لهذا السبب بعينه ؛ فتأمّل الخلقة كيف تتحرّز وجوه الخطأ والمضرّة ، وتأتي بالصواب والمنفعة ، إنَّ المنانيّة (54) وأشباههم حين اجتهدوا في عيب الخلقة والعمد عابوا الشعر النابت على الركب والإبطين (55) ولم يعلموا أنَّ ذلك من رطوبة تنصبُّ إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر ، كما ينبت العشب في مستنقع المياه ؛ أفلا ترى إلى هذه المواضع أستر وأهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها ؟ ثمَّ إنَّ هذه تعدّ (56) ممّا يحمل الإنسان من مؤونة هذا البدن وتكاليفه لما له في ذلك من المصلحة فإنَّ اهتمامه بتنظيف بدنه وأخذ ما يعلوه من الشعر ممّا يكسر به شرته ، ويكفّ عاديته ، ويشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر والبطالة . تأمّل الريق وما فيه من المنفعة فإنّه جعل يجري جرياناً دائماً إلى الفم ليبلَّ الحلق واللّهوات فلا يجفَّ ، فإنَّ هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان ، ثمَّ كان لا يستطيع أن يسيغ طعاماً إذا لم يكن في الفم بلّة تنفذه ، تشهد بذلك المشاهدة.
وأعلم أنَّ الرطوبة مطيَّة الغذاء. وقد تجري من هذا البلّة إلى موضع آخر من المرَّة فيكون في ذلك صلاح تامٌّ للإنسان ، ولو يبست المرَّة لهلك الإنسان ، ولقد قال قوم من جهلة المتكلّمين وضعفة المتفلسفين بقلّة التميز وقصور العلم : لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه ألم يكن أصلح من أن يكون مصمّتاً محجوباً عن البصر واليد ، لا يعرف ما فيه إلّا بدلالات غامضة كمثل النظر إلى البول وحسّ العرق وما أشبه ذلك ممّا يكثر فيه الغلط والشبهة حتّى ربّما كان ذلك سبباً للموت . فلو علم هؤلاء الجهلة أنَّ هذا لو كان هكذا كان أوَّل ما فيه أنّه كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض والموت ، وكان يستشعر البقاء ويغترُّ بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتوِّ والأشر ، ثمَّ كانت الرطوبات الّتي في البطن تترشّح وتتحلّب فيفسد على الإنسان مقعده ومرقده وثياب بذلته وزينته ، بل كان يفسد عليه عيشه ، ثمَّ إنَّ المعدة والكبد والفؤاد إنّما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزيّة الّتي جعلها الله محتبسةً في الجوف ، فلو كان في البطن فرج ينفتح حتّى يصل البصر إلى رؤيته واليد إلى علاجه لوصل برد الهواء إلى الجوف فمازج الحرارة الغريزيّة وبطل عمل الأحشاء فكان في ذلك هلاك الإنسان. أفلا ترى أنَّ كلَّ ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جاءت به الخلقة خطأ وخطل ؟.
ايضاح : الركب بالتحريك منبت العانة. ومستنقع الماء بالفتح : مجتمعه. وشرة الشباب بالكسر : حرصه ونشاطه. والعادية : الظلم والشرّ. والأشر بالتحريك : البطر وشدَّة الفرح. واللّهوات جمع لهات وهي اللّحمة في سقف أقصى الفم. وقوله عليه السلام : من المرّة بيان لموضع آخر. وعتا عتوّاً : استكبرو جاوز الحدّ. ويقال : تحلّب العرق أي سال. والخطل : المنطق الفاسد المضطرب.
فكّر يا مفضّل في الأفعال الّتي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها فإنّه جعل لكلّ واحد منها في الطباع نفسه محرّك يقتضيه ويستحثُّ به فالجوع يقتضي الطعم الّذي به حياة البدن وقوامه ، والكرى تقتضي النوم الّذي فيه راحة البدن وإجمام قواه ، والشبق يقتضي الجماع الّذي فيه دوام النسل وبقاؤه ، ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئاً يضطرُّه إلى ذلك كان خليقاً أن يتوانى عنه أحياناً بالتثقّل والكسل حتّى ينحلَّ بدنه فيهلك ، كما يحتاج الواحد إلى الدواء بشيء ممّا يصلح ببدنه فيدافع به حتّى يؤدّيه ذلك إلى المرض والموت ، وكذلك لو كان إنّما يصير إلى النوم بالتفكّر في حاجته إلى راحة البدن وإجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدمغه حتّى ينهك بدنه ، ولو كان إنّما يتحرّك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتّى يقلَّ النسل أو ينقطع ، فإنَّ من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل به ، فانظر كيف جعل لكلّ واحد من هذه الأفعال الّتي بها قوام الإنسان وصلاحه محرّك من نفس الطبع يحرّكه لذلك ويحدوه عليه (57) واعلم أنَّ في الإنسان قوىً أربعاً : قوَّة جاذبةٌ تقبل الغذاء وتورده على المعدة ، وقوَّة ممسكة تحبس الطعام حتّى تفعل فيه الطبيعة فعلها ، وقوَّة هاضمة وهي الّتي تطبخه (58) وتستخرج صفوه وتبثّه في البدن ، وقوّة دافعة تدفعه وتحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ، تفكّر في تقدير هذه القوى الأربعة الّتي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والإرب فيها ، وما في ذلك من التدبير والحكمة ، ولولا الجاذبة كيف يتحرّك الإنسان لطلب الغذاء الّتي بها قوام البدن ؟ ولولا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتّى تهضمه المعدة ؟ ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتّى يخلص منه الصفو الّذي يغذوا البدن ويسدُّ خلله ؟ ولولا الدافعة كيف كان الثفل الّذي تخلّفه الهاضمة يندفع ويخرج أوّلاً فأوّلاً ؟ أفلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطيف صنعه وحسن تقديره هذه القوى بالبدن والقيام بما فيه صلاحه ؟ وساُمثّل لك في ذلك مثالاً : إنَّ البدن بمنزلة دار الملك ، وله فيها حشم وصبيّة وقوّام موكّلون بالدار ، فواحد لإقضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيّأ ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه ، وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها ؛ فالملك في هذا هو الخلّاق الحكيم ملك العالمين ، والدار هي البدن ، والحشم هي الأعضاء ، والقوّام هي هذه القوي الأربع ، ولعلّك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها بعد الّذي وصفت فضلاً وتزداداً ، وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة الّتي ذكرت في كتب الأطبّاء ، ولا قولنا فيه كقولهم ، لأنّهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطبِّ وتصحيح الأبدان ، وذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغيّ ، كالّذي أوضحته بالوصف الشافي والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها.
تبيان : الطعم بالضمّ الأكل. والكرى : السهر. والجمام بالفتح : الراحة ، يقال : جمَّ الفرس جمّاً وجماماً إذا ذهب إعياؤه. والشبق بالتحريك : شدّة شهوة الجماع. وتوانى في حاجته أي قصَّر . ولا يحفل به أي لا يبالي به. وتحدر الثفل كتنصر أي ترسل. وقوله عليه السلام : ولولا الجاذبة يدلُّ على أنَّ لها مدخلاً في شهوة الطعام. قوله عليه السلام : خلله كأنّه بالضمِّ جمع الخلّة وهي الحاجة ، أو بالكسر أي الخلال والفرج الّتي حصلت في البدن بتحلّل الرطوبات. قوله عليه السلام : ولعلّك ترى يحتمل أن يكون الغرض دفع توهُّم السائل كون ذكر التمثيل بعد ذكر القوى ومنافعها على الوجه الّذي ذكره الأطبّاء واكتفوا به إطناباً وتكراراً ، وحاصله أنَّ الأطبّاء إنّما ذكروها على ما يحتاجون إليه في صناعتهم من ذكر أفعال تلك القوى وسبب تعطّلها ، ولذا لم يحتاجوا إلى ذكر ما أوردنا من التمثيل ، ونحن إنّما ذكرنا هذا التمثيل لتتّضح دلالتها على صانعها ومدبّرها ، إذ هذه مقصودنا من ذكرها. ويحتمل أن يكون الغرض رفع توهّم أنَّ ذكره هذه القوى بعد كونها مذكورةً في كتب الأطبّاء فضل لا حاجة إليه بأنَّ الغرض مختلف في بياننا وبيانهم وبذلك يختلف التقرير أيضاً فلذا ذكرنا ههنا بهذه التقرير الشافي ، فالضمير في قوله : وصفت على بناء المجهول راجعٌ إلى القوى ، والعائد مخذوف ، أي وصفت به لكنّه بعيد.
تأمّل يا مفضّل هذه القوى الّتي في النفس وموقعها من الإنسان ، أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك ، أفرأيت لو نقص الأنسان من هذه الخلال الحفظَ وحده كيف كانت تكون حاله ؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اُموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وعليه ، وما أخذه وما أعطى ، وما رأى وما سمع ، وما قال وما قيل له ، ولم يذكر من أحسن إليه ممّن أساء به ، وما نفعه ممّا ضرَّه ، ثمَّ كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ، ولا يحفظ علماً ولو درسه عمره ، ولا يعتقد ديناً ، ولا ينتفع بتجربة ، ولا يستيطع أن يعتبر شيئاً على ما مضى ، بل كان حقيقاً أن ينسلخ من الإنسانيّة أصلاً فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال ، وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع ؟ وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان ، فإنّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة ، ولا انقضت له حسرة ، ولا مات له حقد ، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات ، ولا رجا غفلةً من سلطان ، ولا فترةً من حاسد ؛ أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان ، وهما مختلفان متضادّان ، وجعل له في كلّ منهما ضرب من المصلحة ؟ وما عسى أن يقول الّذين قسّموا الأشياء بين خالقين متضادّين في هذه الأشياء المتضادّة المتبائنة وقد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح والمنفعة ؟.
بيان : دون الجميع أي فضلاً عن الجميع. ويقال : سلا عنه أي نسيه. وقد مضى منّا ما يمكن أن يستعمل في فهم آخر الكلام في موضعين فتذكّر.
انظر يا مفضّل إلى ما خصَّ به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق ، الجليل قدره ، العظيم غناؤه ، أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف ، ولم يوف بالعدات ، ولم تقض الحوائج ، ولم يتحرّ الجميل ، (59) ولم يتنكّب القبيح في شيء من الأشياء ، حتّى أنَّ كثيراً من الاُمور المفترضة أيضاً إنّما يفعل للحياء ، فإنَّ من الناس من لولا الحياء لم يرع حقَّ والديه ، ولم يصل ذا رحم ، ولم يؤدّ أمانةً ، ولم يعف عن فاحشة ؛ (60) أفلا ترى كيف وفّي للإنسان جميع الخلال الّتي فيها صلاحه وتمام أمره ؟.
بيان : إقراء الضيف : ضيافتهم وإكرامهم. والتنكّب : التجنّب. ووفّي على بناء المجهول من التوفية وهي إعطاء الشيء وافياً.
تأمل يا مفضّل ما أنعم الله تقدّست أسماؤه به على الانسان من هذه النطق الّذي
يعبِّر به عمّا في ضميره ، وما يخطر بقلبه ، ونتيجة فكره ، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه ،
ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة الّتي لا تخبر عن نفسها بشيء ، ولا تفهم عن مخبر
شيئاً ، وكذلك الكتابة الّتي بها تقيّد أخبار الماضين للباقين ، وأخبار الباقين للآتين ، وبها
تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها ، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين
غيره من المعاملات والحساب ، ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، وأخبار
الغائبين عن أوطانهم ، ودرست العلوم ، (1) وضاعت الآداب ، وعظم ما يدخل على الناس
من الخلل في اُمورهم ومعاملاتهم ، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم ، وما روي
لهم ممّا لا يسعهم جهله ، ولعلّك تظنُّ أنّها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة ، وليست ممّا
اُعطيه الإنسان من خلقه وطباعه ؛ وكذلك الكلام إنّما هو شيءٌ يصطلح عليه الناس
فيجرى بينهم ، ولهذا صار يختلف في الاُمم المختلفة بألسن مختلفة ؛ وكذلك الكتابة
ككتابة العربيّ والسريانيّ والعبرانيّ والروميّ وغيرها من سائر الكتابة الّتي هي متفرّقة
في الاُمم ، إنّما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام ، فيقال لمن ادّعى ذلك ، إنّ
الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعاً فعل أو حيلة فإنّ الشيء الّذي يبلغ به ذلك الفعل
والحيلة عطيّةٌ وهبةٌ من الله عزَّوجلَّ في خلقه (2) فإنّه لو لم يكن له لسان مهيّؤٌ للكلام
وذهن يهتدي به للاُمور لم يكن ليتكلّم أبداً ، ولو لم يكن له كفّ مهيّاة وأصابع للكتابة
لم يكن ليكتب أبداً ، واعتبر ذلك من البهائم الّتي لا كلام لها ولا كتابة ، فأصل ذلك
فطرة الباري جلَّ وعزَّ وما تفضّل به على خلقه ، فمن شكر اُثيب ومن كفر فإنَّ الله غنيٌّ
عن العالمين .
بيان : كلامه ههنا مشعر بأنَّ واضع اللّغات البشر فتدبَّر . (3)
ذكّر يا مفضّل (4) فيما اُعطي الإنسان علمه وما منع فإنّه اُعطي علم جميع ما فيه
____________________________
(1) أي ذهب أثرها وانمحى .
(2) وفي نسخة : في خلقته .
(3) وأهم منه دلالته على كون الاوضاع تعينية لاتعيينية ، وكذا إشعاره بأن هذه وأمثالها
اصطلاحات واعتبارات تضطر إليها البشر . ط
(4) وفي نسخة فكر يا مفضل .
صلاح دينه ودنياه ، فممّا فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد
القائمة في الخلق ، ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافّةً وبرّ الوالدين ، وأداء
الأمانة ، ومواساة أهل الخلّة ، وأشباه ذلك ممّا قد توجد معرفته والإقرار والاعتراف
به في الطبع والفطرة من كلّ اُمّة موافقة أو مخالفة ، وكذلك اُعطي علم ما فيه صلاح
دنياه كالزراعة والغراس ، (1) واستخراج الأرضين ، واقتناء الأغنام والأنعام ، واستنباط
المياه ، (2) ومعرفة العقاقير (3) الّتي يستشفى بها من ضروب الأسقام ، والمعادن الّتي
يستخرج منها أنواع الجواهر ، وركوب السفن والغوص في البحر ، وضروب الحيل في
صيد الوحش والطير والحيتان ، والتصرّف في الصناعات ، ووجوه المتاجر والمكاسب ، و
غير ذلك ممّا يطول شرحه ويكثر تعداده ممّا فيه صلاح أمره في هذه الدار ، فاُعطي علم
ما يصلح به دينه ودنياه ، ومنع ما سوى ذلك ممّا ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم ؛ كعلم
الغيب وما هو كائن وبعض ما قد كان أيضاً كعلم ما فوق السماء وما تحت الأرض وما في
لجج البحار (4) وأقطار العالم (5) وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا ممّا
حجب على الناس علمه ، وقد ادّعت طائفة من الناس هذه الاُمور فأبطل دعواهم ما بيّن
من خطائهم (6) فيما يقضون عليه ويحكمون به فيما ادّعوا علمه ، فانظر كيف اُعطي
الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه ، وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره
ونقصه ، وكلا الأمرين فيهما صلاحه .
تأمّل الآن يا مفضّل ما ستر عن الإنسان علمه من مدّة حياته فإنّه لو عرف
مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنّأ بالعيش مع ترقّب الموت وتوقّعه لوقت قد عرفه ،
____________________________
(1) الغراس جمع المغروس : ما يغرس من الشجر .
(2) أي استخرجها .
(3)جمع للعقار : ما يتداوى به من النبات ، الدواء مطلقا .
(4) اللجج جمع اللجّة : معظم الماء .
(5) أي جهاتها الاربع .
(6) وفي نسخة : ما يبين من خطائهم .
بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر والوجل من فناء
ماله وخوف الفقر ، على أنَّ الّذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم ممّا يدخل
عليه من فناء المال لأنّ من يقلّ ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك ، ومن أيقن
بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر ، ثمّ عرف ذلك وثق بالبقاء (1) وانهمك
في اللّذات والمعاصي وعمل ، على أنّه يبلغ من ذلك شهوته ثمَّ يتوب في آخر عمره ، وهذا
مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله .
ألا ترى لو أنَّ عبداً لك عمل على أنّه يسخطك سنةً ويرضيك يوماً أو شهراً لم تقبل
ذلك منه ، ولم يحلّ عندك محلَّ العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كلّ
الاُمور وفي كلّ الأوقات على تصرف الحالات . (2)
فإن قلت : أوليس قد يقيم الإنسان على المعصية حيناً ثمَّ يتوب فتقبل توبته ؟ قلنا :
إنَّ ذلك شيءٌ يكون من الإنسان لغلبة الشهوات وتركه مخالفتها من غير أن يقدّرها في
نفسه ويبني عليه أمره فيصفح الله عنه ويتفضّل عليه بالمغفرة ، فأمّا من قدّر أمره على أن
يعصي ما بدا له ثمَّ يتوب آخر ذلك فإنّما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلّف التلذّذ
في العاجل ويعد ويمنّي نفسه التوبة في الآجل ، ولأنّه لا يفي بما يعد من ذلك فانَّ النزوع
من الترفُّه والتلذّذ (3) ومعاناة التوبة ولا سيّما عند الكبر وضعف البدن أمر صعب ، ولا
يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب ؛ كما
قد يكون على الواحد دين إلى أجلا وقد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتّى
يحلَّ الأجل وقد نفد المال فيبقى الدين قائماً عليه ، فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر
عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقّب الموت فيترك المعاصي ويؤثر العمل الصالح .
فإن قلت : وها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته وصار يترقّب الموت في كلّ ساعة
يقارف (4) الفواحش وينتهك المحارم ، قلنا : إنّ وجه التدبير في هذا الباب هو الّذي جرى
____________________________
(1) كذا في النسخ والظاهر : ثم لو عرف ذلك وثق بالبقاء .
(2) وفي نسخة : على تصرف الايات .
(3) أي الكف من التنعّم والتلذّذ .
(4) أي يكتسب .
عليه الأمر فيه ، فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي (1) ولا ينصرف عن المساوي فإنّما
ذلك من مرحه (2) ومن قساوة قلبه لا من خطأ في التدبير ؛ كما أنَّ الطبيب قد يصف للمريض
ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفاً لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره ولا ينتهي عمّا ينهاه
عنه لم ينتفع بصفته ولم يكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه ،
ولئن كان الإنسان مع ترقّبه للموت كلَّ ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنّه لو وثق بطول
البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة ، فترقّب الموت على كلّ حال خير له من
الثقة بالبقاء ، ثمَّ إنَّ ترقّب الموت وإن كان صنف من الناس يلهون عنه ولا يتّعظون به فقد
يتّعظ به صنف آخر منهم ، وينزعون عن المعاصي ويؤثرون العمل الصالح ، ويجودون
بالأموال والعقائل النفيسة في الصدقة على الفقراء والمساكين ، فلم يكن من العدل أن
يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع اُولئك حظّهم منها .
بيان : انهمك الرجل في الأمر أي جدَّ ولجَّ . والتسلّف : الاقتراض ، كأنّه يجري
معاملةً مع ربّه بأن يتصرَّف في اللّذّات عاجلاً ، ويعد ربّه في عوضها التوبة ليؤدّي إليه
آجلاً . وفي بعض النسخ : يستسلف ، هو طلب بيع الشيء سلفاً .
والمعاناة : مقاساة العناء والمشقّة . ويرهقه أي يغشاه ويلحقه . وانتهاك المحارم :
المبالغة في خرقها وإتيانها . والارعواء : الكفُّ عن الشيء ، وقيل : الندم على الشيء و
الانصراف عنه وتركه . والمرح : شدَّة الفرح . وقال الفيروزآبادي ُّ : العقيلة من كلِّ
شيء : أكرمه ، وكريمة الإبل . وقال : العقال ككتاب : زكاة عام من الإبل .
فكّر يا مفضّل في الأحلام كيف دبّر الأمر فيها فمزّج صادقها بكاذبها فإنّها لو
كانت كلّها تصدق لكان الناس كلّهم أنبياء ، ولو كانت كلّها تكذب لم يكن فيها منفعة بل
كانت فضلاً لا معنى له ، فصارت تصدق أحياناً فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها ، أو
مضرَّة يتحذّر منها ، (3) وتكذب كثيراً لئلّا يعتمد عليها كلَّ الاعتماد .
____________________________
(1) أي لا يكف .
(2)مرح الرجل : اشتد فرحه ونشاطه حتى جاوز القدر ، وتبختر واختال .
(3) وفي نسخة : يتحرز منها .
فكّر في هذه الأشياء الّتي تراها موجودةً معدّةً في العالم من مآربهم ، فالتراب
للبناء ، والحديد للصناعات ، والخشب للسفن وغيرها ، والحجارة للأرحاء (1) وغيرها ،
والنحاس للأواني ، والذهب والفضّة للمعاملة ، والجوهر للذخيرة ، والحبوب للغذاء ،
والثمار للتفكّه ، واللّحم للمأكل ، والطيب للتلذّذ ، والأدوية للتصحيح ، والدوابُّ
للحمولة ، والحطب للتوقّد ، والرماد للكلس ، والرمل للأرض ، وكم عسى أن يحصي
المحصي من هذا وشبهه ، أرأيت لوأنَّ داخلاً دخل داراً فنظر إلى خزائن مملوَّة من كلّ
ما يحتاج إليه الناس ورأى كلّ ما فيها مجموعاً معدّاً الأسباب معروفة لكان يتوهّم أنَّ مثل
هذا يكون بالإهمال ومن غير عمد ؟ فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا في العالم وما اُعدّ
فيه من هذه الأشياء .
بيان : التفكّه : التنعّم . الكلس بالكسر : الصاروج . قوله عليهالسلام : للأرض أي
لفرشها .
اعتبر يا مفضّل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان وما فيها من التدبير فإنّه خلق له
الحبّ لطعامه ، وكلّف طحنه وعجنه وخبزه ، وخلق له الوبر (2) لكسوته فكلّف ندفه
وغزله ونسجه ، وخلق له الشجر فكلّف غرسها وسقيها والقيام عليها ، وخلقت له العقاقير
لأدويته فكلّف لقطها وخلطها وصنعها ؛ وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال ،
فانظر كيف كفي الخلقة الّتي لم يكن عنده فيها حيلة وترك عليه في كلّ شيء من الأشياء
موضع عمل وحركة لما له في ذلك من الصلاح ؛ لأنّه لو كفي هذا كلّه حتّى لا يكون له في
الأشياء موضع شغل وعمل لما حملته الأرض أشراً وبطراً ، ولبلغ به كذلك إلى أن يتعاطي
اُموراً فيها تلف نفسه ، ولو كفي الناس كلّ ما يحتاجون إليه لما تهنّؤوا بالعيش ولا وجدوا
له لذّةً ؛ ألا ترى لو أنَّ امرءاً نزل بقوم فأقام حيناً بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم و
مشرب وخدمة لتبرّم (3) بالفراغ ونازعته نفسه إلى التشاغل بشيء ؟ فكيف لو كان طول
____________________________
(1) جمع للرحى وهي الطاحون .
(2) الوبر للابل والارانب ونحوها كالصوف للغنم .
(3) أي لتضجّر .
عمره مكفيّاً لا يحتاج إلى شيء ؟ وكان من صواب التدبير في هذه الأشياء الّتي خلقت
للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة ولتكفّه عن تعاطي ما لا يناله
ولا خير فيه إن ناله .
واعلم يا مفضّل أنَّ رأس معاش الإنسان وحياته الخبز والماء ، فانظر كيف دبّر
الأمر فيهما ، فإنَّ حاجة الإنسان إلى الماء أشدُّ من حاجته إلى الخبز ؛ وذلك أنَّ صبره
على الجوع أكثر من صبره على العطش ، والّذي يحتاج إليه من الماء أكثر ممّا يحتاج إليه
من الخبز ؛ لأنّه يحتاج إليه لشربه ووضوئه وغُسله وغَسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه ،
فجعل الماء مبذولاً لا يشترى لتسقط عن الإنسان المؤونة في طلبه وتكلّفه ، وجعل الخبز
متعذّراً لا ينال إلّا بالحيلة والحركة ليكون للإنسان المؤونة في ذلك شغل يكفّه عما يخرجه إليه
الفراغ من الأشر والعبث ؛ ألا ترى أنَّ الصبيَّ يدفع إلى المؤدِّب وهو طفل لم يكمل ذاته
للتعليم كلُّ ذلك ليشتغل عن اللّعب والعبث اللّذين ربّما جنيا عليه وعلى أهله المكروه
العظيم ، وهكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر والعبث والبطر إلى ما يعظم
ضرره عليه وعلى من قرب منه ، واعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة ورفاهيّة العيش والترفّه
والكفاية وما يخرجه ذلك إليه .
اعتبر لمَ لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما يتشابه الوحوش والطير وغير ذلك ؟ (1)
فإنّك ترى السرب من الظباء والقطا (2) تتشابه حتّى لا يفرَّق بين واحد منها وبين
الاُخرى ، وترى الناس مختلفةً صورهم وخلقهم حتّى لا يكاد إثنان منهم يجتمعان في صفة
واحدة ، والعلّة في ذلك أنَّ الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم لما يجري
بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كلّ واحد منها
بعينه وحليته ، ألا ترى أنَّ التشابه في الطير والوحش لا يضرُّهما شيئاً ، وليس كذلك
الإنسان فإنّه ربَّما تشابه التوأمان تشابهاً شديداً فتعظم المؤونة على الناس في معاملتهما
____________________________
(1) المراد بالتشابه التشابه العرفي كما يدل عليه بيانه الاتي ، وأما التشابه الحقيقي فليس منه أثر لا في
الانسان ولا في غيره وقد قام عليه البرهان وساعده التجارب العلمي . ط
(2) السرب ـ بكسر السين وسكون الراء ـ : القطيع من الظباء والطير وغيرها . والقطا جمع
للقطاة : طائر في حجم الحمام .
حتّى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر ، وقد يحدث مثل هذا في
تشابه الأشياء فضلاً عن تشابه الصورة ، فمن لطف لعباده بهذه الدقائق الّتي لا تكاد تخطر
بالبال حتّى وقف بها على الصواب إلّا من وسعت رحمته كلّ شيء ؟ لو رأيت تمثال الإنسان
مصوّراً على حائط فقال لك قائل : إنَّ هذا ظهر ههنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أكنت
تقبل ذلك ؟ بل كنت تستهزىء به فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد ولا تنكر في
الإنسان الحيّ الناطق ؟ لمَ صارت أبدان الحيوان وهي تغتذي أبداً لا تنمي ، بل تنتهي إلى
غاية من النموّ ثمَّ تقف ولا تتجاوزها لولا التدبير في ذلك ؟ فإنَّ من تدبير الحكيم فيها أن
يكون أبدان كلّ صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير والصغير ، (1) وصارت
تنمي حتّى تصل إلى غايتها ثمَّ يقف ثمَّ لا يزيد والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع ولو كانت
تنمي نموّاً دائماً لعظمت أبدانها واشتبهت مقاديرها حتّى لا يكون لشيء منها حدٌّ يعرف ؛ لمَ
صارت أجسام الإنس خاصّة تثقل عن الحركة والمشي ويجفو عن الصناعات اللّطيفة إلّا لتعظيم
المؤونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس والمضجع والتكفين وغير ذلك ، لو كان الإنسان لا
يصيبه ألم ولا وجع بمَ كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطّف على الناس ؟ أما ترى
الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربّه في العافية وبسط يديه بالصدقة ؟
ولو كان لا يألم من الضرب بمَ كان السلطان يعاقب الدعار (2) ويذلُّ العصاة المردة ؟ وبم
كان الصبيان يتعلّمون العلوم والصناعات ؟ وبمَ كان العبيد يذلّون لأربابهم ويذعنون
لطاعتهم ؟ أفليس هذا توبيخ لابن أبي العوجاء وذويه اللّذين جحدوا التدبير ، والمانويّة
الّذين أنكروا الألم والوجع ؛ لو لم يولد من الحيوان إلّا ذكر (3) فقط أو اُناث فقط
ألم يكن النسل منقطعاً ، وباد مع ذلك أجناس الحيوان ؟ فصار بعض الأولاد يأتي ذكوراً و
بعضها يأتي اُناثاً ليدوم التناسل ولا ينقطع . لمَ صار الرجل والمرأة إذا أدركا نبتت لهما
العانة ثمّ نبتت اللّحية للرجل وتخلّفت عن المرأة لولا التدبير في ذلك ؟ فإنّه لمّا جعل الله تبارك
____________________________
(1) وفي نسخة : في الكبر والصغر .
(2) وفي نسخة : الدغار .
(3) وفي نسخة : ذكوراً .
وتعالى الرجل قيّماً ورقيباً على المرأة وجعل المرأة عرساً وخولاً للرجل أعطى الرجل
اللّحية لما له من العزّة والجلالة والهيبة ، ومنعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة
الّتي تشاكل المفاكهة والمضاجعة ؛ أفلا ترى الخلقة كيف يأتي بالصواب في الأشياء و
تتخلّل مواضع الخطأ فتعطي وتمنع على قدر الإرب والمصلحة بتدبير الحكيم عزَّوجلَّ ؟ .
بيان : جنى الذنب عليه يجنيه جناية : جرّه إليه . والجدة بالتخفيف : الغناء .
قوله عليهالسلام : في تشابه الأشياء أي قد يشبه مال شخص بمال شخص آخر كثوب أو نعل
أو دينار أو درهم فيصير سبباً للاشتباه والتشاجر والتنازع ، فضلاً عن تشابه الصورة فإنّه
أعظم فساداً ، والمراد أنَّ الناس كثيراً ما يشتبه عليهم أمر رجلين لتشابه لباسهما ومركوبهما
وغير ذلك فيؤخذ أحدهما بالآخر فكيف مع تشابه الصورة ؟ . قوله عليهالسلام : واشتبهت
مقاديرها أي لم يعرف غاية ما ينتهي إليه مقداره فيشتبه الأمر عليه فيما يريد أن يهيّئه
لنفسه من دار ودابّة وثياب وزوجة . قوله عليهالسلام : ويجفو أي يبعد ويجتنب ولا يداوم
على الصناعات اللّطيفة ، أي الّتي فيها دقّة ولطافة ؛ قال الجزريُّ : وفي الحديث : اقرؤوا
القران ولا تجفوا عنه . أي تعاهدوه وتبعدوا عن تلاوته . انتهى .
والحاصل أنَّ الله تعالى جعل الإنسان بحيث تثقل عن الحركة والمشي قبل سائر
الحيوانات وتكلُّ عن الأعمال الدقيقة لتعظم عليه مؤونة تحصيل ما يحتاج إليه فلا يبطر
ولا يطغى أو ليكون لهذه الأعمال أجر فيصير سبباً لمعايش أقوام يزاولونها . والدعار في
بعض النسخ بالمهملة من الدعر محرّكةً : الفساد والفسق والخبث ، وفي بعضها بالمعجمة
من الدغرة وهي أخذ الشيء اختلاساً . والعرس بالكسر : امرأة الرجل . والخول محرَّكة
ما أعطاك الله من النعم والعبيد والإماء . والمفاكهة : الممازحة والمضاحكة . قوله
عليه السلام : وتخلّل مواضع الخطأ يحتمل أن تكون الجملة حاليّةً أي تأتي بالصواب
مع أنّها تدخل مواضع هي مظنّة الخطأ ، من قولهم : تخلّلت القوم أي دخلت خلالهم
ويحتمل أن يكون المراد بالتخلّل التخلّف أو الخروج من خلالها لكن تطبيقهما على
المعاني اللّغويّة يحتاج إلى تكلّف .
قال المفضّل : ثمَّ حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة وقال : بكّر إلىَّ غداً
إن شاء الله ؛ فانصرفت من عنده مسروراً بما عرفته ، مبتهجاً بما اُوتيته ، حامداً لله على
ما أنعم به عليَّ ، شاكراً لأنعمه على ما منحني بما عرّفنيه مولاي وتفضّل به عليَّ ، فبتُّ
في ليلتي مسروراً بما منحنيه ، محبوراً بما علّمنيه .
تمَّ المجلس الأوَّل ويتلوه المجلس الثاني من كتاب الأدلّة على الخلق والتدبير
والردّ على القائلين بالاهمال ومنكري العمد برواية المفضّل عن الصادق صلوات الله عليه
وعلى آبائه .
قال المفضّل : فلمّا كان اليوم الثاني بكّرت إلى مولاي فاستوذن لي فدخلت فأمرني
بالجلوس فجلست ؛ فقال : الحمد لله مدير الأدوار (1) ومعيد الأكوار طبقاً عن طبق و
عالماً بعد عالم ليجزي الّذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الّذين أحسنوا بالحسنى ، عدلاً
منه تقدَّست أسماؤه وجلّت آلاؤه ، لا يظلم الناس شيئاً ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون
يشهد بذلك قوله جلَّ قدسه : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ ؛ في نظائر لها في كتابه الّذي فيه تبيان كلّ شيء ، ولا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، ولذلك قال سيّدنا محمّد صلوات الله عليه وآله
إنّما هي أعمالكم تردُّ إليكم . ثمَّ أطرق هنيئة ثمَّ قال : يا مفضّل الخلق حيارى عمهون
سكارى في طغيانهم يتردّدون ، وبشياطينهم وطواغيتهم يقتدون ، بصراء عميٌ لا يبصرون ،
نطقاء بكمٌ لا يعقلون ، سمعاء صمٌّ لا يسمعون ، رضوا بالدون وحسبوا أنّهم مهتدون ، حادوا
عن مدرجة الأكياس ورتعوا في مرعى الأرجاس الأنجاس ، كأنّهم من مفاجاة الموت آمنون
وعن المجازات مزحزحون ، يا ويلهم ما أشقاهم وأطول عناءهم وأشدّ بلاءهم يوم لا يغني
مولىً عن مولىً شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم الله .
قال المفضّل : فبكيت لما سمعت منه ، فقال : لا تبك تخلّصت إذ قبلت ، ونجوت إذ
عرفت ، ثمَّ قال : أبتدىء لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك من غيره .
فكّر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه ، فلا هي صلاب كالحجارة
ولو كانت كذلك لا تنثني ولا تتصرّف في الأعمال ، ولا هي على غاية اللّين والرخاوة فكانت
____________________________
(1) وفي نسخة : الحمد لله مدبر الادوار .
لا تتحامل ولا تستقلّ بأنفسها ، فجعلت من لحم رخو تنثني ، تتداخله عظام صلاب ، يمسكه
عصب وعروق تشدُّه ويضمُّ ببعضه إلى بعض ، وغلفت (1) فوق ذلك بجلد يشتمل على
البدن كلّه ، ومن أشباه ذلك هذه التماثيل الّتي تعمل من العيدان (2) وتلفّ بالخرق
وتشدّ بالخيوط ويطلى فوق ذلك بالصمغ (3) فيكون العيدان بمنزلة العظام ، والخرق
بمنزلة اللّحم ، والخيوط بمنزلة العصب والعروق ، والطلا بمنزلة الجلد ، فإن جاز أن
يكون الحيوان المتحرّك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل
الميتة ، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحريّ أن لا يجوز في الحيوان .
وفكّر بعد هذا في أجساد الأنعام فإنّها حين خلقت على أبدان الإنس من اللّحم
والعظم والعصب اُعطيت أيضاً السمع والبصر ليبلغ الإنسان حاجته ، فإنّها لو كانت
عمياً صمّاً لما انتفع بها الإنسان ، ولا تصرّفت في شيء من مآربه ، ثمَّ منعت الذهن و
العقل لتذلَّ للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدَّها الكدُّ الشديد وحملها الحمل الثقيل .
فإن قال قائل : إنّه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلّون ويذعنون بالكدّ
الشديد وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن ، فيقال في جواب ذلك : إنَّ هذا الصنف
من الناس قليل ، فأمّا أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدوابُّ من الحمل والطحن
وما أشبه ذلك ، ولا يغرون بما يحتاج إليه منه ، (5) ثمَّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه
الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال ، لأنّه كان يحتاج مكان الجمل الواحد
والبغل الواحد إلى عدّة أناسيّ فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتّى لا يكون فيهم عنه
فضل لشيء من الصناعات ، مع ما يلحقهم من التعب بالفادح في أبدانهم ، والضيق والكدّ
في معاشهم .
ايضاح : مدير الأدوار لعلّ فيه مضافاً محذوفاً أي ذوي الأدوار ، أو الإسناد مجازيٌّ
____________________________
(1) وفي نسخة : وعليت فوق ذلك .
(2) جمع العود وهي الخشب .
(3) أي يلطخ فوق ذلك بالصمغ .
(4) وفي نسخة : فانها لو كانت عماً صماً .
(5) وفي نسخة : ولا يعزون بما يحتاج اليه منه .
وفي بعض النسخ بالباء الموحّدة وهو أظهر . والأكوار بالفتح ، وهو الجماعة
الكثيرة من الإبل والقطيع من الغنم ، ويقال : كلّ دور كور . والمراد إمّا استيناف قرن
بعد قرن وزمان بعد زمان ، أو إعادة أهل الأكوار والأدوار جميعاً في القيامة ، والأوَّل
أظهر . وقال الجزريّ : قيل للقرن طبق لأنّهم طبق للأرض ثمَّ ينقرضون فيأتي طبق
آخر . قوله عليهالسلام : في نظائر أي قالها في ضمن نظائر لها أو مع نظائرها . قوله صلىاللهعليهوآله :
إنّما هي أي المثوبات والعقوبات أعمالكم أي جزاؤها والعمه التحيّر والتردّد . والحيد :
الميل . والمدرجة : المذهب والمسلك . وزحزحه : أبعده . والانثناء : الانعطاف والميل .
قوله عليهالسلام : ولا يغرون في بعض النسخ بالغين المعجمة والراء المهملة على بناء المفعول
من قولهم : أغريت الكلب بالصيد ؛ أي لا يؤثر فيهم الإغراء ، والتحريص على جميع الأعمال
الّتي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الّذي تأتي به الدوابّ ، وفي بعضها بالعين المهملة
والزاي المعجمة من عزى من باب تعب أي صبر على ما نابه ، والأوّل أظهر . والفادح من
قولهم : فدحه الدَين أثقله . ثمَّ اعلم أنّه ينبغي حمل السؤال على أنّه كان يمكن أن يكتفي
بخلق الحيوانات لأنّ بعضهم ينقادون ويطيعون بعضاً فالجواب منطبق من غير تكلّف .
فكّر يا مفضّل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقها على ما هي عليه
بما فيه صلاح كلّ واحد منها ، فالإنس لمّا قدروا أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج
لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغه (1) وغير ذلك خلقت لهم أكفّ كبار
ذوات أصابع غلاظ ، ليتمكّنوا من القبض على الأشياء وأوكدها هذه الصناعات ،
وآكلات اللّحم لمّا قدِّر أن يكون معايشها من الصيد خلقت لهم أكفّ لطاف مدمّجة (2)
ذوات براثن ومخاليب تصلح لأخذ الصيد ، ولا تصلح للصناعات ، وآكلات النبات لمّا
قدِّر أن يكونوا لا ذات صنعة ولا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف (3) تقيها خشونة الأرض
____________________________
(1) وفي نسخة : والخياطة .
(2) وفي نسخة : اكف لطاف مذبحة .
(3) جمع الظلف ـ بكسر الظاء وسكون اللام ـ وهو لما اجترّ من الحيوانات كالبقرة والظبى
بمنزلة الحافر للفرس .
إذا حاول طلب الرعي ، ولبعضها حوافر ململمة ذوات قعر كأخمص القدم تنطبق على
الأرض ليتهيّأ للركوب والحمولة ؛ تأمّل التدبير في خلق آكلات اللّحم من الحيوان
حين خلقت ذوات أسنان حداد ، (1) وبراثن شداد ، وأشداق وأفواه واسعة ، فإنّه لمّا قدِّر
أن يكون طُعمها اللّحم خلقت خلقة تشاكل ذلك واُعينت بسلاح وأدوات تصلح للصيد
وكذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير ومخاليب مهيّأة لفعلها ، ولو كانت الوحوش ذوات
مخالب كانت قد اُعطيت ما لا يحتاج إليه لأنّها لا تصيد ولا تأكل اللّحم ، ولو كانت السباع
ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الّذي به تصيد وتتعيّش ،
أفلا ترى كيف اُعطي كلّ واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته بل ما فيه بقاؤه
وصلاحه .
انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتّبع أمّاتها مستقلّةً بأنفسها لا تحتاج
إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس ، فمن أجل أنّه ليس عند اُمّهاتها ما عند
اُمّهات البشر من الرفق والعلم بالتربية والقوّة عليها بالأكفّ والأصابع المهيّأة لذلك
اُعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها ، وكذلك ترى كثيراً من الطير كمثل الدجاج و
بالدرّاج والقبج (2) تدرج وتلقط حين ينقاب عنها البيض . فأمّا ما كان منها ضعيفاً
لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام واليمام والحمر فقد جعل في الاُمّهات فضل عطف عليها
فصارت تمجّ الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها فلا تزال تغذوها حتّى تستقلّ
بأنفسها ولذلك لم ترزق الحمام فراخاً كثيرةً مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الاُمُّ على
تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت فكلٌّ اُعطي بقسط من تدبير الحكيم اللّطيف الخبير .
انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجاً لتتهيّأ للمشي ، ولو كانت أفراداً لم
تصلح لذلك لأنّ الماشي ينقل قوائمه (3) ويعتمد على بعض ؛ فذو القائمتين ينقل واحدةً
ويعتمد على واحدة وذو الأربع ينقل اثنين ويعتمد على بعض اثنين ، وذلك من خلاف لأنّ
ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر
____________________________
(1) وفي نسخة : حيث جعلت ذوات أسنان .
(2) بالقاف والباء المفتوحتين : طائر يشبه الحجل .
(3)كذا في النسخ والظاهر أن الصحيح : ينقل بعض قوائمه .
لما يثبت على الأرض كما لا يثبت السرير وما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع
اليسرى من مآخيره ، وينقل الاُخريين أيضاً من خلاف فيثبت على الأرض ولا يسقط
إذا مشى .
أما ترى الحمار كيف يذلُّ للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعاً منعماً ،
والبعير لا يطيقه عدّة رجال لو استعصى ، كيف كان ينقاد للصبيّ ؟ والثور الشديد كيف
كان يذعن لصاحبه حتّى يضع النير على عنقه ويحرث به ؟ والفرس الكريم يركب
السيوف والأسنّة بالمواتاة لفارسه ، والقطيع من الغنم يرعاه رجل واحد ولو تفرّقت
الغنم فأخذ كلّ واحد منها في ناحية لم يلحقها ، وكذلك جميع الأصناف مسخّرة للإنسان
فبمَ كانت كذلك ؟ إلّا بأنّها عدمت العقل والرويّة فإنّها لو كانت تعقل وتروّى في
الاُمور (1) كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه ، حتّى يمتنع الجمل
على قائده ، والثور على صاحبه ، وتتفرّق الغنم عن راعيها ، وأشباه هذا من الاُمور ، و
كذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل ورويّة فتوازرت على الناس كانت خليقةً أن
تجتاحهم (2) فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمورة والدببة لو تعاونت وتظاهرت على
الناس ؟ أفلا ترى كيف حجر ذلك عليها وصارت مكان ما كان يخاف من إقدامها ونكايتها تهاب
مساكن الناس وتحجم عنها ثمّ لا تظهر ولا تنشر لطلب قوتها إلّا باللّيل ؟ فهي مع صولتها
كالخائف للإنس بل مقموعة ممنوعة منهم ، ولولا ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيّعت
عليهم (3) ثمَّ جعل في الكلب من بين هذه السباع عطفٌ على مالكه ومحاماةٌ عنه و
حفاظٌ له فهو ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة اللّيل لحراسة منزل صاحبه ،
وذبِّ الدغار عنه (4) ويبلغ من محبّته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته
وماله ، ويألفه غاية الاُلف حتّى يصبر معه على الجوع والجفوة فلم طبع الكلب على هذا
____________________________
(1) أي نظر في الامور وتفكر فيها .
(2) أي تستأصلهم وتهلكهم .
(3) وفي نسخة : وضيقت عليهم .
(4)وفي نسخة : وذب الذعار عنه .
الاُلف إلّا ليكون حارساً للإنسان ، له عين بأنياب ومخالب ونباح هائل ليذعر منه السارق
ويتجنّب بالمواضع الّتي يحميها ويخفرها .
بيان : وأوكدها أي أوكد الأشياء وأحوجها إلى هذا النوع من الخلق هذه الصناعات
ويحتمل إرجاع الضمير إلى جنس البشر فيكون فعلاً أي ألزمها أو ألهمها هذه الصناعات
ولا يبعد إرجاعه إلى الأكف أيضاً . قوله عليهالسلام : مدمجة أي انضمّ بعضها إلى بعض . قال
الجوهريٌّ : دمج الشيء دموجاً إذا دخل في الشيء واستحكم فيه ، وأدمجت الشيء إذا
لفّفته في ثوب ، وفي بعض النسخ : مدبحة بالباء والحاء المهملة ، ولعلّ المراد معوّجة
من قولهم : دبّح تدبيحاً أي بسط ظهره وطأطأ رأسه ، وهو تصحيف . والبراثن من
السباع والطير بمنزلة الأصابع من الإنسان . والمخلب : ظفر البرثن . والململم بفتح
اللّامين : المجتمع المدوّر المصموم . والأخمص من باطن القدم ما لا يصيب الأرض . و
الشدق : جانب الفم . والطعم بالضمّ : الطعام . والاُمّات جمع الاُمّ ، وقيل : إنّما تستعمل في
البهائم ، وأمّا في الناس فيقال : اُمّهات . ويقال : قاب الطير بيضته فلّقها فانقابت . واليمام
حمام الوحش . والحُمر بضمّ الحاء وفتح الميم طائر وقد يشدّد الميم . ويقال : مجّ الرجل
الطعام من فيه : إذا رمى به . والمودع من الخيل بفتح الدال : المستريح . ونير الفدان
بالكسر : الخشبة المعترضة في عنق الثورين . قوله عليهالسلام يركب السيوف أي يستقبلها
بجرأة كأنّه يركبها أو بمعنى يرتكب مواجهتها . والمواتاة : الموافقة . والدببة كعنبة
جمع الدبّ . ويقال : أحجم القوم أي نكصوا وتأخّروا وتهيّبوا أخذه . وساوره :
واثبه . ويقال : حاميت عنه أي منعت منه . والعين بالفتح : الغلظ في الجسم والخشونة .
والخفر : المنع .
يا مفضّل تأمّل وجه الدابّة كيف هو فإنّك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر
ما بين يديه لئلّا تصدم حائطاً أو تتردّى في حفرة ، وترى الفم مشقوقاً شقّاً في أسفل
الخطم ولو شقَّ كمكان الفم من الإنسان في مقدّم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئاً
من الأرض ألا ترى أنَّ الإنسان لا يتناول الطعام بفيه ولكن بيده تكرمة له على سائر
الآكلات ؟ فلمّا لم يكن للدابّة يد تتناول بها العلف جعل خطمها مشقوقاً من أسفله
لتقبض به على العلف ثمَّ تقضمه واُعينت بالجحفلة تتناول بها ما قرب وما بعد . اعتبر
بذنبها والمنفعة لها فيه فإنّه بمنزلة الطبق على الدبر والحيأ جميعاً يواريهما ويسترهما ،
ومن منافعها فيه أنَّ ما بين الدبر ومراقي البطن منها وضر يجتمع عليه الذباب والبعوض
فجعل لها الذنب كالمذبّة تذبُّ به عن ذلك الموضع ؛ ومنها أنَّ الدابّة تستريح إلى
تحريكه وتصريفه يمنة ويسرة فإنّه لمّا كان قيامها على الأربع بأسرها وشغلت
المقدّمتان بحمل البدن عن التصرُّف والتقلّب كان لها في تحريك الذنب راحة ؛ وفيه
منافع اُخرى يقصر عنها الوهم يعرف موقعها في وقت الحاجة إليها فمن ذلك أنَّ الدابّة
ترتطم في الوحل (1) فلا يكون شيء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها ، وفي شعر الذنب
منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربهم ، ثمَّ جعل ظهرها مسطّحاً مبطوحاً على قوائم
أربع ليتمكّن من ركوبها ، وجعل حياها بارزاً من ورائها ليتمكّن الفحل من ضربها ،
ولو كان أسفل البطن كمكان الفرج من المرأة لم يتمكّن الفحل منها ، ألا ترى أنّه لا
يستطيع أن يأتيها كفاحاً كما يأتي الرجل المرأة .
تأمّل مشفر الفيل وما فيه من لطيف التدبير فإنّه يقوم مقام اليد في تناول العلف
والماء وازدرادهما (2) إلى جوفه ، ولولا ذلك ما استطاع أن يتنأول شيئاً من الأرض لأنّه
ليست له رقبة يمدّها كسائر الأنعام ، فلمّا عدم العنق اُعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل
ليسدله (3) فيتناول به حاجته ، فمن ذا الّذي عوّضه مكان العضو الّذي عدمه ما يقوم
مقامه إلّا الرؤوف بخلقه ؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظلمة ؟
فإن قال قائل : فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام ؟ قيل له : إنّ رأس الفيل
واُذنيه أمر عظيم وثقل ثقيل ، ولو كان ذلك على عنق عظيمة لهدّها وأوهنها فجعل رأسه
ملصقاً بجسمه لكيلا ينال منه ما وصفنا ، وخلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به
غذاءه فصار مع عدمه العنق مستوفياً ما فيه بلوغ حاجته .
انظر الآن كيف جعل حيأ الاُنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا هاجت للضراب
____________________________
(1) أي تسقط في الوحل .
(2) الازداد : البلع .
(3) أي ليرسله ويرخيه .
ـ 6 ـ بحار الأنوار
ارتفع وبرز حتّى يتمكّن الفحل من ضربها ، فاعتبر كيف جعل حيأ الاُنثى من الفيلة
على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ثمَّ جعلت فيه هذه الخلّة ليتهيّأ للأمر الّذي فيه
قوام النسل ودوامه .
فكّر في خلق الزرافة واختلاف أعضائها وشبهها بأعضاء أصناف من الحيوان ؛
فرأسها رأس فرس ، وعنقها عنق جمل ، وأظلافها أظلاف بقرة ، وجلدها جلد نمر ؛ وزعم
ناس من الجهّال بالله عزَّوجلَّ أنَّ نتاجها من فحول شتّى ! قالوا : وسبب ذلك أنَّ أصنافاً
من حيوان البرّ إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة وينتج مثل هذا الشخص الّذي
هو كالملتقط من أصناف شتّى ، وهذا جهل من قائله وقلّة معرفته بالبارىء جلّ قدسه ،
وليس كلّ صنف من الحيوان يلقح كلَّ صنف ؛ فلا الفرس يلقح الجمل ، ولا الجمل يلقح
البقر وإنّما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه كما يلقح
الفرس الحمارة فيخرج ببينهما البغل ، ويلقح الذئب الضبع فيخرج بينهما السمع ، على
أنّه ليس يكون في الّذي يخرج من بينهما عضو من كلّ واحد منهما كما في الزرافة عضو
من الفرس ، وعضو من الجمل ، وأظلاف من البقرة ، بل يكون كالمتوسّط بينهما الممتزج
منهما كالّذي تراه في البغل ، فإنّك ترى رأسه واُذنيه وكفله وذنبه وحوافره وسطاً
بين هذه الأعضاء من الفرس والحمار ، وشحيجه كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار ،
فهذا دليل على أنّه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتّى من الحيوان كما زعم الجاهلون ،
بل هي خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته الّتي لا يعجزها شيء ، وليعلم أنّه خالق
أصناف الحيوان كلّها ، يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيّها شاء ويفرِّق ما شاء منها في
أيّها شاء ، ويزيد في الخلقة ما شاء ، وينقص منها ما شاء ، دلالةً على قدرته على الأشياء ،
وأنّه لا يعجزه شيءٌ أراده جلَّ وتعالى ، فأمّا طول عنقها والمنفعة لها في ذلك فإنَّ منشأها
ومرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولاً في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق
لتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتتقوَّت من ثمارها .
تأمّل خلق القِرَد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس والوجه و
المنكبين والصدر ، وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضاً بأحشاء الإنسان ، وخصّ من ذلك بالذهن
والفطنة الّتي بها يفهم عن سائسه ما يومي إليه ، ويحكي كثيراً ممّا يرى الإنسان يفعله
حتّى أنّه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون
عبرةً للإنسان في نفسه فيعلم أنَّه من طينة البهائم وسنخها إذ كان يقرب من خلقها هذا
القرب ، وأنّه لولا فضيلة فضّله الله بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم ، على
أنَّ في جسم القرد فضولاً اُخرى يفرق بينه وبين الإنسان كالخطم والذنب المسدّل والشعر
المجلّل للجسم كلّه ، وهذا لم يكن مانعاً للقرد أن يلحق بالإنسان لو اُعطي مثل ذهن
الإنسان وعقله ونطقه ، والفصل الفاصل بينه وبين الإنسان بالصحّة هو النقص في العقل
والذهن والنطق .
بيان : شخِص البصر : ارتفع ، وشخِص الرجل بصره : إذا فتح عينيه . والخطم
بالفتح من كلّ طائر منقاره ومن كلّ دابّة مقدَّم أنفه وفمه . وقضم كسمع : أكل بأطراف
أسنانه . والجحفلة بمنزلة الشفة للبغال والحمير والخيل ، وهي بتقديم الجيم على الحاء
المهملة . والطبق محرَّكة : غطاء كلّ شيء . والحيأ : الفرج . والمراد بمراقي البطن ما
ارتفع منه من وسطه أو قرب منه . والوضر : الدرن . والمذبّة بكسر الميم : ما يذبُّ به
الذباب . وبطحه : ألقاه على وجهه . وكفحته كفحاً وكفاحاً : إذا استقبلته . والمشفر من
البعير كالجحفلة من الفرس . وقال الجوهريُّ : الزَرافة والزُرافة بفتح الزاي وضمّها
مخفّفة الفاء : دابّةٌ يقال لها بالفارسيّة : اشتر گاو پلنگ . وقال الفيروزآباديُّ : السِمع
بكسر السين وسكون الميم : ولد الذئب من الضبع لا يموت حتف أنفه كالحيّة ، وعدوه
أسرع من الطير ، ووثبته تزيد على ثلاثين ذراعاً . وقال : شحيج البغل والحمار : صوته .
والغياطل : جمع الغيطل وهو الشجر الكثير الملتفّ . قوله عليهالسلام : أن يكون أي خلق كذلك
لأن يكون عبرةً للإنسان . والسنخ بالكسر : الأصل . قوله : بالصحّة هو النقص في العقل
أي الفصل الصحيح الّذي يصلح واقعاً أن يكون فاصلاً . وفي أكثر النسخ : « وهو » وعلى
هذا لا يبعد أن تكون تصحيف القحة أي قلّة الحياء .
انظر يا مفضّل إلى لطف الله جلّ اسمه بالبهائم كيف كسيت أجسامهم هذه الكسوة
من الشعر والوبر والصوف ليقيها من البرد وكثرة الآفات ، وألبست قوائمها الأظلاف و
الحوافر والأخفاف ليقيها من الحفا ، إذ كانت لا أيدي لها ولا أكفَّ ولا أصابع مهيّأة
للغزل والنسج فكفّوا بأن جعل كسوتهم في خلقتهم باقيةً عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى
تجديدها والاستبدال بها ، فأمّا الإنسان فإنّه ذو حيلة وكفّ مهيّأة للعمل فهو ينسج و
يغزل ويتّخذ لنفسه الكسوة بها حالاً بعد حال ، وله في ذلك صلاح من جهات ؛
من ذلك : أنّه يشتغل بصنعة اللّباس عن العبث وما يخرجه إليه الكفاية ؛ ومنها : أنّه
يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ، ولبسها إذا شاء ؛ ومنها : أن يتّخذ لنفسه من الكسوة
ضروباً لها جمال وروعة فيتلذّذ بلبسها وتبديلها . وكذلك يتّخذ بالرفق من الصنعة
ضروباً من الخفاف والنعال يقي بها قدميه ، وفي ذلك معايش لمن يعمله من الناس ومكاسب
يكون فيها معاشهم ، ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم ، فصار الشعر والوبر والصوف يقوم
للبهائم مقام الكسوة والأظلاف والحوافر ، والأخفاف مقام الحذاء .
بيان : قال الجوهريُّ : قال الكسائيُّ رجل حاف بيّن الحفوة والحفاء بالمدّ ، و
هو الّذي يمشي بلا خفّ ولا نعل ، وقال : وأمّا الّذي حفي من كثرة المشي أي رقت
قدمه أو حافره فإنّه حفٍّ بيّن الحفا مقصوراً ، وأحفاه غيره . انتهى . قوله عليهالسلام : و
روعه من قولهم : راعني الشيء : أعجبني .
فكّر يا مفضّل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم ، فإنّهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا
كما يواري الناس موتاهم ، وإلّا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها
شيء ؟ وليست قليلةً فتخفى لقلّتها ؛ بل لو قال قائل : إنّها أكثر من الناس لصدق ، فاعتبر
ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظبا والمها والحمير والوعول والأيائل
وغير ذلك من الوحوش ، وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها ،
وضروب الهوامّ والحشرات ودوابّ الأرض ، وكذلك أسراب الطير من الغربان (1) و
القطا (2) والإوزّ (3) والكراكي (4) والحمام وسباع الطير جميعاً وكلّها لا يرى منها شيءٌ إذا
____________________________
(1) جمع الغراب .
(2) جمع القطاة : طائر في حجم الحمام .
(3)جمع الاوزّة : طائر مائيّ يقال له : الوزّة أيضاً .
(4) جمع الكركى : طائر كبير أغبر اللون ، طويل العنق والرجلين ، أبتر الذنب ، قليل اللحم ،
يأوى إلى الماء أحياناً .
ماتت إلّا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع فإذا أحسّوا بالموت كمنوا (1)
في مواضع خفيّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتّى تفسد رائحة
الهواء ويحدث الأمراض والوباء ، فانظر إلى هذا الّذي يخلص إليه الناس وعملوه بالتمثيل
الأوَّل الّذي مثّل لهم كيف جعل طبعاً وادّكاراً في البهائم وغيرها ليسلم الناس من معرّة
ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد .
توضيح : السرب ـ بالكسر ـ والسربة : القطيع من الظباء والقطا والخيل ونحوها
والجمع أسراب . والمهاة : البقرة الوحشيّة والجمع مها . والوعل ـ بالفتح وككتف ـ :
تيس الجبل والجمع : وعال ووعول . والاُيّل بضمّ الهمزة وكسره وفتح الياء المشدّدة
وكسيّد : الذكر من الأوعال ، ويقال : هو الّذي يسمّى بالفارسيّة : « گوزن » والجمع
أيائيل . والقانص : الصائد . وخلص إليه : وصل . والمراد بالتمثيل ما ذكره الله تعالى في
قصّة قابيل . والمعرّة : الأذى .
فكّر يا مفضّل في الفطن الّتي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفاً من
الله عزَّوجلَّ لهم ، لئلّا يخلو من نعمه جلَّ وعزَّ أحد من خلقه لا بعقل ورويّة فإن الاُيّل
يأكل الحيّات فيعطش عطشاً شديداً فيمتنع من شرب الماء خوفاً من أن يدبّ
السمُّ في جسمه فيقتله ، ويقف على الغدير وهو مجهود عطشاً ، فيعجُّ عجيجاً عالياً ولا
يشرب منه ولو شرب لمات من ساعته ، فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمّل
الظماء الغالب خوفاً من المضرّة في الشرب ، وذلك ممّا لا يكاد الإنسان العاقل المميّز
يضبطه من نفسه ؛ والثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتّى يحسبه الطير ميّتاً
فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها ؛ فمن أعان الثعلب العديم النطق والرويّة
بهذه الحيلة إلّا من توكّل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه ؟ فإنّه لما كان الثعلب يضعف
عن كثير ممّا يقوى على السباع من مساورة الصيد اُعين بالدهاء (2) والفطنة والاحتيال
لمعاشه ، والدُلفين يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله و
____________________________
(1) أي تواروا واختفوا .
(2)الدهاء جودة الرأي والحذق ، المكر والاحتيال .
يشرحه (1) حتّى يطفوا على الماء ، يكمن تحته ويثوّر الماء الّذي عليه حتّى لا يتبيّن
شخصه ، فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فاصطادها ، فانظر إلى هذه الحيلة
كيف جعلت طبعاً في هذه البهيمة لبعض المصلحة ؟ .
قال المفضّل : فقلت : خبّرني يا مولاي عن التنّين والسحاب ، فقال عليهالسلام : أنَّ
السحاب كالموكّل به يختطفه حيثما ثقفه ، كما يختطف حجر المقناطيس بالحديد ؛ فهو
لا يطلع رأسه في الأرض خوفاً من السحاب ولا يخرج إلّا في القيظ مرّةً إذا صحت السماء
فلم يكن فيه نكتة من غيمة ؛ قلت : فلمَ وكّل السحاب بالتنّين يرصده ويختطفه إذا
وجده ؟ قال : ليدفع عن الناس مضرّته .
بيان : قوله : لا بعقل ورويّة ، لعلَّ المراد أنَّ هذه الاُمور من محض لطفه تعالى
حيث يلهمهم ذلك لا بعقل ورويّة . وفي أكثر النسخ : لا يعقل ومروته ؛ وهو تصحيف و
المراد معلوم . والجهد : الطاقة والمشقّة أي أصابته مشقّة عظيمة من العطش . و
العجيج : الصياح ورفع الصوت . وأعوزه الشيء أي احتاج إليه . والتماوت : إظهار
الموت حيلة . والمساورة : هي الوثوب على وجه الصيد . وقال الفيروزآباديُّ : الدلفين
بالضمّ دابّة بحريّة تنجي الغريق (2) وقوله عليهالسلام : يثوّر الماء أي يهيّجه ويحرّكه .
والتنّين : حيّة عظيمة معروفة . وثقفه أي وجده . والقيظ صميم الصيف من طلوع الثريّا
إلى طلوع سهيل . والصحو : ذهاب الغيم .
قال المفضّل : فقلت : قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر
فصف لي الذرّة (3) والنمل والطير ؛ فقال عليهالسلام :
يا مفضّل تأمّل وجه الذرّة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصاً عمّا فيه صلاحها ؟
____________________________
(1) أي يقطعه .
(2) وقيل : هو خنزير البحر ، وهو دابة تنجى الغريق ، وهو كثير بأواخر نيل مصر من جهة البحر
الملح ، لانه يقذف به البحر إلى النيل ، وصفته كصفة الزقّ المنفوخ ، وله رأس صغير جداً ، وليس
في دواب البحر ماله رئة سواه ، فذلك يسمع منه النفخ والنفس ، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى
الاسباب في نجاته ، لانه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه ، ولا يؤذى أحداً ، ومن طبعه الانس
بالانسان وخاصة بالصبيان .
(3)الذرة : النحلة الصغيرة الحمراء .
فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرّة إلّا من التدبير القائم في صغير الخلق و
كبيره ؟ .
انظر إلى النمل واحتشادها في جمع القوت وإعداده ، فإنّك ترى الجماعة منها
إذا نقلت الحبّ إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره ، بل للنمل في
ذلك من الجدّ والتشمير ما ليس للناس مثله ؛ أما تريهم يتعاونون على النقل كما يتعاون
الناس على العمل ؟ ثمّ يعمدون إلى الحبّ فيقطعونه قطعاً لكيلا ينبت فيفسد عليهم (1)
فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتّى يجفّ ؛ ثمّ لا يتّخذ النمل الزبية إلّا في نشر من
الأرض كي لا يفيض السيل فيغرقها (2) فكلّ هذا منه بلا عقل ولا رويّة بل خلقة خُلقَ
عليها لمصلحة لطفاً من الله عزّوجلّ .
انظر إلى هذا الّذي يقال له : اللّيث ، وتسمّيه العامّة أسد الذباب ، وما اُعطي
من الحيلة والرفق في معاشه ، فإنّك تراه حين يحسّ بالذباب قد وقع قريباً منه تركه
مليّاً حتّى كأنّه موات لا حراك به ، فإذا رأى الذباب قد اطمأنّ وغفل عنه دبّ دبيباً
دقيقاً (3) حتّى يكون منه بحيث يناله وثبه ثمّ يثب عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه
بجسمه كلّه مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضاً عليه حتّى يحسّ بأنّه قد ضعف واسترخى ثمّ
يقبل عليه فيفترسه ويحيى بذلك منه ؛ فأمّا العنكبوت فإنّه ينسج ذلك النسج فيتّخذه
شركاً ومصيدةً للذباب ثمّ يكمّن في جوفه فإذا نشب فيه الذباب (4) أجال عليه يلدغه
ساعةً بعد ساعة فيعيش بذلك منه فكذلك يحكى صيد الكلاب والفهود ، وهكذا يحكى
صيد الأشراك والحبائل .
____________________________
(1) ويقطع الكسفرة ويقسمها أرباعاً ، لما الهم من أن كل نصف منها ينبت .
(2) قال الدميري : يحفر قريته بقوائمه وهي ست ، فاذا حفرها جعل فيها تعاريج ، لئلا يجرى
إليها ماء المطر ، وربما اتخذ قرية فوق قرية بسبب ذلك ، وانما يفعل ذلك خوفاً على ما يدخره
من البلل ، ومن عجائبه اتخاذ القرية تحت الارض ، وفيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات معلقة ،
يملؤها حبوبا وذخائر للشتاء .
(3) وفي نسخة : دب دبيبا رقيقاً .
(4) أي وقع فيه .
فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلّا
بالحيلة واستعمال آلات فيها ، فلا تزدر بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحةً كالذرّة والنملة
وما أشبه ذلك فإنّ المعنى النفيس قد يمثّل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك كما لا يضع
من الدينار وهو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد .
بيان : الاحتشاد : الاجتماع . والزبية بالضمّ : الحفرة . والنشر بالفتح وبالتحريك :
المكان المرتفع . وقال الجوهريُّ : اللّيث : الأسد وضرب من العناكب يصطاد الذباب
بالوثب : انتهى . والموات بالفتح : ما لا روح فيه . ويقال : ما به حراك كسحاب أي حركة .
والشرك بالتحريك : حبالة الصائد . ويقال : أحال عليه بالسوط يضربه أي أقبل . قوله
عليهالسلام : فكذلك أي كفعل اللّيث . وقوله : هكذا أي كالعنكبوت . والازدراء : الاحتقار .
قوله عليهالسلام : فلا يضع منه أي لا ينقص من قدر المعنى النفيس تمثيله بالشيء الحقير ، قال
الفيروزآباديُّ : وضع عنه : حطَّ من قدره .
تأمّل يا مفضّل جسم الطائر وخلقته فإنّه حين قدِّر أن يكون طائراً في الجوّ
خفّف جسمه واُدمج خلقه ، فاقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ، ومن الأصابع
الخمس على أربع ، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما ، ثمَّ خلق ذا جؤجؤ
محدّد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه ، كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشقّ
الماء وتنفذ فيه ، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران ، وكسي
كلّه الريش ليداخله الهواء فيقلّه ، ولمّا قدّر أن يكون طعمه الحبّ واللّحم يبلعه بلعاً
بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان ، وخلق له منقار صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح
من لقط الحبّ ، ولا يتقصّف من نهش اللّحم ، ولمّا عدم الأسنان وصار يزدرد الحبّ (1)
صحيحاً واللّحم غريضاً اُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحناً يستغني به
عن المضغ ؛ واعتبر ذلك بأنّ عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الإنس صحيحاً ، ويطحن
في أجواف الطير لا يرى له أثر ، ثمَّ جعل مما يبيض بيضاً ولا يلد ولادةً لكيلا يثقل عن
الطيران فإنّه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتّى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض
____________________________
(1) أي يبتلعه ويسرع .
والطيران فجعل كلّ شيء من خلقه مشاكلاً للأمر الّذي قدّر أن يكون عليه ثمَّ صار
الطائر السائح في هذا الجوّ يقعد على بيضه فيحضنه اُسبوعاً ، وبعضها اُسبوعين ، وبعضها
ثلاثة أسابيع حتّى يخرج الفرخ من البيضة ثمَّ يقبل عليه فيزقّه الريح لتتّسع حوصلته للغذاء
ثمَّ يربّيه ويغذّيه بما يعيش به فمن كلّفه أن يلقط الطعم ويستخرجه بعد أن يستقرّ في
حوصلته ويغذو به فراخه ؟ ولأيّ معنى يحتمل هذه المشقّة وليس بذي رويّة ولا تفكّر ؟
ولا يأمل في فراخه ما يأمل الإنسان في ولده من العزّ والرفد (1) وبقاء الذكر ؟ فهذا هو فعل (2)
يشهد بأنّه معطوف على فراخه ، لعلّه لا يعرفها ولا يفكّر فيها وهي دوام النسل وبقاؤه
لطفاً من الله تعالى ذكره .
انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ وليس لها بيض مجتمع
ولا وكر (3) موطى بل تنبعث وتنتفخ وتقوقى وتمتنع من الطعم حتّى يجمع لها البيض
فتحضنه وتفرخ فلمَ كان ذلك منها إلّا لإقامة النسل ؟ ومن أخذها بإقامة النسل ولا
رويّة ولا تفكّر لولا أنّها مجبولة على ذلك ؟ .
اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المحّ الأصفر الخاثر ، والماء الأبيض الرقيق ،
فبعضه لينتشر منه الفرخ ، وبعضه ليغذي به ، (4) إلى أن تنقاب عنه البيضة ، وما في ذلك
من التدبير فإنّه لو كان نشؤ الفرخ في تلك القشرة المستحصنة الّتي لا مساغ لشيء إليها
لجعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها ، كمن يحبس في حبس
حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه .
فكّر في حوصلة الطائر وما قدِّر له ، فإنّ مسلك الطعم إلى القانصة (5) ضيق لا ينفذ
فيه الطعام إلّا قليلاً قليلاً ، فلو كان الطائر لا يلقط حبّةً ثانيةً حتّى تصل الاُولى إلى
القانصة لطال عليه ، ومتى كان يستوفي طعمه ؟ فإنّما يختلسه اختلاساً لشدّة الحذر ،
____________________________
(1) الرفد : النصيب ، المعاونة .
(2) وفي نسخة : فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه .
(3) الوكر ـ بفتح الواو وسكون الكاف ـ : عش الطائر .
(4) وفي نسخة : ليغتذى به .
(5) القانصة للطير : كالمعدة للانسان .
فجعلت الحوصلة كالمخلاة المعلّقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثمَّ تنفذه إلى
القانصة على مهل ، وفي الحوصلة أيضاً خلّة اُخرى ، فإنّ من الطائر ما يحتاج إلى أن يزقَّ
فراخه فيكون ردّه للطعم من قرب أسهل عليه .
توضيح : أقلّه أي حمله ورفعه . وجسا كدعا : صلب ويبس . ويقال : سحجت
جلده فانسحج أي قشرته فانقشر . والتقصّف : التكسّر . والغريض الطريّ ، أي غير
مطبوخ . والعجم بالتحريك : النوى . وحضن الطائر بيضته يحضنه : إذا ضمّه إلى نفسه تحت
جناحه . وزقّ الطائر فرخه يزقّه أي أطعمه بفيه . وتقوقى أي تصيح . والمحّ بضمّ الميم
والحاء المهملة : صفرة البيض ، وفي بعض النسخ بالخاء المعجمة : وقال الأصمعيّ : اخثرت
الزبد ؟ تركته خاثراً ، وذلك إذا لم تذبه : وتنقاب أي تنفلق .
قال المفضّل : فقلت يا مولاي إنّ قوماً من المعطّلة يزعمون أنّ اختلاف الألوان
والأشكال في الطير إنّما يكون من قبل امتزاج الأخلاط واختلاف مقاديرها بالمرج و
الإهمال . فقال :
يا مفضّل هذا الوشي الّذي تراه في الطواويس والدرّاج والتدارج (1) على استواء
ومقابلة كنحو ما يخطّ بالأقلام كيف يأتي به الامتراج المهمل على شكل واحد لا يختلف ؟
ولو كان بالاهمال لعدم الاستواء ولكان مختلفاً .
تأمّل ريش الطير كيف هو ؟ فإنّك تراه منسوجاً كنسج الثوب من سلوك دقاق
قد اُلّف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ، ثمَّ ترى ذلك
النسج إذا مددته ينفتح قليلاً ولا ينشقُّ لتداخله الريح فيقلّ الطائر إذا طار ، وترى في
وسط الريشة عموداً غليظاً متيناً قد نسج عليه الّذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، وهو
القصبة الّتي هو في وسط الريشة ، وهو مع ذلك أجوف ليخفّ على الطائر ولا يعوقه عن
الطيران .
____________________________
(1) قال الدميري : التدرج كحبرج : طائر كالدرّاج يغرد في البساتين بأصوات طيبة ، يسمن عند
صفاء الهواء وهبوب الشمال ، ويهزل عند كدورته وهبوب الجنوب ، يتخذ داره في التراب اللين ،
ويضع البيض فيها لئلا يتعرض للافات . وقال ابن زهر : هو طائر مليح يكون بأرض خراسان وغيرها
من بلاد فارس .
بيان : المرج بالتحريك : الفساد والاضطراب والاختلاط . وفي بعض النسخ بالزاي
المعجمة والأوَّل أظهر والوشي : نقش الثوب ويكون من كلّ لون . والسلوك : جمع
بالسلك وهو جمع السلكة ـ بالكسر ـ : الخيط يخاط بها .
هل رأيت يا مفضّل هذا الطائر الطويل الساقين ؟ وعرفت ما له من المنفعة في طول
ساقيه ؟ فإنّه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنّه ربيئة فوق مرقب
وهو يتأمّل ما يدبّ في الماء فإذا رأى شيئاً ممّا يتقوّت به خطا خطوات رقيقاً (1) حتّى
يتناوله ، ولو كان قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور و
يذعر منه فيتفرّق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسد عليه مطلبه .
تأمّل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنّك تجد كلّ طائر طويل الساقين طويل
العنق وذلك ليتمكّن من تناول طعمه من الأرض ولو كان طويل الساقين قصير العنق لما
استطاع أن يتناول شيئاً من الأرض ، وربّما اُعين مع طول العنق (2) بطول المناقير ليزداد
الأمر عليه سهولةً له وإمكاناً أفلا ترى أنّك لا تفتّش شيئاً من الخلقة إذ وجدته على
غاية الصواب والحكمة ؟ .
توضيح : ماء ضحضاح أي قريب القعر . والربيئة بالهمز : العين والطليعة الّذي
ينظر للقوم لئلّا يدهمهم عدوٌّ ، ولا يكون إلّا على جبل أو شرف . والمرقب : الموضع المشرف
يرتفع عليه الرقيب . والذعر : الخوف .
انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار فهي لا تفقده ؟ ولا هي تجده مجموعاً
معدّاً بل تناله بالحركة والطلب ، وكذلك الخلق كلّه فسبحان من قدّر الرزق كيف
قوّته ؟ (3) فلم يجعل ممّا لا يقدر عليه إذ جعل للخلق حاجة إليه ولم يجعله مبذولاً
وينال بالهوينا إذ كان لاصلاح في ذلك فإنّه لو كان يوجد مجموعاً معدّاً كانت البهائم
تتقلّب عليه ولاتنقلع حتّى تبشم فتهلك ، وكان الناس أيضاً يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر
والبطر حتّى يكثر الفساد ويظهر الفواحش .
____________________________
(1) وفي نسخة : خطوات رقيقات .
(2) وفي نسخة : اعين على طول العنق .
(3) وفي نسخة : كيف قدّره .
أعلمت ما طعم هذه الأصناف من الطير الّتي لا تخرج إلّا باللّيل كمثل البوم والهام (1)
والخفّاش ؟ قلت : لا يا مولاي ، قال : إنَّ معاشها من ضروب وتنتشر في هذا الجوّ من البعوض
والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب ، وذلك أنّ هذه الضروب مبثوثة في الجوّ لا يخلو منها
موضع واعتبر ذلك بأنّك إذا وضعت سراجاً باللّيل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من
هذا شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كلّه إلّا من القرب ؟ .
فإن قال قائل : إنّه يأتي من الصحاري والبراري : قيل له : كيف يوافي تلك
الساعة من موضع بعيد ؟ وكيف يبصر من ذلك البعد سراجاً في دار محفوفة بالدور
فيقصد إليه ؟ مع أنّ هذه عياناً تتهافت على السراج (2) من قرب فيدلّ ذلك على أنّها
منتشرة في كلّ موضع من الجوّ ، فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت
فتتقوّت بها .
فانظر كيف وجّه الرزق لهذه الطيور الّتي لا تخرج إلّا باللّيل من هذه الضروب المنتشرة
في الجوّ ؛ واعرف مع ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة الّتي عسى أن يظنَّ ظانٌّ أنّها
فضل لا معنى له ؛ خلق الخفّاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع أقرب ، وذلك أنّه
ذو اُذنين ناشزتين وأسنان ووبر (3) وهو يلد ولاداً ويرضع ويبول ويمشي إذا مشى على
أربع ، وكلُّ هذا خلاف صفة الطير ، ثمّ هو أيضاً ممّا يخرج باللّيل ويتقوَّت ممّا يسري
في الجوّ من الفراش وما أشبهه ؛ وقد قال قائلون : إنّه لا طُعم للخفّاش ، وإنّ غذاءه من
النسيم وحده ، وذلك يفسد ويبطل من جهتين : إحديهما خروج ما يخرج منه من الثفل
والبول فإنّ هذا لا يكون من غير طُعم ، والاُخرى أنّه ذو أسنان ولو كان لا يطعم شيئاً
لم يكن للأسنان فيه معنىً ، وليس في الخلقة شيء لا معنى له ؛ وأمّا المآرب فيه فمعروفة
____________________________
(1) جمع الهامة : نوع من البوم الصغير ، تألف القبور والاماكن الخربة ، وتنظر من كل
مكان أينما درت أدارت رأسها . وتسمى أيضا الصدى .
(2) أي تساقط عليه وتتابع .
(3)أضاف الدميري له خصيصتين ، وقال : يحيض ويطهر ، ويضحك كما يضحك الانسان .
حتّى أنّ زبله يدخل في بعض الأعمال ؛ (1) ومن أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالّة
على قدرة الخالق جلّ شأنه ، وتصرّفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة . فأمّا
الطائر الصغير الّذي يقال له : « ابن تمرة » فقد عشّش في بعض الأوقات في بعض الشجر
فنظر إلى حيّة عظيمة قد أقبلت نحو عشّه فاغرةً فاها لتبلعه فبينما هو يتقلّب ويضطرب
في طلب حيلة منها إذا وجد حسكة فحملها فألقاها في فم الحيّة ، فلم تزل الحيّة تلتوي
وتتقلّب حتّى ماتت . أفرأيت لو لم اُخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنّه
يكون من حسكة مثل هذه المنفعة العظيمة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه
الحيلة ؟ اعتبر بهذا وكثير من الأشياء تكون فيها منافع لا تعرف إلّا بحادث يحدث به أو
خبر يسمع به .
انظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل ، وتهيئة البيوت المسدّسة وما ترى
في ذلك اجتماعه من دقائق الفطنة (2) فانّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيباً لطيفاً ، وإذا رأيت
المعمول وجدته عظيماً شريفاً موقعه من الناس ، وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيّاً
جاهلاً بنفسه فضلاً عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب والحكمة
في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للّذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس .
انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه فإنّك إذا تأمّلت خلقه رأيته كأضعف
الأشياء ، وإن دلفت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه .
ألا ترى أنّ ملكاً من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر
على ذلك ؟ أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه
فلا يستطيع دفعه ؟ انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشي السهل و
الجبل والبدو والحضر ، حتّى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا ممّا يصنع بالأيدي
____________________________
(1) قد ذكر الدميري لاجزائه خواصا كثيرة : منها ان طبخ رأسه في إناء نحاس أو حديد بدهن زنبق
ويغمر فيه مرارا حتى يتهرّى ويصفى ذلك الدهن عنه ، ويدهن به صاحب النقرس والفالج القديم
والارتعاش ، والتورّم في الجسد فانه ينفعه ذلك ويبرئه ، ومنها ان زبله اذا طلى به على القوابى
قلعها . وغير ذلك من الفوائد .
(2) وفي نسخة وما ترى في اجتماعه من دقائق الفطنة .
متى كان يجتمع منه هذه الكثرة ، وفي كم من سنة كان يرتفع فاستدلّ بذلك على القدرة
الّتي لا يؤودها شيء ويكثر عليها .
تأمّل خلق السمك ومشاكلته للأمر الّذي قدّر أن يكون عليه فإنّه خلق غير
ذي قوائم لأنّه لا يحتاج إلى المشي إذا كان مسكنه الماء ، وخلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع
أن يتنفّس وهو منغمس في اللّجّة ، وجعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في
جانبيه كما يضرب الملّاح بالمجاذيف من جانبي السفينة ، وكسي جسمه قشوراً متاناً
متداخلة كتداخل الدروع والجواشن لتقيه من الآفات فاُعين بفضل حسّ في الشمّ لأنّ
بصره ضعيف والماء يحجبه ، فصار يشمّ الطعم من البعد البعيد فينتجعه ، وإلّا فكيف يعلم
به وبموضعه ؟ واعلم أنّ من فيه إلى صماخيه منافذ فهو يعبّ الماء بفيه (1) ويرسله من
صماخيه (2) فتروّح إلى ذلك كما يتروّح غيره من الحيوان إلى تنسُّم هذا النسيم .
فكّر الآن في كثرة نسله وما خصّ به من ذلك فإنّك ترى في جوف السمكة
الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة ، والعلّة في ذلك أن يتّسع لما يغتذي به من أصناف
الحيوان فإنّ أكثرها يأكل السمك حتّى أنَّ السباع أيضاً في حافات الآجام عاكفة
على الماء أيضاً كي ترصد السمك فإذا مرَّ بها خطفته فلمّا كانت السباع تأكل السمك
والطير يأكل السمك والناس يأكلون السمك والسمك يأكل السمك كان من التدبير فيه
أن يكون على ما هو عليه من الكثرة .
فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في
البحار من ضروب السمك ، ودوابّ الماء والأصداف ، والأصناف الّتي لا تحصى ولا
تعرف منافعها إلّا الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ؛ مثل القرمز فإنّه إنّما
عرف الناس صبغه بأنَّ كلبة تجول على شاطىء البحر فوجدت شيئاً من الصنف الّذي
يسمّى الحلزون فأكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتّخذوه صبغاً ،
وأشباه هذا ممّا يقف الناس عليه حالاً بعد حال وزماناً بعد زمان .
____________________________
(1) أي شربه أو كرعه بلا تنفس .
(2) الصمخ : خرق الاذن الباطن الماضي إلى الرأس .
قال المفضّل : حان وقت الزوال فقام مولاي عليهالسلام إلى الصلاة ، وقال : بكّر إليَّ
غداً إن شاء الله تعالى فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرّفنيه ، مبتهجاً بما منحنيه ،
حامداً لله على ما آتانيه فبتُّ ليلتي مسروراً مبتهجاً .
بيان : البشم محرّكة : التخمة والسأمة . بشم كفرح وأبشمه الطعام . والفراش
هي الّتي تقع في السراج . واليعسوب : أمير النحل وطائر أصغر من الجرادة أو أعظم .
وقوله عليهالسلام : ناشزتين بالمعجمة أي مرتفعتين ، وفي بعض النسخ بالمهملة أي مبسوطتين .
والسُرى : السير باللّيل . وقال الفيروزآباديّ : والتمّرة كقبّرة وابن تمّرة طائر أصغر
من العصفور . انتهى . (1) وفغرفاه أي فتحه . والحسك محرّكةً : نبات تعلق ثمرته بصوف
الغنم . قوله عليهالسلام غبيّاً جاهلاً أي ليس له عقل يتصرّف في سائر الأشياء على نحو تصرّفه
في ذلك الأمر المخصوص فظهر أنّ خصوص هذا الأمر إلهام من مدبّر حكيم ، أو خلقة
وطبيعة جبله عليها ، ليصدر عنه خصوص هذا الأمر لما فيه من المصلحة مع كونه غافلاً
عن المصلحة أيضاً ، ولعلّ هذا يؤيّد ما يقال : إنّ الحيوانات العجم غير مدركة للكلّيّات (2)
ويقال : دلفت الكتيبة في الحرب أي تقدّمت ، ويقال : دلفناهم ؛ فالعساكر تحتمل الرفع
والنصب . والرجل بالفتح جمع راجل : خلاف الفارس . وانساب : جرى ومشى مسرعاً
ولا يؤودها أي لا يثقلها . ولجّة الماء : معظمه . والمجذاف : ما تجري به السفينة . وانتجع :
طلب الكلأ في موضعه . وحافات الآجام : جوانبها . وعكف على الشيء : أقبل عليه
مواظباً . وقال الفيروزآباديّ : القرمز : صبغ أرمنيّ يكون من عصارة دود في آجامهم .
وقال : الحلزون ـ محرّكة ـ دابّة تكون في الرمث أي بعض مراعي الابل ، ويظهر من
كلامه عليهالسلام اتّحادهما ، ويحتمل أن يكون المراد أنّ من صبغ الحلزون تفطّنوا بإعمال
القرمز للصبغ لتشابههما . تمَّ المجلس الثاني .
____________________________
(1) قال الدميري : التمّر : طائر نحو الاوزّ في منقاره طول ، وعنقه أطول من عنق الاوزّ . وفي
المنجد : التم : طائر مائي شبيه بالاوزّ أطول منه عنقاً . أقول : الظاهر أنه غلط وصحيحه كما في
القاموس وغيره : التمّر بالراء .
(2) فيه ما لا يخفى فان إدراك الكليات غير الفكر الذي بمعنى الانتقال من النتيجة إلى المقدمات
ومنها إلى النتيجة ، وكذا هو غير قوة الفكر ؛ والذي يلوح منه نفى قوة الفكر كالانسان وأما أصل الفكر
وادراك الكليات فلا . ط
المجلس الثالث : قال المفضّل : فلمّا كان اليوم الثالث بكّرت إلى مولاي
فاستوذن لي فدخلت فأذن لي بالجلوس فجلست ، فقال عليهالسلام : الحمد لله الّذي اصطفانا
ولم يصطف علينا ، اصطفانا بعلمه ، وأيّدنا بحلمه ، من شذ عنّا (1) فالنار مأواه ، ومن
تفيّأ بظلّ دوحتنا فالجنّة مثواه ، قد شرحت لك يا مفضّل خلق الإنسان وما دبّر به و
تنقّله في أحواله وما فيه من الاعتبار ، وشرحت لك أمر الحيوان ، وأنا أبتدىء الآن
بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك واللّيل والنهار والحرّ والبرد والرياح
والجواهر الأربعة : الأرض والماء والهواء والنار ؛ والمطر والصخر والجبال والطين و
الحجارة والمعادن والنبات والنخل والشجر وما في ذلك من الأدلّة والعبر .
فكّر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير فإنّ هذا اللّون أشدّ الألوان
موافقة للبصر وتقوية حتّى أنّ من صفات الأطبّاء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمان النظر
إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد ، (2) وقد وصف الحذّاق منهم لمن كلَّ بصره
الإطلاع في إجّانة (3) خضراء مملوّة ماءاً ؛ فانظر كيف جعل الله جلّ وتعالى أديم السماء
بهذا اللّون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المنقلبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها
له فصار هذا الّذي أدركه الناس بالفكر والرويّة والتجارب يوجد مفروغاً منه في الخلقة
حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون ، ويفكّر فيها الملحدون ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون .
بيان : اصطفانا بعلمه أي اختارنا وفضّلنا على الخلق بأن أعطانا من علمه ما لم
يعط أحداً . وأيّدنا بحلمه أي قوّانا على تبليغ الرسالة بما حلّانا به من حلمه لنصبر
على ما يلقانا من أذى الناس وتكذيبهم . والدوحة : الشجرة العظيمة . والصخر : الحجر
العظام . وأديم السماء : وجهها ، كما يطلق أديم الأرض على وجهها ، ويمكن أن يكون
عليهالسلام شبّهها بالأديم . وقوله عليهالسلام : حكمة بالغة بالرفع خبر مبتدء محذوف ؛ أو بالنصب
بالحاليّة أو بكونه مفعولاً لأجله .
____________________________
(1) أي تحزّب وانفرد عنا .
(2) إدمان النظر : إدامته .
(3)الاجّانة : إناء تغسل فيه الثياب .
فكّر يا مفضّل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار واللّيل فلولا
طلوعها لبطل أمر العالم كلّه فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ويتصرّفون في اُمورهم
والدنيا مظلمة عليهم ، ولم يكونوا يتهنّؤون بالعيش مع فقدهم لذّه النور وروحه ،
والإرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإطناب في ذكره والزيادة في شرحه بل
تأمّل المنفعة في غروبها ؛ فلولا غروبها لم يكن للناس هدءٌ ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى
الهدء والراحة لسكون أبدانهم وجموم حواسّهم وانبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام
وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ثمّ كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما
يعظم نكايته في أبدانهم فإنّ كثيراً من الناس لولا جثوم هذا الّليل لظلمته عليهم لم يكن
لهم هدءٌ ولا قرار حرصاً على الكسب والجمع والادّخار ثمّ كانت الأرض تستحمي بدوام
الشمس بضيائها وتحمي كلّ ما عليها من حيوان ونبات فقدّرها الله بحكمته وتدبيره
تطلع وقتاً وتغرب وقتاً بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثمّ يغيب
عنهم مثل ذلك ليهدؤوا ويقرُّوا فصار النور والظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين
على ما فيه صلاح العالم وقوامه .
ثمّ فكّر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعه من
السنة ، وما في ذلك من التدبير والمصلحة ؛ ففي الشتاء تعود الحرراة في الشجر والنبات
فيتولّد فيهما موادُّ الثمار ، ويستكثف الهواء فينشأ منه السحاب والمطر ، وتشدُّ أبدان
الحيوان وتقوي ، وفي الربيع تتحرّك وتظهر الموادّ المتولّدة في الشتاء فيطلع النبات ، وتنوّر
الأشجار ، ويهيج الحيوان للسفاد ، وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار ، وتتحلّل
فضول الأبدان ، ويجفّ وجه الأرض فتهيّأ للبناء والأعمال ، وفي الخريف يصفو الهواء ،
ويرتفع الأمراض ، ويصحّ الأبدان ويمتدُّ اللّيل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله ، و
يطيب الهواء فيه إلى مصالح اُخرى لو تقصّيت لذكرها لطال فيها الكلام .
فكّر الآن في تنقّل الشمس في البروج الإثنى عشر لإقامه دور السنة ، وما في
ذلك من التدبير فهو الدور الّذي تصحّ به الأزمنة الأربعة من السنة : الشتاء ، والربيع ،
والصيف ، والخريف ؛ ويستوفيها على التمام ، وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك
ـ 7 ـ بحار الأنوار
الغلّات والثمار ، وتنتهي إلى غاياتها ، ثمّ تعود فيستأنف النشوء والنموّ ، ألا ترى أنّ السنة
مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل فبالسنة وأخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله
تعالى العالمَ إلى كلّ وقت وعصر من غابر الأيّام ، وبها يحسب الناس الأعمال (1) والأوقات
الموقّته للديون والإجارات والمعاملات وغير ذلك من اُمورهم ، وبمسير الشمس يكمل
السنة ويقوم حساب الزمان على الصحّة .
انظر إلى شروقها على العالم كيف دبّر أن يكون فإنّها لو كانت تبزغ في موضع
من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات لأنّ الجبال و
الجدران كانت تحجبها عنها فجعلت تطلع في أوَّل النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها
من وجه المغرب ثمّ لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتّى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما
استتر عنها في أوَّل النهار فلا يبقى موضع من المواضع إلّا أخذ بقسطه من المنفعة (2)
منها ، والإرب الّتي قدِّرت له ، ولو تخلّفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون
حالهم ؟ بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاءٌ ؟ أفلا يرى الناس كيف هذه الاُمور
الجليلة (3) الّتي لم تكن عندهم فيها حيلة ؟ فصار تجري على مجاريها لا تعتلّ ولا تتخلّف
عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه .
استدلّ بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامّة في معرفة الشهور ، ولا يقوم
عليه حساب السنة ، لأنّ دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشوء الثمار وتصرّمها ، ولذلك
صارت شهور القمر وسنوه تتخلّف عن شهور الشمس وسنيها ، وصار الشهر من شهور
القمر ينتقل مرَّة بالشتاء ومرَّة بالصيف .
فكّر في إنارته في ظلمة اللّيل والإرب في ذلك فإنّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدء
الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون اللّيل ظلمة داجية لا ضياء
فيها فلا يمكن فيه شيء من العمل ؛ لأنّه ربّما احتاج الناس إلى العمل باللّيل لضيق الوقت
عليهم في تقصّي الأعمال بالنهار (4) أو لشدّة الحرّ وإفراطه فيعمل في ضوء القمر أعمالاً
____________________________
(1) وفي نسخة : وبها يحسب الناس الاعمار .
(2) أي بحصته ونصيبه من المنفعة .
(3) وفي نسخة : كيف كان يكون للناس هذه الامور الجليلة .
(4) وفي نسخة : في تقضى بعض الاعمال بالنهار .
شتّى كحرث الأرض ، وضرب اللّبن ، وقطع الخشب ، وما أشبه ذلك فجعل ضوء القمر
معونة للناس على معايشهم إذا احتاجوا إلى ذلك ، واُنساً للسائرين ، وجعل طلوعه في
بعض اللّيل دون بعض ، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا تنبسط الناس
في العمل انبساطهم بالنهار ، ويمتنعوا من الهدء والقرار فيهلكهم ذلك وفي تصرّف القمر
خاصّة في مهله (1) ومحاقه وزيادته ونقصانه وكسوفه من التنبيه على قدرة الله خالقه
المصرّف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون .
ايضاح : الدولة بالفتح والضمّ : انقلاب الزمان ، ودالت الأيّام : دارت ، والله
يداولها بين الناس . وهدأ كمنع هدءاً وهدوءاً : سكن . ويقال : نكيت في العدوّ نكاية
إذا قتلت فيهم وجرحت . وجثم الإنسان والطائر والنعام ، يجثم جثماً وجثوماً : لزم
مكانه لم يبرح ، والمراد جثومهم في اللّيل . والتظاهر : التعاون . ونوّر الشجر أي أخرج
نوره . وحدم النار : شدّة احتراقها . والتقصّي : بلوغ أقصى الشيء ونهايته . والغابر
الباقي والماضي ؛ والمراد هنا الثاني . وبزغت الشمس بزوغاً : شرقت ، أو البزوغ ابتداء
الطلوع . وقال الجوهريّ : اعتلّ عليه واعتلّه : إذا اعتاقه عن أمر . انتهى . وليلة داجية
أي مظلمة .
فكّر يا مفضّل في النجوم واختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك
ولا تسير إلّا مجتمعة ، وبعضها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها فكلّ واحد
منها يسير سيرين مختلفين : أحدهما عامٌّ مع الفلك نحو المغرب ، والآخر خاصٌّ لنفسه نحو
المشرق ؛ كالنملة الّتي تدور على الرحى فالرحى تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال
والنملة في تلك تتحرّك حركتين مختلفتين : إحديهما بنفسها فتتوجّه أمامها ، والاُخرى
مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها ؛ فاسئل الزاعمين أنّ النجوم صارت على ما هي
عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانع لها ما منعها أن تكون كلّها راتبةً ؟ أو تكون كلّها
منتقلة ؟ فإنّ الإهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير ؟
ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير ، وليس
بإهمال كما تزعم المعطّلة .
____________________________
(1) وفي نسخة : خاصة في تهلله .
فإن قال قائل : ولم صار بعض النجوم راتباً وبعضها منتقلاً ؟ قلنا : إنّها لو كانت
كلّها راتبةً لبطلت الدلالات الّتي يستدلّ بها من تنقّل المنتقلة ومسيرها في كلّ برج من
البروج ؛ كما قد يستدلّ على أشياء ممّا يحدث في العالم بتنقّل الشمس والنجوم في منازلها ،
ولو كانت كلّها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يوقف عليه لأنّه إنّما يوقف
بمسير المنتقلة منها بتنقّلها في البروج الراتبة كما يستدلّ على سير السائر على الأرض
بالمنازل الّتي يجتاز عليها ، ولو كان تنقّلها بحال واحدة لاختلط نظامها وبطلت المآرب
فيها ، ولساغ لقائل أن يقول : إنّ كينونتها (1) على حال واحدة توجب عليها الإهمال
من الجهة الّتي وصفنا ففي اختلاف سيرها وتصرّفها وما في ذلك من المآرب والمصلحة
أبين دليل على العمد والتدبير فيها .
فكّر في هذه النجوم الّتي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها كمثل الثريّا
والجوزاء والشِعريين وسهيل فإنّها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم تكن لواحد
فيها على حياله دلالات يعرفها الناس ويهتدون بها لبعض اُمورها كمعرفتهم الآن بما
يكون من طلوع الثور والجوزاء إذا طلعت ، واحتجابها إذا احتجبت فصار ظهور كلّ
واحد واحتجابه في وقت غير وقت الآخر لينتفع الناس بما يدلّ عليه كلّ واحد منها
على حدته ، وكما جعلت الثريّا وأشباهها تظهر حيناً وتحجب حيناً لضرب من المصلحة كذلك
جعلت بنات النعش ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة فإنّها بمنزلة الأعلام الّتي
يهتدي بها الناس في البرّ والبحر للطرق المجهولة ، وذلك أنّها لا تغيب ولا تتوارى ؛ فهم
ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاؤوا وصار الأمران جميعاً على اختلافهما
موجّهين نحو الإرب والمصلحة ، وفيهما مآرب اُخرى : علامات ودلالات على أوقات
كثيرة من الأعمال كالزراعة والغراس والسفر في البرّ والبحر ؛ وأشياء مما يحدث في الأزمنة
من الأمطار والرياح والحرّ والبرد ، وبها يهتدي السائرون في ظلمة اللّيل لقطع القفار (2)
____________________________
(1) في نسخة : ان كينونيتها .
(2) جمع القفر : الخلاء من الارض ، لا ماء فيه ولا ناس ولا كلاء .
الموحشة ، واللّجج الهائلة ، مع ما في تردّدها في كبد السماء (1) مقبلة ومدبرة ومشرقة
ومغربة من العبر فإنّها تسير أسرع السير وأحثّه .
أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منّا حتّى يتبيّن لنا سرعة سيرها
بكنه ما هي عليه ألم تكن ستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها ؟ (2) كالّذي يحدث أحياناً
من البروق إذا توالت واضطرمت في الجوّ ، وكذلك أيضاً لو أنّ اُناساً كانوا في قبّة
مكلّلة بمصابيح تدور حولهم دوراناً حثيثاً لحارت أبصارهم (3) حتّى يخرُّوا لوجوههم
فانظر كيف قدّر أن يكون مسيرها في البعد البعيد لكيلا تضرّ في الأبصار وتنكأ فيها ،
وبأسرع السرعة لكيلا تتخلّف عن مقدار الحاجه في مسيرها ، وجعل فيها جزء يسير من
الضوء ليسدّ مسدّ الأضواء إذا لم يكن قمر ، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة كما
قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي في جوف اللّيل ، وإن لم يكن شيء من
الضوء يهتدي به لم يستطع أن يبرح مكانه فتأمّل اللّطف والحكمة في هذا التقدير حين
جعل للظلمة دولة ومدّة لحاجة إليها ، وجعل خلالها شيء من الضوء للمآرب الّتي وصفنا .
فكّر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم تفي هذا الدوران
الدائم بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف اللّيل والنهار ، وهذه الأزمان الأربعة المتوالية
على الأرض ، وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة كالّذي بيّنت
وشخّصت (4) لك آنفاً ، وهل يخفى على ذي لبّ أنّ هذا تقدير مقدّر ، وصواب وحكمة
من مقدّر حكيم ؟ .
فإن قال قائل : إنّ هذا شيء اتّفق أن يكون هكذا فما منعه أن يقول مثل هذا
في دولاب تراه يدور ويسقي حديقة فيها شجر ونبات ؟ فترى كلّ شيء من آلته مقدّراً بعضه
يلقى بعضاً على ما فيه صلاح تلك الحديقة وما فيها وبمَ كان يثبت هذا القول لو قاله ؟ و
ما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه ؛ أفينكر أن يقول في دولاب خشب (5)
____________________________
(1) أي وسط السماء .
(2) أي ستذهب بها بتوقدها .
(3)حارت العين : اشتد بياض بياضها وسواد سوادها .
(4) وفي نسخة : كالذي بينت ولخصت لك آنفاً .
(5) وفي نسخة : في دولاب خسيس .
مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض : إنّه كان بلا صانع ومقدّر ، ويقدر أن
يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة يقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع
الأرض وما عليها : إنّه شيء اتّفق أن يكون بلا صنعة ولا تدبير ؛ لو اعتلّ هذا الفلك
كما تعتلُّ الآلات الّتي تتّخذ للصناعات وغيرها أيُّ شيء كان عند الناس من الحيلة في
إصلاحه ؟ .
بيان : قوله عليهالسلام : لا تفارق مراكزها لعلّ المراد أنّه ليس لها حركة بيّنة
ظاهرة كما في السيّارات ، أو لا تختلف نسب بعضها إلى بعض بالقرب والبعد بأن تكون
الجملة التالية مفسّرة لها ، ويحتمل أن يكون المراد بمراكزها البروج الّتي تنسب
إليها على ما هو المصطلح بين العرب من اعتبار محاذات تلك الأشكال في الانتقال إلى
البروج وإن انتقلت عن مواضعها ، وعليه ينبغي أن يحمل قوله عليهالسلام : وبعضها مطلقة
تنتقل في البروج ؛ أو على ما ذكرنا سابقاً من كون انتقالها في البروج ظاهرة بيّنة يعرفه
كلّ أحد ، والأوّل أظهر كما سيظهر من كلامه عليهالسلام قوله : فإنّ الإهمال معنى واحد
يحتمل أن يكون المراد أنّ الطبيعة أو الدهر الّذين يجعلونهما أصحاب الإهمال مؤثّرين
كلُّ منهما أمر واحد غير ذي شعور وإرادة ، ولا يمكن صدور الأمرين المختلفين عن مثل
ذلك كما مرَّ ؛ أو المراد أنّ العقل يحكم بأنّ مثل هذين الأمرين بالمتّسقين الجاريين
على قانون الحكمة لا يكون إلّا من حكيم راعى فيهما دقائق الحكم ؛ أو المراد أنّ الإهمال
أي عدم الحاجة إلى العلّة وترجيح الأمر الممكن من غير مرجّح كما تزعمون أمر واحد حاصل
فيهما ، فلمَ صارت إحديهما راتبة ؟ والاُخرى منتقلة ؟ ولمَ لم يعكس الأمر ؟ والأوّل
أظهر (1) كما لا يخفى . قوله عليهالسلام : لبطلت الدلالات ظاهره كون الأوضاع النجوميّة
علامات للحوادث . قوله عليهالسلام : في البروج الراتبة يدلّ ظاهراً على ما أشرنا إليه من
أنّه عليهالسلام راعى في انتقال البروج محاذات نفس الأشكال ، وإن أمكن أن يكون المراد
بيان حِكمة بطؤ الحركة ليصلح كون تلك الأشكال علامات للبروج ولو بقربها منها
لكنّه بعيد . قوله عليهالسلام : والشِعريين قال الجوهريّ : الشِعرى : الكوكب الّذي يطلع
____________________________
(1) وظاهر الخبر المعنى الاخير.
بعد الجوزاء وطلوعه في شدّة الحرّ وهما الشِعريان والشِعرى العبور الّتي في الجوزاء ،
والشِعرى : القميصاء الّتي في الذراع تزعم العرب أنّهما اُختا سهيل . انتهى . والقفار جمع
قفر ، وهو الخلأ من الأرض . وخطف البرق البصر : ذهب به . ووهج النار بالتسكين ـ :
توقّدها . وقوله : حثيثاً أي مسرعاً . وتجافى أي لم يلزم مكانه . وبرح مكانه : زال عنه .
فكّر يا مفضّل في مقادير النهار واللّيل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق
فصار منتهى كلّ واحد منهما إذا امتدّ إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك ، أفرأيت
لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة ألم يكن في ذلك بوار (1) كلّ
ما في الأرض من حيوان ونبات ؟ .
أمّا الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقرّ طول هذه المدّة ، ولا البهائم كانت تمسك عن
الرعي لو دام لها ضوء النهار ، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة ، وكان ذلك
سيهلكها أجمع ويؤدّيها إلى التلف ؛ وأمّا النبات فكان يطول عليه حرّ النهار ووهج
الشمس حتّى يجفّ ويحترق ، وكذلك اللّيل لو امتدّ مقدار هذه المدّة كان يعوّق أصناف
الحيوان عن الحركة والتصرّف في طلب المعاش حتّى تموت جوعاً ، وتخمد الحرارة
الطبيعيّة من النبات حتّى يعفن ويفسد ، كالّذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع
لا تطلع عليه الشمس .
اعتبر بهذه الحرّ والبرد كيف يتعاوران العالم ويتصرّفان هذا التصرّف من الزيادة
والنقصان والاعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيهما من المصالح ثمَّ هما
بعد دباغ الأبدان الّتي عليها بقاؤها وفيها صلاحها فإنّه لولا الحرّ والبرد وتداولهما
الأبدان لفسدت وأخوت وانتكثت .
فكّر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسّل فإنّك ترى أحدهما
ينقص شيئاً بعد شيء ، والآخر يزيد مثل ذلك حتّى ينتهي كلّ واحد منهما منتهاه في
الزيادة والنقصان ، ولو كان دخول إحديهما على الاُخرى مفاجاة لأضرّ ذلك بالأبدان
وأسقهما كما أنّ أحدكم لو خرج من حمّام حارّ إلى موضع البرودة لضرّه ذلك وأسقم
____________________________
(1) البوار : الهلاك والكساد .
بدنه فلمَ جعل الله عزَّوجلَّ هذا الترسّل في الحرّ والبرد إلّا للسلامة من ضرر المفاجاة ؟
ولمَ جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرّ المفاجاة لولا التدبير في ذلك ؟ فإن زعم
زاعم أنَّ هذا الترسّل في دخول الحرّ والبرد إنّما يكون لإبطاء مسير الشمس في الارتفاع
والانحطاط سئل عن العلّة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها ؛ فإن اعتلّ في
الإبطاء ببعد ما بين المشرقين سئل عن العلّة في ذلك فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى
حيث رقى من هذا القول حتّى استقرّ على العمد والتدبير ؛ لولا الحرّ لما كانت الثمار
الجاسية المرّة تنضج فتلين وتعذب حتى يتفكّه بها رطبة ويابسة ، ولولا البرد لما كان
الزرع يفرخ هكذا ، ويريع الريع الكثير الّذي يتّسع للقوت وما يرد في الأرض للبذر
أفلا ترى ما في الحرّ والبرد من عظيم الغناء والمنفعة وكلاهما مع غنائه والمنفعة فيه يولم
الأبدان ويمضّها ، وفي ذلك عبرة لمن فكّر ، ودلالة على أنّه من تدبير الحكيم في مصلحة
العالم وما فيه .
بيان : قوله عليهالسلام : لا يجاوز ذلك أي في معظم المعمورة . وقال الفيروزآباديّ :
خوت الدار : تهدّمت ، والنجوم خيّاً : أمحلت فلم تمطر كأخوت . وقال : المنتكث :
المهزول . وقال : الترسّل : الرفق والتؤدة . انتهى . قوله عليهالسلام : ببعد ما بين المشرقين
أي المشرق والمغرب ، كناية عن عظم الدائرة الّتي يقطع عليها البروج أو مشرق الصيف
والشتاء ، والأوّل أظهر . قوله عليهالسلام : الجاسية أي الصلبة . ويتفكّه بها أي يتمتّع بها . والريع :
النماء والزيادة . وقال الجوهريّ : أمضّني الجرح إمضاضاً : إذا أوجعك ، وفيه لغة اُخرى :
مضّني الجرح ؛ ولم يعرفها الأصمعيّ .
واُنبّهك يا مفضّل على الريح وما فيها ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث
الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس ، ويحرّض الأصحّاء وينهك المرضى ، ويفسد
الثمار ، ويعفّن البقول ، ويعقّب الوباء في الأبدان ، والآفة في الغلّات ؟ ففي هذا بيان أنّ
هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق .
واُنبّئك عن الهواء بخلّة اُخرى فإنَّ الصوت أثر يؤثّره اصطكاك الأجسام في
الهواء ، والهواء يؤدّيه إلى المسامع ، والناس يتكلّمون في حوائجهم ومعاملاتهم طول
نهارهم وبعض ليلهم ، فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس
لامتلأ العالم منه ، فكان يكربهم ويفدحهم ، وكانوا يحتاجوا في تجديده والاستبدال به
إلى أكثر ممّا يحتاج إليه في تجديد القراطيس لأنَّ ما يلقى من الكلام أكثر ممّا يكتب
فجعل الخلّاق الحكيم جلَّ قدسه هذا الهواء قرطاساً خفيّاً يحمل الكلام ريثما يبلغ
العالم حاجتهم ثمَّ يمحى فيعود جديداً نقيّاً ، ويحمل ما حمل أبداً بلا انقطاع ، وحسبك
بهذا النسيم المسمّى « هواء » عبرة وما فيه من المصالح فإنّه حياة هذا الأبدان والممسك
لها من داخل بما تستنشق منه ، ومن خارج بما تباشر من روحه ، وفيه تطّرد هذه
الأصوات فيؤدّي بها من البعد البعيد ، وهو الحامل لهذه الأراييح ينقلها من موضع إلى
موضع .
ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهبّ الريح فكذلك الصوت ؛ وهو القابل
لهذا الحرّ والبرد اللّذين يتعاقبان على العالم لصلاحه ، (1) ومنه هذه الريح الهابّة فالريح
تروح عن الأجسام وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعمّ نفعه حتّى يستكثف
فيمطر ، وتفضّه حتّى يستخفّ فيتفشّي ، وتلقح الشجر ، وتسير السفن ، وترخي الأطعمة (2)
وتبرِّد الماء ، وتشبّ النار ، وتجفّف الأشياء النديّة ، وبالجملة أنّها تحيي كلّما في
الأرض فلولا الريح لذوى النبات (3) ومات الحيوان وحمّت الأشياء وفسدت .
توضيح : ركود الريح : سكونها . والحرض : فساد البدن . ويقال : نهكته الحمّى
أي أضنّته وهزلته . وقوله عليهالسلام : والهواء يؤدّيه يدلّ على ما هو المنصور من تكيّف الهواء
بكيفيّة الصوت على ما فصّل في محلّه . ويقال : كربه الأمر أي شقّ عليه وفدحه الدَين
أي أثقله . وريثما فعل كذا أي قدر ما فعله . ويبلغ إمّا على بناء المجرّد فالعالم فاعله
أو على التفعيل فالهواء فاعله . والرَّوح بالفتح : الراحة ونسيم الريح . واطّرد الشيء :
تبع بعضه بعضاً وجرى . والأراييح جمع للريح . وتزجي السحاب ـ على بناء الإفعال ـ
____________________________
(1) وفي نسخة اللذين : يعقبان على العالم لصلاحه .
(2) أي صيرها رخواً أي متسما .
(3)ذوى النبات : ذبل ونشف ماؤه .
أي تسوقه . وتفضّه أي تفرّقه . والتفشّي : الانتشار . وترخي الأطعمة ـ على التفعيل
أو الإفعال أي تصيرها رخوة لطيفة . وتشبَّ النار أي توقّدها .
فكّر يا مفضّل فيما خلق الله عزَّوجلَّ عليه هذه الجواهر الأربعة ليتّسع ما يحتاج
إليه منها ، فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها فلولا ذلك كيف كانت تتّسع لمساكن
الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم ، والعقاقير العظيمة ، والمعادن
الجسيمة غناؤها ، ولعلّ من ينكر هذه الفلوات الخاوية والقفار الموحشة فيقول : ما
المنفعة فيها ؟ فهي مأوى هذه الوحوش ومحالّها ومرعاها ثمَّ فيها بعد متنفّس ومضطرب
للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم ؛ فكم بيداءٍ وكم فدفد حالت قصوراً وجناناً
بانتقال الناس إليها وحلولهم فيها ، ولولا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في
حصار ضيّق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا حزبه أمر يضطرّه إلى الانتقال عنه .
ثمَّ فكّر في خلق هذه الارض على ما هي عليه حين خلقت راتبة فتكون موطناً
مستقرّاً للأشياء فيتمكّن الناس من السعي عليها في مآربهم ، والجلوس عليها لراحتهم ،
والنوم لهدئهم ، والإتقان لأعمالهم فإنّها لو كانت رجراجة متكفّئة لم يكونوا
يستطيعون أن يتقنوا البناء والتجارة والصناعة وما أشبه ذلك ، بل كانوا لا يتهنّؤون
بالعيش والأرض ترتجّ من تحتهم ؛ واعتر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلّة
مكثها حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها .
فإن قال قائل : فلم صارت هذه الأرض تزلزل ؟ قيل له : إنّ الزلزلة وما أشبهها
موعظة وترهيب يرهّب بها الناس ليرعووا وينزعوا عن المعاصي ، وكذلك ما ينزل بهم من
البلاء في أبدانهم وأموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم ، ويدّخر لهم
إن صلحوا من الثواب والعوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من اُمور الدنيا ، وربّما عجّل
ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحاً للخاصّة والعامّة .
ثمَّ إنَّ الأرض في طباعها الّذي طبعها الله عليه باردة يابسة وكذلك الحجارة و
إنّما الفرق بينها وبين الحجارة فضل يبس في الحجارة ، أفرأيت لو أنّ اليبس أفرط على
الأرض قليلاً حتّى تكون حجراً صلداً أكانت تنبت هذا النبات الّذي به حياة الحيوان ؟
وكان يمكن بها حرث أو بناء ؟ أفلا ترى كيف تنصب (1) من يبس الحجارة وجعلت على
ما هي عليه من اللّين والرخاوة ولتهيّأ للاعتماد ؟ .
ومن تدبير الحكيم جلّ وعلا في خلقة الأرض أنّ مهبّ الشمال أرفع من مهبّ
الجنوب فلمَ جعل الله عزَّوجلَّ كذلك إلّا لينحدر المياه على وجه الأرض فتسقيها و
ترويها ؟ ثمَّ تفيض آخر ذلك إلى البحر فكأنّما يرفع أحد جانبي السطح (2) ويخفض
الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه كذلك جعل مهبّ الشمال أرفع من مهبّ الجنوب
لهذه العلّة بعينها ، ولولا ذلك لبقي الماء متحيّراً على وجه الأرض فكان يمنع الناس من
إعمالها (3) ويقطع الطرق والمسالك ؛ ثمَّ الماء لولا كثرته وتدفّقه في العيون والأودية و
الأنهار لضاق عمّا يحتاج الناس إليه لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم ، وسقي زروعهم
وأشجارهم وأصناف غلّاتهم ، وشرب ما يرده من الوحوش والطير والسباع وتتقلّب فيه
الحيتان ودوابّ الماء ؛ وفيه منافع آخر أنت بها عارف وعن عظم موقعه غافل فإنّه سوى
الأمر الجليل المعروف من غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان والنبات يمزج
بالأشربة فتلين وتطيب لشاربها ، وبه تنظف الأبدان والأمتعة من الدرن الّذي يغشاها ،
وبه يبلُّ التراب فيصلح للاعتمال (4) وبه يكفّ عادية النار إذا اضطرمت وأشرف الناس
على المكروه ، وبه يسيغ الغصّان ما غصّ به ، وبه يستحمّ المتعب الكالّ فيجد الراحة
من أوصابه ، إلى أشباه هذا من المآرب الّتي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها .
فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار وقلت : ما الإرب فيه ؟
فاعلم أنّه مكتنف ومضطرب ما لا يحصى : من أصناف السمك ودوابّ البحر ، ومعدن
اللؤلؤ والياقوت والعنبر ، وأصناف شتّى تستخرج من البحر ، وفي سواحله منابت العود
واليلنجوج ، وضروب من الطيب والعقاقير ؛ ثمَّ هو بعدُ مركب الناس ومحملٌ لهذه التجارات
الّتي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق ، ومن العراق
____________________________
(1) وفي نسخة : نقصت .
(2)كذا في النسخ والظاهر : فكما يرفع أحد جانبي السطح .
(3) وفي نسخة : فكان يمنع الناس من اعتمالها .
(4) وفي نسخة : فيصلح للاعمال .
إلى العراق (1) فإنّ هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلّا على الظهر لبارت (2) وبقيت في
بلدانها وأيدي أهلها لأنّ أجر حملها كان يجاوز أثمانها فلا يتعرّض أحد لحملها ، وكان
يجتمع في ذلك أمران : أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها ، والآخر انقطاع معاش
من يحملها ويتعيّش بفضلها ؛ وهكذا الهواء لولا كثرته وسعته لاختنق (3) هذا الأنام
من الدخان والبخار الّتي يتحيّر فيه ، ويعجز عمّا يحوّل إلى السحاب والضباب أوّلاً
أوّلاً وقد تقدّم من صفته ما فيه كفاية .
والنار أيضاً كذلك فإنّها لو كانت مبثوثة كالنسيم والماء كانت تحرق العالم وما فيه ،
ولم يكن بدّ من ظهورها في الأحايين لغنائها في كثير من المصالح فجعلت كالمخزونة
في الأخشاب ، (4) تلتمس عند الحاجة إليها ، وتمسك بالمادّة والحطب ما احتيج إلى
بقائها لئلّا تخبو ، (5) فلا هي تمسك بالمادّة والحطب فتعظم المؤونة في ذلك ، ولا هي تظهر
مبثوثة فتحرق كلّ ما هي فيه بل هي على تهيئة وتقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعهم
والسلامة من ضررها . ثمّ فيه خلّة اُخرى وهي أنّها مما خصّ به الإنسان دون جميع
الحيوان لما له فيها من المصلحة فإنّه لو فقد النار لَعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه
فأمّا البهائم فلا تستعمل النار ولا تستمتع بها ، ولما قدّر الله عزَّوجلَّ أن يكون هذا
هكذا خلق للإنسان كفّاً وأصابع مهيّأة لقدح النار واستعمالها ، ولم يعط البهائم مثل
ذلك لكنّها اُعينت بالصبر على الجفاء والخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال
الإنسان .
واُنبّئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها ، وهي هذا المصباح الّذي
يتّخذه الناس فيقضون به حوائجهم ما شاؤوا من ليلهم ، ولولا هذه الخلّة لكان الناس
تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور ؛ فمن كان يستطيع أن يكتب أو يحفظ أو ينسج
____________________________
(1) وفي نسخة : الى الصين .
(2) بَارت أي كسدت .
(3)خنق : شدّ على حلقه حتى يموت . واختنق مطاوع خنق .
(4) وفي نسخة في الاجسام .
(5) أي لئلا تخمد وتطفأ .
في ظلمة اللّيل ؟ وكيف كانت حال من عرض له وجعٌ في وقت من أوقات اللّيل فاحتاج
أن يعالج ضماداً ، أو سفوفاً أو شيئاً يستشفي به ؟ (1) فأمّا منافعها في نضج الأطعمة ودفاء
الأبدان وتجفيف أشياء وتحليل أشياء وأشباه ذلك فأكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى .
تبيان : العقاقير : اُصول الأدوية . والغناء بالفتح : المنفعة . والخاوية : الخالية .
والفدفد : الفلاة ، والمكان الصلب الغليظ والمرتفع ، والأرض المستوية . والفسحة
بالضمّ : السعة . ويقال : لي عن هذا الأمر مندوحة ومنتدح أي سعة . وحزبه أمرٌ أي
أصابه . والراتبة . الثابتة . والراكنة : الساكنة . وهدأ هدءاً وهدوءاً : سكن . وقوله عليهالسلام :
رجراجة أي متزلزلة متحرّكة . والتكفّىء : الانقلاب والتمايل والتحرّك . والارتجاج
الاضطراب . والإرعواء : الرجوع عن الجهل والكفّ عن القبيح والصَلد ـ ويكسر ـ :
الصلب الأملس . قوله عليهالسلام : كيف تنصب كذا في أكثر النسخ ، والنصب يكون بمعنى
الرفع والوضع ، ولعلّ المراد هنا الثاني ، والظاهر أنّه تصحيف نقصت أو نحوه . قوله عليهالسلام :
إنّ مهبّ الشمال أرفع أي بعد ما خرجت الأرض من الكرويّة الحقيقيّة صار ما يلي الشمل
منها في أكثر المعمورة أرفع ممّا يلي الجنوب ، ولذا ترى أكثر الأنهار كدجلة والفرات
وغيرهما تجري من الشمال إلى الجنوب ، ولمّا كان الماء الساكن في جوف الأرض تابعاً للارض
في ارتفاعه وانخفاضه فلذا صارت العيون المتفجّرة تجري هكذا من الشمال إلى الجنوب
حتّى تجري على وجه الأرض ؛ ولذا حكموا بفوقيّة الشمال على الجنوب في حكم اجتماع
البئر والبالوعة ، وإذا تأمّلت فيما ذكرنا يظهر لك ما بيّنه عليهالسلام من الحِكم في ذلك ،
وأنّه لا ينافي كرويّة الأرض . والتدفّق : التصبّب . قوله عليهالسلام : فإنّه سوى الأمر الجليل
الضمير راجع إلى الماء وهو إسم إنَّ ويمزج خبره أي للماء سوى النفع الجليل المعروف
ـ وهو كونه سبباً لحياة كلّ شيء ـ منافع اُخرى ؛ منها : أنّه يمزج مع الأشربة . وقال
الجوهريّ : الحميم : الماء الحارّ ، وقد استحممت إذا اغتسلت به ؛ ثمَّ صار كلّ اغتسال
____________________________
(1) الضماد بالكسر أن يخلط الادوية بمائع ويلين ويوضع على العضو ، وأصل الضمد الشد
من باب ضرب ، يقال : ضمد رأسه وجرحه : إذا شده بالضماد ، وهي خرقة يشد بها العضو المؤوف
ثم قيل لوضع الدواء على الجرح وغيره وان لم يشد . والسفوف بفتح السين : الادوية المسحوقة
اليابسة التي تطرح في الضماد .
استحماماً بأيّ ماء كان . انتهى . والوصب محرّكة : المرض . والمكتنف بفتح النون
من الكنف بمعنى الحفظ والإحاطة ، واكتنفه أي أحاط به ، ويظهر منه أنّ نوعاً من
الياقوت يتكوّن في البحر ، وقيل : اُطلق على المرجان مجازاً ، ويحتمل أن يكون المراد
ما يستخرج منه بالغوص وإن لم يتكوّن فيه . واليلنجوج : عود البخور . ومن العراق
أي البصرة . وإلى العراق أي الكوفة أو بالعكس . قوله عليهالسلام : ويعجز أي لولا كثرة الهواء
لعجز الهواء عمّا يستحيل الهواء إليه من السحاب والضباب الّتي تتكوّن من الهواء . أوَّلاً
أوَّلاً أي تدريجاً أي كان الهواء لا يفي بذلك أو لا يتّسع لذلك . الضباب بالفتح : ندى كالغيم
أو سحاب رقيق كالدخان . والأحايين جمع أحيان ، وهو جمع حين بمعنى الدهر والزمان
قوله عليهالسلام : فلا هي تمسك بالمادّة والحطب أي دائماً بحيث إذا انطفأت لم يمكن إعادتها .
والمادّة : الزيادة المتّصلة ، والمراد هنا الدهن ومثله . ودفاء الأبدان بالكسر : دفع
البرد عنها .
فكّر يا مفضّل في الصحو (1) والمطر كيف يعتقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه ،
ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول
والخضر ، واسترخت أبدان الحيوان ، وخصر الهواء فأحدث ضروباً من الأمراض ،
وفسدت الطرق والمسالك ، وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض ، واحترق النبات ، وغيض
ماء العيون والأودية فأضرّ ذلك بالناس ، وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروباً اُخرى
من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع كلّ واحد منهما
عادية الآخر (2) فصلحت الأشياء واستقامت .
فإن قال قائل : ولمَ لا يكون في شيء من ذلك مضرّة ألبتّة ؟ قيل له : ليمضَّ
ذلك الإنسان (3) ويولمه بعض الألم فيرعوي عن المعاصي ، فكما أنّ الإنسان إذا سقم بدنه
احتاج إلى الأدوية المرّة البشعة ليقوم طباعه ويصح ما فسد منه كذلك إذا طغى وأشَر
____________________________
(1) صحا يصحو صحواً وصحى يصحى صحاً اليوم : صفا ولم يكن فيه غيم .
(2) أي ضرر الاخر .
(3) وفي نسخة : يمضّ ذلك الانسان .
احتاج إلى ما يعضّه ويولمه ليرعوي ويقصر عن مساويه ويثبته على ما فيه حظّه ورشده ،
ولو أنّ ملكاً من الملوك قسّم في أهل مملكته قناطير من ذهب وفضّة ألم يكن سيعظم
عندهم ويذهب له به الصوت ؟ فأين هذا من مطرة رواء ؟ (1) إذ يعمر به البلاد ويزيد في
الغلّات أكثر من قناطير الذهب والفضّة في أقاليم الأرض كلّها .
أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها
ساهون ! وربّما عاقت عن أحدهم حاجة لاقدر لها فيذمر (2) ويسخط إيثاراً للخسيس قدره
على العظيم نفعه جهلاً بمحمود العاقبة وقلّة معرفة لعظيم الغناء والمنفعة فيها . تأمّل نزوله
على الأرض والتدبير في ذلك ، فإنّه جعل ينحدر عليها من علوّ ليتفشّي ما غلظ وارتفع
منها فيروّيه ، ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها و
يقلّ ما يزرع في الأرض .
ألا ترى أنّ الّذي يزرع سيحاً (3) أقلّ من ذلك فالأمطار هي الّتي تطبق الأرض ؛
وربّما تزرع هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها (4) فتغل الغلّة الكثيرة ، (5)
وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونة سياق الماء من موضع إلى موضع ، وما
يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتّى يستأثر بالماء ذووا العزّة والقوّة ويحرمه
الضعفاء .
ثمَّ إنّه حين قدّر أن ينحدر على الأرض انحداراً جعل ذلك قطراً شبيهاً بالرشّ
ليغور في قطر الأرض فيرويها ، ولو كان يسكبه انسكاباً كان ينزل على وجه الأرض فلا
يغور فيها ثمَّ كان يحطم الزرع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولاً رقيقاً (6) فينبت
الحبّ المزروع ، ويحيي الأرض والزرع القائم ، وفي نزوله أيضاً مصالح اُخرى فإنّه
يليّن الأبدان ، ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ، ويغسل ما يسقط على
____________________________
(1) على زنة « حياء » : الماء الكثير المشبع .
(2) في بعض النسخ « يتذمر ويسخط إيثاراً للخسيس قدره على العظيم نفعه جميلا محمود العاقبة
وقلة معرفته لعظيم الغناء والمنفعة فيها ».
(3)السيح : الماء الجاري على وجه الارض .
(4)سفح الجبل : أصله وأسفله . عرضه ومضطجعه الذي ينصب الماء . وذرو الجبل : أعلاه .
(5) وفي نسخة : فتقل الغلة الكثيرة .
(6) وفي نسخة : فصار ينزل نزولا رفيقا .
الشجر والزرع من الداء المسمّى باليرقان ، (1) إلى اشباه هذا من المنافع .
فإن قال قائل : أوليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدّة
ما يقع منه أو برد يكون فيه تحطّم الغلّات وبخورة يحدثها في الهواء فيولّد كثيراً من
الأمراض في الأبدان والآفات في الغلّات ؟ قيل : بلى قد يكون ذلك الفرط لمّا فيه من
صلاح الإنسان وكفّه عن ركوب المعاصي والتمادي فيها فيكون المنفعة فيما يصلح له
من دينه أرجح ممّا عسى أن يرزأ في ماله .
بيان : يعتقبان أي يأتي كلٌّ منهما عقيب صاحبه . وخصر الهواء بكسر الصاد المهملة ،
يقال : خصر يومنا أي اشتدّ برده ، وماء خاصر : بارد ، وفي أكثر النسخ بالحاء المهملة و
السين من حسر أي كلّ ، وهو لا يستقيم إلّا بتكلّف وتجوّز ، وفي بعضها بالخاء المعجة
والثاء المثلّثة من قولهم : خثر اللّبن خثراً إذا غلظ . والبشع : الكرية الطعم الّذي يأخذ
بالحلق . والقنطار : معيار ، ويروى أنّه ألف ومائتا أوقية ، ويقال : هو مائة وعشرون
رطلاً ، ويقال : هو ملء مسك الثور ذهباً . قوله عليهالسلام : ويذهب له به الصوت ، أي يملأ
صيت كرمه جوده الآفاق . والذمر : الملامة والتهدّد . قوله : ليتفشّي التفشّي :
الاتّساع ، والأظهر « ليغشي » بالغين المعجمة كما في بعض النسخ . والحطم : الكسر .
والاندفاق : الانصباب . واليرقان : آفة للزرع . وقوله : ممّا عسى أن يرزأ من الرزء :
المصيبة .
انظر يا مفضّل إلى هذه الجبال المركومة (2) من الطين والحجارة الّتي يحسبها
الغافلون فضلاً لا حاجة إليها ، والمنافع فيها كثيرة : فمن ذلك أن يسقط عليها الثلوج فيبقى
في قلاها لمن يحتاج إليه ، ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة الّتي تجتمع
منها الأنهار العظام ، وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير الّتي لا ينبت مثلها في
السهل ، ويكون فيها كهوف ومقايل للوحوش من السباع العادية ويتّخذ منها الحصون
____________________________
(1) اليرقان : آفة للزرع أو دود يسطو على الزرع .
(2) المركومة : المجتمعة من الطين والحجارة بعضها فوق بعض .
والقلاع المنيعة للتحرّز من الأعداء ، وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء ، (1) ويوجد
فيها معادن لضروب من الجواهر ، وفيها خلال اُخرى لا يعرفها إلا المقدّر لها في سابق
علمه .
تفسير : المقايل في بعض النسخ بالقاف ، وكأنّه من القيلولة ، وفي بعضها بالغين ،
ولعلّه من الغيل : الشجر الملتفّ . وفي بعض كتب اللّغة : المغالة : العُشّ . وفي بعض النسخ
معاقل جمع المعقل وهو الملجأ .
فكّر يا مفضّل في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجصّ و
الكلس والجبس (2) والزرانيخ ، والمرتك ، والقونيا (3) والزيبق ، والنحاس ، والرصاص ،
والفضّة ، والذهب ، والزبرجد ، والياقوت ، والزمرّد ، وضروب الحجارة ، وكذلك
ما يخرج منها من القار ، والموميا ، والكبريت ، والنفط ، وغير ذلك ممّا يستعمله الناس
في مآربهم ، فهل يخفى على ذي عقل أنّ هذه كلّها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض
ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ؟ ثمَّ قصرت حيلة الناس عمّا حاولوا من صنعتها
على حرصهم واجتهادهم في ذلك فإنّهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة
سيظهر ويستفيض في العالم حتّى تكثر الذهب والفضّة ويسقطا عند الناس فلا يكون
لهما قيمة ويبطل الانتفاع بهما في الشرى والبيع والمعاملات ، ولا كان يجيىء السلطان
الأموال ، ولا يدّخرهما أحد للأعقاب ، وقد اُعطي الناس مع هذا صنعة الشبه من النحاس
والزجاج من الرمل ، والفضّة من الرصاص ، والذهب من الفضّة ، وأشباه ذلك ممّا لا
مضرّة فيه .
فانظر كيف اُعطوا إرادتهم فيما لا ضرر فيه ، ومنعوا ذلك فيما كان ضارّاً لهم
لو نالوه ؛ ومن أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتاً بماء غزير ، لا يدرك
غوره ولا حيلة في عبوره ومن ورائه أمثال الجبال من الفضّة .
تفكّر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم فإنّه أراد جلّ ثناؤه أن يرى العباد
____________________________
(1) أي الطواحين .
(2) أي حجر الجصّ .
(3) في نسخة : القونبا . وفي اخرى : التوتيا .
ـ 8 ـ بحار الأنوار
قدرته وسعة خزائنه ، ليعلموا أنّه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضّة لفعل ، لكن لاصلاح
لهم في ذلك ، لأنّه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس وقلّة
انتفاعهم به ؛ واعتبر ذلك بأنّه قد يظهر الشيء الطريف ممّا يحدثة الناس من الأواني و
الأمتعة فما دام عزيزاً قليلاً فهو نفيس جليل آخذ الثمن فإذا فشا وكثر في أيدي الناس
سقط عندهم وخسّت قيمته ؛ ونفاسة الأشياء من عزّتها .
بيان : الكلس بالكسر : الصاروج . والجبس بالكسر الجصّ . وفي أكثر النسخ
الجبسين ولم أجده فيما عندنا من كتب اللّغة لكن في كتب الطبّ كما في أكثر النسخ .
والمرتك كمقعد : المرداسنج . والقونيا بالباء الموحّدة أو الياء المثنّاة من تحت ، ولم
أجدهما في كتب اللّغة ، لكن في القاموس : القونة : القطعة من الحديد أو الصفر يرقّع
بها الإناء ؛ وفي بعض النسخ : والتوتيا ، وفي كتب اللّغة أنّه حجر يكتحل به . (1) والقار :
القير . وجبى الخراج جباية : جمعه . والإيغال : المبالغة في الدخول والذهاب . وانصلت :
مضى وسبق .
فكّر يا مفضّل : في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب ، فالثمار للغذاء ، و
الأتبان للعلف ، والحطب للوقود ، والخشب لكلّ شيء من أنواع النجارة وغيرها ، و
اللّحاء والورق والاُصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع . أرأيت لو كنّا نجد
الثمار الّتي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه الأغصان
الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا وإن كان الغذاء موجوداً فإنّ المنافع
بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عدّدناه كثيرة ، عظيم قدرها ، جليل موقعها ؛ هذا
مع ما في النبات من التلذّذ بحسن منظره ونضارته الّتي لا يعدلها شيء من مناظر العالم
وملاهيه .
بيان : لحاء الشجرة بالكسر : قشرها .
فكّر يا مفضّل : في هذا الريع الّذي جعل في الزرع فصارت الحبّة الواحدة تخلف
____________________________
(1) نقل في كتب الطب عن الشيخ أنه قال : أصل التوتيا دخان يرتفع حيث يخلص النحاس من
الحجارة التي تخالطه والانك الذي يخالطه ، وربما صعد الاقليميا فكان مصعده توتيا جيداً ورسوبه
قليميا .
مائة حبّة وأكثر وأقلّ ، وكان يجوز أن يكون الحبّة تأتي بمثلها فلمَ صارت تريع هذا
الريع إلّا ليكون في الغلّة متّسع لما يرد في الأرض من البذر ، وما يتقوّت الزرّاع إلى
إدراك زرعها المستقبل ؟ .
ألا ترى أنّ الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله
ما يبذرونه في أرضهم ، وما يقوتهم إلى إدراك زرعهم فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدّم
في تدبير الحكيم فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة ، و
كذلك الشجر والنبت والنخل يريع الريع الكثير فإنّك ترى الأصل الواحد حوله من
فراخه أمراً عظيماً ، فلمَ كان كذلك إلّا ليكون فيه ما يقطعه الناس ويستعملونه في مآربهم
وما يرد فيغرس في الأرض ؟ ولو كان الأصل منه يبقى منفرداً لا يفرخ ولا يريع لما أمكن
أن يقطع منه شيء لعمل ولا لغرس ، ثمَّ كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه
خلف .
تأمّل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلا وما أشبه ذلك فإنّها تخرج
في أوعية مثل الخرائط لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشدّ وتستحكم كما قد تكون
المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه ؛ فأمّا البُرّ وماأشبهه فإنّه يخرج مدرَّجاً في قشور
صلاب على رؤوسها مثال الأسنّة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفّر على الزرّاع .
فإن قال قائل : أوليس قد ينال الطير من البرّ والحبوب ؟ قيل له : بلى على هذا قدّر
الأمر فيها لأنّ الطير خلق من خلق الله وقد جعل الله تبارك وتعالى له فيما تخرج الأرض
حظّاً ، ولكن حضنت الحبوب بهذه الحجب لئلّا يتمكّن الطير منها كلّ التمكّن فيعبث
فيها ويفسد الفساد الفاحش فإنّ الطير لو صادف الحبّ بارزاً ليس عليه شيء يحول دونه
لأكبّ عليه حتّى ينسفه أصلاً فكان يعرض من ذلك أن يبشم الطير فيموت ، ويخرج
الزرّاع من زرعه صفراً فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطائر منه شيئاً يسيراً
يتقوّت به ، ويبقى أكثره للإنسان فإنّه أولى به إذ كان هو الّذي كدح فيه وشقي به ،
وكان الّذي يحتاج إليه أكثر ممّا يحتاج إليه الطير .
تأمّل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فإنّها لمّا كانت تحتاج إلى الغذاء
الدائم كحاجة الحيوان ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول
الغذاء جعلت اُصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤدّيه إلى الأغصان وما
عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالاُمّ المربّية لها ، وصارت اُصولها الّتي هي
كالأفواه ملتقمة للأرض (1) لتنزع منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان اُمّهاتها .
ألا ترى إلى عمد الفساطيط والخيم كيف تمدّ بالأطناب من كلّ جانب لتثبت منتصبة
فلا تسقط ولا تميل فهكذا تجد النبات كلّه له عروق منتشرة في الأرض ممتدّة إلى كلّ
جانب لتمسكه وتقيمه ، ولولا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام
في الريح العاصف ، فانظر إلى حكمة الخلقة كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة
الّتي تستعملها الصنّاع في ثبات الفساطيط والخيم متقدّمة في خلق الشجر لأنّ خلق
الشجر قبل صنعة الفساطيط والخيم ألا ترى عمدها وعيدانها من الشجر ؟ فالصناعة مأخوذة
من الخلقة .
بيان : ينسفه بالكسر أي يقلعه . وبشم الحيوان بشماً من باب تعب : اتّخم من
كثرة الأكل . والكدح : العمل والسعي . والشقا : الشدّة والعسر شقى كرضى . والدوح
بفتح الدال وسكون الواو جمع الدوحة ، وهي الشجرة العظيمة .
تأمّل يا مفضّل خلق الورق فإنّك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع فمنها
غلاظ ممتدّة في طولها وعرضها ، ومنها دقاق تتخلّل الغلاظ منسوجة نسجاً دقيقاً معجماً
لو كان ممّا يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عام كامل ،
ولاُحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام فصار يأتي منه في أيّام قلائل من الربيع ما
يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلّها بلا حركة ولا كلام إلّا بالإرادة النافذة في كلّ
شيء والأمر المطاع .
واعرف مع ذلك العلّة في تلك العروق الدقاق فإنّها جعلت تتخلّل الورقة
بأسرها لتسقيها وتوصل الماء إليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى
كلّ جزء منها وفي الغلاظ منها معنىً آخر فإنّها تمسك الورقة بصلابتها ومتانتها لئلّا
____________________________
(1) التقم الطعام : ابتلعه أوفى مهلة .
تنهتك وتتمزّق فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان
ممدودة في طولها وعرضها للتتماسك فلا تضطرب فالصناعة تحكي الخلقة وإن كانت لا
تدركها على الحقيقة.
فكّر في هذا العجم والنوى والعلّة فيه فإنّه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن
عاق دون الغرس عائق ، كمايحرز الشيء النفيس الّذي تعظم الحاجة إليه في مواضع
آخر ، فإن حدث على الّذي في بعض المواضع منه حادث وُجد في موضع آخر ، ثمَّ
بعدُ يمسك بصلابته رخاوة الثمار ورقّتها ، ولولا ذلك لتشدّخت وتفسّخت وأسرع إليه
الفساد ، وبعضه يؤكل ويستخرج دهنه فيستعمل منه ضروب من المصالح ، وقد تبيّن
لك موضع الإرب في العجم والنوى .
فكّر الآن في هذا الّذي تجده فوق النواة من الرطبة وفوق العجم من العنبة فما
العلّة فيه ؟ ولماذا يخرج في هذه الهيئة ؟ وقد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس
فيه مأكلٌ كمثل ما يكون في السرو والدلب وما أشبه ذلك ، فلمَ صار يخرج فوقه هذه
المطاعم اللّذيذه إلّا ليستمتع بها الإنسان ؟ .
فكّر في ضروب من التدبير في الشجر فإنّك تراه يموت في كلّ سنة موته ، فيحتبس
الحرارة الغريزيّة في عوده ويتولّد فيه موادّ الثمار ثمّ تحيى وتنتشر فتأتيك بهذه الفواكه
نوعاً بعد نوع كما تقدّم إليك أنواع الأطبخة (1) الّتي تعالج بالأيدي واحداً بعد واحد ،
فترى الأغصان في الشجر تتلقّاك بثمارها حتّى كأنّها تناولكها عن يد وترى الرياحين
تلقّاك في أفنانها كأنّها تجيئك بأنفسها ، فلمن هذا التقدير إلّا لمقدّر حكيم ؟ وما العلّة
فيه إلّا تفكية الإنسان بهذه الثمار الأنوار ؟ (2) والعجب من اُناس جعلوا مكان الشكر
على النعمة جحود المنعم بها ! .
اعتبر بخلق الرمّانة وما ترى فيها من أثر العمد والتدبير فإنّك ترى فيها كأمثال
التلال من شحم مركوم في نواحيها ، وحبّاً مرصوفاً رصفاً كنحو ما ينضد بالأيدي (3)
____________________________
(1) وفي نسخة : كما تقدم إليك أنواع الاخبصة .
(2) وفي نسخة : تفكه الانسان بهذه الثمار والانوار .
(3) أي كنحو ما يضم بعضه إلى بعض متسقا بالايدي .
وترى الحبّ مقسوماً أقساماً ، وكلَّ قسم منها ملفوفاً بلفائف من حجب منسوجة أعجب
النسج وألطفه ، وقشره يضمّ ذلك كلّه ، فمن التدبير في هذه الصنعة أنّه لم يكن يجوز
أن يكون حشو الرمّانة من الحبّ وحده ، وذلك أنّ الحبّ لا يمدُّ بعضه بعضاً فجعل ذلك
الشحم خلال الحبّ ليمدّه بالغذاء ألا ترى أنّ اُصول الحبّ مركوزة في ذلك الشحم ؟
ثمّ لفّ بتلك اللّفائف لتضمّه وتمسكه فلا يضطرب ، وغشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة
ليصونه ويحصّنه من الآفات ، فهذا قليل من كثير وهي وصف الرمّانة وفيه أكثر
من هذا لمن أراد الإطناب والتذرُّع في الكلام ، ولكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة
والاعتبار .
بيان : قوله عليهالسلام : معجماً لعلّ المراد شدّة ارتباطها قال الفيروزآباديّ : باب
معجم كمكرم : مقفّل . انتهى . ويحتمل أن يكون كناية عن خفائها كقوله صلىاللهعليهوآله :
صلاة النهار عجماء . وقوله عليهالسلام : إن عاق دون الغرس أي غرس الأغصان عائق تغرس
النوى بدلها . والشدخ : الكسر والغمز ، والمشدخ هو بسر يغمز وييبس للشتاء . والدلب
بالضمّ : الصنار (1) قوله عليهالسلام : فيحتبس الحرارة الغريزيّة يدلُّ على أنّ الحرارة
الغريزيّة لا يختصّ بالحيوان ، بل يوجد في النبات أيضاً كما صرّح به جماعة من المحقّقين .
ويقال : رصفت الحجارة في البناء رصفاً أي ضممت بعضها إلى بعض . واستحصف : استحكم .
والتذرّع : كثرة الكلام والإفراط فيه .
فكّر يا مفضّل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء والقثّاء
والبطّيخ ، وما في ذلك من التدبير والحكمة فإنّه حين قدّر أن يحتمل مثل هذه الثمار
جعل نباته منبسطاً على الأرض ، ولو كان ينتصب قائماً كما ينتصب الزرع والشجر لما
استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة ، ولينقصف قبل إدراكها وانتهائها إلى غايتها .
فانظر كيف صار يمتدّ على وجه الأرض ليلقى عليها ثمارها فتحملها عنه فترى الأصل
من القرع والبطّيخ مفترشاً للأرض ، ثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنّه هرّة ممتدَّة
وقد اكتنفتها أجراؤها لترضع منها .
____________________________
(1) الصنار معرّب چنار .
وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارّة الصيف ،
ووقدة الحرّ فتلقاها النفوس بانشراح وتشوّق إليها ، ولو كانت توافي في الشتاء
لوافقت من الناس كراهة لها واقشعراراً منها مع ما يكون فيها من المضرّة للأبدان . ألا ترى
أنّه ربّما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلّا الشرِه الّذي لا يمتنع
من أكل ما يضرّه وليستوخم مغبّته .
توضيح : قال الفيروزآباديُّ : اليقطين : ما لا ساق له من النبات ونحوه . والقصف :
الكسر . وقال الجوهريّ : الجِرو والجُرو والجَرو : ولد الكلب والسباع ، والجمع
أجرٍ ، وأصله أجرو ٌ على أفعل ، وجراءٌ ، وجمع الجراء أجريةٌ ، والجِرو والجِروة الصغير
من القثّاء . انتهى . والحمارّة بتخفيف الميم وتشديد الراء وقد يخفّف في الشعر : شدّة
الحرّ . وفي الأساس : ما لي أراك تشرح إلى كلّ رتبة ؛ وهو إظهار الرغبة إليها ، وفيه :
هو شرِه العين يطمع في كلّ ما يراه يرمي نفسه عليه ويتمنّاه . انتهى . واستوخمه : لم يجده
مريئاً موافقاً . والمغبّة : العاقبة .
فكّر يا مفضّل في النخل فإنّه لمّا صار فيه اُناث يحتاج إلى التلقيح (1) جعلت
فيه ذكورة للّقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الّذي يلقح
الاُناث لتحمل وهو لا يحمل .
تأمّل خلقة الجذع (2) كيف هو فإنّك تراه كالمنسوج نسجاً من غير خيوط ممدودة
كالسدى واُخرى معه معترضة كاللّحمة (3) كنحو ما ينسج بالأيدي ، وذلك ليشتدّ و
يصلب ولا ينقصف من حمل القنوان (4) الثقلية ، وهزّ الرياح العواصب إذا صار نخلة ، و
ليتهيّأ للسقوف والجسور وغير ذلك ممّا يتّخذ منه إذا صار جذعاً ؛ وكذلك ترى الخشب
مثل النسج فإنّك ترى بعضه مداخلاً بعضاً طولاً وعرضاً كتداخل أجزاء اللّحم ، وفيه
____________________________
(1) التلقيح في النخل : وضع طلع الذكور في الاناث .
(2)الجذع : ساق النخلة .
(3)السدى من الثوب : ما مد من خيوطه وهو خلاف اللحمة . واللحمة ما نسج عرضاً وهو خلاف سداه .
(4) القنوان جمع القنا والقنى والقنو ـ بكسر القاف وضمها ـ : العذق وهو من النخل
كالعنقود من العنب .
مع ذلك متانة ليصلح لما يتّخذ منه من الآلات فإنّه لو كان مستحصفاً (1) كالحجارة لم
يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك ممّا يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرّة
والتوابيت وما أشبه ذلك . ومن جسيم المصالح في الخشب أنّه يطفو على الماء فكلّ
الناس يعرف هذا منه وليس كلّهم يعرف جلالة الأمر فيه ؛ فلولا هذه الخلّة كيف كانت هذه
السفن والأظراف تحمل أمثال الجبال من الحمولة ، ، وأنّى كان ينال الناس هذا الوفق (2)
وخفّة المؤونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد ؟ وكانت تعظم المؤونة عليهم في حملها
حتّى يلقى كثير ممّا يحتاج إليه في بعض البلدان مفقوداً أصلاً أو عسراً وجوده .
فكّر في هذه العقاقير وما خصّ بها كلّ واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا
يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج ، (3) وهذا ينزف المرّة
السوداء مثل الأفتيمون ، (4) وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج ، وهذا يحلّل الأورام
وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلّا من خلقها للمنفعة ؟ ومن فطّن الناس
بها إلّا من جعل هذا فيها ؟ ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتّفاق كما قال قائلون ؟
وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويّته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت
لها ؟ حتّى صار بعض السباع يتداوى من جراحه إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ ، وبعض
الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم ، وأشباه هذا كثير . ولعلّك تشكّك
في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا اُنس ولا أنيس فتظنّ أنّه فضل
لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طُعم لهذه الوحوش ، وحبّه علف للطير ، وعوده و
أفنانه حطب فيستعمله الناس ، وفيه بعدُ أشياء تعالج به الأبدان ، واُخرى تدبغ به الجلود
واُخرى تصبغ به الأمتعة ، وأشباه هذا من المصالح . ألست تعلم أنّ أخسّ النبات وأحقره
____________________________
(1) أي مستحكما ، والحصيف : كل محكم لا خلل فيه .
(2) في نسخة : هذا الرفق .
(3)وفي كتب الطب أنه يزيل الطحال أكلا وضماداً أيضا ، وتعليقه على الاذن الوجعة يسكن وجعها .
(4) وله منافع اخرى معدودة في كتب الطب كاسهاله البلغم والصفراء ، ونفعه من الصرع والتشنج
الامتلائي ، والنفخ واصحاب السرطان والجرب وغير ذلك ، كما أن للسكبينج منافع اخرى مبينة في محله .
هذا البردي (1) وما أشبهها ؛ ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتّخذ من البردي
القراطيس الّتي يحتاج إليها الملوك والسوقة ، والحُصُر الّتي يستعملها كلّ صنف من
الناس ، وليعمل منه الغلف الّتي يوقى بها الأواني ، ويجعل حشواً بين الظروف في
الأسفاط (2) لكيلا تعيب وتنكسر ، وأشباه هذا من المنافع .
فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة وما لا قيمة
له ، وأخسّ من هذا وأحقره الزبل والعذرة الّتي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة
معاً ، وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الّذي لا يعدله شيء حتّى
أنّ كلّ شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلّا بالزبل والسماد الّذي يستقذره الناس و
يكرهون الدنوّ منه ؛ واعلم أنّه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته ، بل هما قيمتان
مختلفتان بسوقين ، وربّما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيساً في سوق العلم فلا تستصغر
العبرة في الشيء لصغر قيمته ، فلو فطنوا طالبوا الكيميا لما في العذرة لاشتروها بأنفس
الأثمان وغالوا بها .
قال المفضّل : وحان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة وقال : بكّر إليَّ غداً
إن شاء الله ؛ فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرّفنيه مبتهجاً بما آتانيه ، حامداً لله على
ما منحنيه فبتُّ ليلتي مسروراً .
بيان : قوله عليهالسلام : ليصلح بيان لما يتحصّل ممّا مرّ لا للمتانة فقط . والنزف :
النزح : قوله عليهالسلام : هب الإنسان أي سلّمنا أنّه كذلك . والحصر بالضمّ : اعتقال البطن .
والسوقة بالضمّ : الرعيّة للواحد والجمع والمذكّر والمؤنّث . والغلف بضمّة وبضمّتين
وكركّع : جمع غلاف . والزبل بالكسر : السرقين . وقال الفيروزآباديُّ : السماد : السرقين
برماد وقال الجزريّ : هو ما يطرح في اُصول الزرع والخضر من العذرة والزبل ليجوّد
نباته . أقول : يدلّ ظاهراً على جواز استعمال العذرات النجسة في ذلك وربّما يستدلّ
به على تطهير الاستحالة .
____________________________
(1) البردي : نبت رخو ينبت في ديار المصر كثيراً ، يمضغ أصله كقصب السكر ويتخذ منه القرطاس
وقيل : له ورق كخوص النخل ، فارسيه نوخ .
(2) جمع السفط : وعاء كالقفة أوالجوالق .
المجلس الرابع : قال المفضّل : فلمّا كان اليوم الرابع بكّرت إلى مولاي فاستوذن
لي فأمرني بالجلوس فجلست ، فقال عليهالسلام : منّا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس
للاسم الأقدم ، والنور الأعظم العليّ العلّام ، ذي الجلال والإكرام ، ومنشىء الأنام ،
ومفتي العوالم والدهور ، وصاحب السرّ المستور والغيب المحظور ، والاسم المخزون
والعلم المكنون ؛ وصلواته وبركاته على مبلّغ وحيه ، ومؤدّي رسالته ، الّذي ابتعثه
بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى
من حيَّ عن بيّنة ، فعليه وعلى آله من بارئه الصوات الطيّبات والتحيّات الزاكيات
الناميات ، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين أبد الآبدين
ودهر الداهرين وهم أهله ومستحقّه .
قد شرحت لك يا مفضّل من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير
والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر ؛ وأنا
أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان الّتي اتّخذها اُناس من الجهّال
ذريعة إلى جحود الخالق والخلق والعمد والتدبير ، وما أنكرت المعطّلة والمنانيّة (1) من
المكاره والمصائب وما أنكروه من الموت والفناء ، وما قاله أصحاب الطبائع ، ومن زعم
أنَّ كون الأشياء بالعرض والاتّفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم ، قاتلهم الله أنّى
يؤفكون ؟ .
اتّخذ اُناس من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء و
اليرقان (2) والبرد والجراد ذريعة إلى جحود الخلق والتدبير والخالق ؛ فيقال في جواب
ذلك : إنّه إن لم يكن خالق ومدبّر فلمَ لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع ؟ فمن ذلك
أن يسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلاً ، وتتخلّف الشمس عن
الطلوع أصلاً ، وتجفّ الأنهار والعيون حتّى لا يوجد ماء للشفة ، وتركد الريح حتّى
____________________________
(1) الظاهر : المانوية .
(2) اليرقان : مرض معروف يصيب الناس ويسبب اصفرار الجلد ، وآفة للزرع ، أو دود يسطو
على الزرع ولعل المراد المعنى الثاني لذكره قبل ذلك .
تحمّ الأشياء وتفسد ، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها . ثمَّ هذه الآفات الّتي
ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتدّ حتّى تجتاح كلّ ما
في العالم ؟ بل تحدث في الأحايين ، ثمَّ لا تلبث أن ترفع ؟ أفلا ترى أنّ العالم يصان ويحفظ
من تلك الأحداث الجليلة الّتي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ، ويلذع (1)
أحياناً بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ، ثمَّ لا تدوم هذه الآفات بل تكشف
عنهم عند القنوط منهم فتكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة .
وقد أنكرت المعطّلة ما أنكرت المنانيّة (2) من المكاره والمصائب الّتي تصيب
الناس ، فكلاهما يقول : إن كان للعالم خالق رؤوف رحيم فلمَ يحدث فيه هذه الاُمور
المكروهة ؟ والقائل بهذا القول يذهب به إلى أنّه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه
الدنيا صافياً من كلّ كدر ، ولو كان هكذا كان الإنسان سيخرج من الأشر والعتوّ
إلى ما لا يصلح في دين ودنيا كالّذي ترى كثيراً من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن
يخرجون إليه حتّى أنَّ أحدهم ينسى أنّه بشر أو أنّه مربوب أو أنّ ضرراً يمسّه ، أو أنّ
مكروهاً ينزل به ، أو أنّه يجب عليه أن يرحم ضعيفاً أو يواسي فقيراً . أو يرثي لمبتلى (3)
أو يتحنّن على ضعيف ، أو يتعطّف على مكروب ، فإذا عضّته المكاره ووجد مضضها
اتّعظ وأبصر كثيراً ممّا كان جهله وغفل عنه ، ورجع إلى كثير ممّا كان يجب عليه ، و
المنكرون لهذه الاُمور الموذية بمنزلة الصبيان الّذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة ؛
ويتسخّطون من المنع من الأطعمة الضارّة ؛ ويتكرّهون الأدب والعمل ؛ ويحبّون أن
يتفرّغوا للّهو والبطالة ؛ وينالوا كلّ مطعم ومشرب ؛ ولا يعرفون ما تؤدّيهم إليه البطالة
من سوء النشوء والعادة وما تعقّبهم الأطعمة اللّذيذه الضارّة من الأدواء والأسقام ، وما
لهم في الأدب من الصلاح ، وفي الأدوية من المنفعة وإن شاب ذلك بعض الكراهة .
فإن قالوا : ولمَ لم يكن الإنسان معصوماً من المساوي حتّى لا يحتاج إلى أن
____________________________
(1) يلذع بالذال المعجمة والعين المهملة : يوجع ويولم . وفي بعض النسخ يلدغ بالدال المهملة
والغين المعجمة أي يلسع .
(2)كذا في النسخ والظاهر : المانوية .
(3) أي يرق ويرحم له .
يلذعه بهذه المكاره ؟ قيل : إذاً كان يكون غير محمود على حسنة يأتيها ولا مستحقّ
للثواب عليها .
فإن قالوا : وما كان يضرّه أن لا يكون محموداً على الحسنات مستحقّاً للثواب
بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللّذّة ؟ قيل لهم : اعرضوا على امرء صحيح الجسم والعقل
أن يجلس منعماً ويكفى كلّ ما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق ، فانظر هل تقبل نفسه
ذلك ؟ بل ستجدونه بالقليل ممّا يناله بالسعي والحركة أشدّ اغتباطاً وسروراً منه بالكثير
ممّا يناله بغير الاستحقاق ، وكذلك نعيم الآخرة أيضاً يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي
فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة ، بأن اُعدّ له الثواب الجزيل
على سعيه في هذه الدنيا ، وجعل له السبيل إلى أن ينال بسعي واستحقاق فيكمل له
السرور والاغتباط بما يناله منه .
فإن قالوا : أوليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير وإن كان لا
يستحقّه ؟ فما الحجّة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخره على هذه الجملة ؟ (1) قيل
لهم : إنّ هذا باب لو صحّ للناس لخرجوا إلى غاية الكلب والضرواة على الفواحش و
انتهاك المحارم ؛ فمن كان يكفّ نفسه عن فاحشة أو يتحمّل المشقّة في باب من أبواب
البرّ لو وثق بأنّه صائر إلى النعيم لا محالة ؟ أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من
الناس لو لم يخافوا الحساب والعقاب ؟ فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا
قبل الآخرة ، فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معاً ، وموضع للطعن على التدبير
بخلاف الصواب ووضع الاُمور غير مواضعها .
وقد يتعلّق هؤلاء بالآفات الّتي تصيب الناس فتعمّ البرّ والفاجر ، أو يبتلي بها البرّ
ويسلم الفاجر منها ، فقالوا : كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحجّة فيه ؟ فيقال لهم :
إنَّ هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعاً ، فإنَّ الله جعل ذلك صلاحاً للصنفين
كليهما : أمّا الصالحون فإنَّ الّذي يصيبهم من هذا يردّهم (2) نعم ربّهم عندهم في سالف
____________________________
(1) وفي نسخة : على هذه الخلة .
(2) كذا في النسخ والظاهر : يذكرهم .
أيّامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر ؛ وأمّا الطالحون فإنَّ مثل هذا إذا نالهم
كسر شرتهم ، وردعهم عن المعاصي الفواحش ، وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين
صلاحاً في ذلك : أمّا الأبرار فإنّهم يغتبطون بما هم عليه من البرّ والصلاح ويزدادون
فيه رغبة وبصيرة . وأمّا الفجّار فإنّهم يعرفون رأفة ربّهم (1) وتطوّله عليهم بالسلامة
من غير استحقاقهم (2) فيحضّهم ذلك على الرأفة بالناس والصفح عمّن أساء إليهم .
ولعلّ قائلاً يقول : إنّ هذه الآفات الّتي تصيب الناس في أموالهم ، فما قولك
فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم ، كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف ؟
فيقال لهم : إنَّ الله جعل في هذا أيضاً صلاحاً للصنفين جميعاً : أمّا الأبرار فلما لهم في
مفارقة هذه الدنيا من الراحة من تكاليفها والنجاة من مكارهها ؛ وأمّا الفجّار فلما
لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم وحبسهم عن الازدياد منها . وجملة القول أنَّ الخالق
تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرّف هذه الاُمور كلّها إلى الخيرة والمنفعة فكما أنّه
إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق واستعملها في ضروب من
المنافع فكذلك يفعل المدبّر الحكيم في الآفات الّتي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم
فيصيّرها جميعاً إلى الخيرة والمنفعة .
فإن قال : ولمَ يحدث على الناس ؟ قيل له : لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول
السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي ، ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البرّ ، فإنّ هذين
الأمرين جميعاً يغلبان على الناس في حال الخفض (3) والدعة ، (4) وهذه الحوادث الّتي
تحدث عليهم تردعهم (5) وتنبّههم على ما فيه رشدهم ، فلو أخلوا منهما لغلوا في الطغيان
والمعصية كما على الناس في أوَّل الزمان حتّى وجب عليهم البوار بالطوفان وتطهير الأرض
منهم .
____________________________
(1) وفي نسخة : فانهم يعرفون رحمة ربهم .
(2) وفي نسخة : من غير استحقاق .
(3)خفض العيش : سهل وكان هنيئاً .
(4)الراحة وخفض العيش .
(5) وفي نسخة : وهذه الحوادث التي تحدث عليهم تروعهم .
وممّا ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء فإنّهم يذهبون إلى أنّه
ينبغي أن يكون الناس مخلّدين في هذه الدنيا مبرّئين من الآفات . فينبغي أن يساق
هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله . أفرأيت لو كان كلّ من دخل العالم ويدخله
يبقون ولا يموت أحد منهم ألم تكن الأرض تضيق بهم حتّى تعوزهم المساكن والمزارع
والمعاش ؟ فإنّهم والموت يفنيهم أوّلاً أوّلاً يتنافسون في المساكن والمزارع حتّى ينشب
بينهم في ذلك الحروب ويسفك فيهم الدماء ، فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون
ولا يموتون ؟ وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب ، فلو وثقوا بأنّهم
لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء ينال ، ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله ، ولا سلا عن
شيء ممّا يحدث عليه ثمّ كانوا يملّون الحياة وكلَّ شيء من اُمور الدنيا كما قد يملّ
الحياة من طال عمره حتّى يتمنّى الموت والراحة من الدنيا .
فإن قالوا : إنّه كان ينبغي أن يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتّى لا يتمنّوا الموت
ولا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتوّ والأشر الحامل لهم على ما فيه
فساد الدين والدنيا . وإن قالوا : إنّه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن
والمعاش قيل لهم : إذاً كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله ومواهبه
في الدارين جميعاً إذا لم يدخل العالم إلّا قرن واحد لا يتوالدون ولا يتناسلون .
فإن قالوا : كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق
ويخلق إلى انقضاء العالم . يقال لهم : رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعاش
عنهم ثمّ لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الاُنس بالقرابات وذوي الأرحام
والانتصار بهم عند الشدائد ، وموضع تربية الأولاد والسرور بهم . ففي هذا دليل على
أنَّ كلّما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ وسفاه من الرأي والقول .
ولعلَّ طاعناً يطعن على التدبير من جهة اُخرى فيقول : كيف يكون ههنا
تدبير ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عزَّ بزَّ ؟ فالقويُّ يظلم ويغصب ، والضعيف
يظلم ويسأم الخسف والصالح فقير مبتلى ، والفاسق معافى موسّع عليه ، ومن ركب
فاحشة أو انتهك محرّماً لم يعاجل بالعقوبة ؛ فلو كان في العالم تدبير لجرت الاُمور على
القياس القائم ، فكان الصالح هو المرزوق ، والطالح هو المحروم ، وكان القويُّ يمنع من
ظلم الضعيف ، والمتهتّك للمحارم يعاجل بالعقوبة ؛ فيقال في جواب ذلك : إنّ هذا لو
كان هكذا لذهب موضع الاحسان الّذي فضّل به الإنسان على غيره من الخلق ، و
حمل النفس على البرّ والعمل الصالح احتساباً للثواب وثقة بما وعد الله منه ، ولصار
الناس بمنزلة الدوابّ الّتي تساس (1) بالعصا والعلف ، ويلمع لها بكلّ واحد منهما
ساعة فساعة فتستقيم على ذلك ، ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتّى
كان هذا يخرجهم عن حدّ الإنسيّة إلى حدّ البهائم ، ثمَّ لا يعرف ما غاب ولا يعمل إلّا على
الحاضر ، وكان يحدث من هذا أيضاً أن يكون الصالح إنّما يعمل الصالحات للرزق
والسعة في هذه الدنيا ، ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنّما يعفّ عن ذلك لترقّب
عقوبة تنزل به من ساعته حتّى يكون أفعال الناس كلّها تجري على الحاضر لا يشوبها
شيء من اليقين بما عند الله ، ولا يستحقّون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها ؛ مع أنَّ هذه
الاُمور الّتي ذكرها الطاعن من الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف
قياسه ، بل قد تجري على ذلك أحياناً ، والأمر المفهوم ، فقد ترى كثيراً من الصالحين
يرزقون المال لضروب من التدبير ، وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أنّ الكفّار هم المرزوقون ،
والأبرار هم المحرومون ، فيؤثرون الفسق على الصلاح ؛ وترى كثيراً من الفسّاق يعاجلون
بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم ، كما عوجل فرعون
بالغرق ، وبخت نصر بالتيه ، وبلبيس بالقتل ؛ وإِن اُمهل بعض الأشرار بالعقوبة
واُخّر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا
ممّا يبطل التدبير ، فإنّ مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم ، بل
يكون تأخيرهم ما أخّروه أو تعجيلهم ما عجّلوه داخلاً في صواب الرأي والتدبير ؛ وإذا
كانت الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أنّ للأشياء خالقاً حكيماً قادراً فما يمنعه أن
يدبّر خلقه فإنّه لا يصحّ في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلّا بإحدى ثلاث
خلال : إمّا عجز ، وإمّا جهل ، وإمّا شرارة ؛ وكلّ هذه محال في صنعته عزَّوجلَّ
____________________________
(1) ساس الدوب أي قام عليها وراضها .
وتعالى ذكره وذلك أنّ العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة ، والجاهل
لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة ، والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها وإذا كان
هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبّرها لا محالة وإن كان لا تدرَك
كنه ذلك التدبير ومخارجه فإنّ كثيراً من تدبير الملوك لا تفهمه العامّة ولا تعرف أسبابه
لأنّها لا تعرف دخلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائماً على الصواب و
الشاهد المحنة . ولو شككت في بعض الأدوية والأطعمة فيتبيّن لك من جهتين أو ثلاث
أنّه حارٌّ أو بارد ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشكّ فيه عن نفسك ؟ فما بال
هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخالق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة ؟ وأكثر
منها ما لا يحصى كثرةً ، لو كان نصف العالم وما فيه مشكلاً صوابه لما كان من حزم الرأي
وسمت الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنّه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه
من الصواب والإتقان ما يردع الوهم عن التسرّع إلى هذه القضيّة فكيف وكلّ ما كان
فيه إذا فتّش وجد على غاية الصواب حتّى لا يخطر بالبال شيء إلّا وجد ما عليه الخلقة
أصحّ وأصوب منه ؟ .
بيان قوله عليهالسلام : للاسم الأقدم لعلّ المراد بالاسم المسمّى ، (1) أو المراد الاسم
الّذي أظهره وأثبته في اللّوح قبل سائر الأسماء ، أو المراد الاسم الّذي يخصّ الذات
فهو أسبق الأسماء في الاعتبار وأشرفها كما يظهر من الآثار . قوله : والغيب المحظور أي
الممنوع عن غيره تعالى إلّا من ارتضاه لذلك . قوله : بالعرض قال الفيروزآباديُّ :
عرض الشيء : ظهر ، والعرض : أن يموت الإنسان من غير علّة . والاجتياح : الاستيصال .
قوله عليهالسلام : ويلذع يقال : لذعته النار أي أحرقته ، ولذعه بلسانه أي أوجعه بكلام ،
____________________________
(1) المراد بالاسم هو المسمى لكن لا كما ذكره رحمه الله وأراد بالمسمى الذات بل كما تدل عليه
الاخبار الاتية في أبواب الاسماء الحسنى تحكى عن المصداق المناسب لها ونفس المصداق اسم للذات عزت
أسماؤه وأن الاسماء الملفوظة في الحقيقة أسماء الاسماء لكنه رحمه الله عد هذه الاخبار من المتشابهات
ولذلك تكلف في أمثال هذه الموارد بما تكلف ؛ وأما المعنيان الاخران فواضح الفساد كيف والامام
عليه السلام يوصف هذا الاسم بقوله : ذى الجلال والاكرام .... بعد عطف قوله : والنور الاعظم
عليه ؛ فتأمل فيه . ط
وفي بعض النسخ بإهمال الأوَّل وإعجام الثاني من لدغ العقرب . ويقال : رثيت لفلان
أي رققت له . والمضض محرّكة : وجع المصيبة . قوله عليهالسلام : إذا كان يكون غير محمود
يمكن أن يقرأ إذا بالتنوين وبدونها ، وعلى الثاني يكون خبر كان محذوفاً أي إذا كان
الإنسان كذلك .
ثمَّ اعلم أنّه ينبغي أن تحمل العصمة المأخوذة في السؤال على غير المعنى المشهور
الّذي سيأتي تحقيقه في باب عصمة الأئمّة عليهمالسلام بل المراد العصمة بمعنى الإلجاء الّذي
لم يبق معه اختيار ، ولذا فرَّع عليهالسلام عليه عدم استحقاق الثواب ، وإلّا فالعصمة الّتي
اتّصفت بها الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام لا ينافي ذلك كما سنحقّقه في مقامه إن شاء الله تعالى .
ويمكن أن يقال ـ على تقدير أن يكون المراد هذا المعنى أيضاً ـ بأنّه إذا صار هذا عامّاً
في جميع البشر لا يتأتّى في بعض الموادّ الّتي لا تستحقّ ذلك من نفوس الأشرار والفجّار
إلّا بالإلجاء الرافع للاستحقاق . قوله عليهالسلام : إلى غاية الكلب والضراوة قال الجوهريّ :
دفعت عنك كلب فلان أي شرّه وأذاه ، والكلب أيضا شبيه بالجنون . وقال : ضرى
الكلب بالصيد ضراوة أي تعوّد . أقول : لمّا كان السؤال مبنيّاً على فرض العصمة
ظاهراً فتصحيح هذا الجواب في غاية الإشكال وخطر بالبال وجوه :
الأوّل : أن لا يكون السؤال مبنيّاً على فرض العصمة بل يكون المراد أنّه لمّا
ذكرت أنّ العصمة تنافي الاستحقاق فنقول : لمَ لم يبذل لهم الثواب على أيّ حال بـأن
يكلّفهم العمل ليستحقّوا الثواب إن أرادوا استحقاقه وإلّا أعطاهم من غير استحقاق ؟
إذ كثير من الناس يطلبون النعيم بغير استحقاق فلا يكون عليهم في الدنيا والآخرة سخط
على المخالفة ، وعلى هذا الجواب ظاهر الانطباق على السؤال كما لا يخفي .
الثاني : أن يكون السؤال مبنيّاً على فرض العصمة في بعضهم وهم الّذين يطلبون الثواب
ولا يريدون استحقاقه كما هو ظاهر السياق ، ويكون حاصل الجواب أنّه لو كان المجبور
على الخيرات مثاباً فمقتضى العدل أن يكون غير المجبور الطالب للخير والاستحقاق غير
معاقب على حال وإلّا لكان له الحجّة على ربّه بأنّك لم تعصمني كما عصمت غيري ،
ومنعت عنّي اللّطف بالبلايا والصوارف عن المعاصي في الدنيا ثمَّ تعذّبني على المعاصي ،
ـ 9 ـ بحار الأنوار
فعلى هذا فلو علم غير المعصومين ذلك لدعتهم الدواعي النفسانيّة إلى غاية الفساد ، وهذا
وجه وجيه لكن يحتاج إلى طيّ بعض المقدَّمات .
الثالث : أن يكون السؤال مبنيّاً على ذلك الفرض أيضاً لكن يكون الجواب
مبنيّاً على أنّه قد يستلزم المحال نقيضه ، إذ الكلام في هذا النوع من الخلق المسمّى
بالإنسان الّذي اقتضت الحكمة أن يكون قد ركّبت فيه أنواع الشهوات والدواعي فلو
فرضته على غير تلك الحالة لكان من قبيل فرض الشيء انساناً وملكاً وهما لا يجتمعان ،
فعلى هذا يلزمه أيضاً لفرض كونه إنساناً أن يدعوه عدم خوف العقاب والفراغ إلى الأشر
والبطر وأنواع المعاصي ، وحاصله يرجع إلى تغيير الجواب الأوّل إلى جواب آخر
لا يرد عليه السؤال على غاية اللّطف والدقّة .
والردع : الكفّ والمنع . وقوله : يغتبطون على البناء للفاعل من الاغتباط وهو حسن
الحال بحيث يتمنّي غيره حاله . والحضّ : الحثّ والتحريص . وتمحيص الأوزار :
تنقيصها أو إزالتها . قوله عليهالسلام : فإن قال : ولمَ يحدث على الناس ؟ أقول : لمّا كان
آخر الكلام موهماً لأنّ هذه الاُمور بعد حدوثها يصيّرها الله تعالى إلى الحكمة والصلاح
سأل : ثانياً ما السبب في أصل الحدوث حتّى يحتاج إلى أن يجعله الله صلاحاً ؟ ويحتمل
أن يكون مراده أنّا علمنا أنّ في وجودها صلاحاً فهل في عدمها فساد ؟ والجواب على
التقديرين ظاهر . وقال الفيروزآباديّ : عوز الشيء كفرح : لم يوجد ، وأعوزه الشيء .
احتاج إليه ، والدهر أحوجه . وقال : تناشبوا : تضامّوا وتعلّق بعضهم ببعض ، ونشبه
الأمر كلزم زنةً ومعنىً . وقال : افرجوا عن الطريق والقتيل : انكشفوا ، وعن المكان :
تركوه . انتهى . والمراد هنا عدم التخلية بين أحد وبين ما يريده . قوله عليهالسلام : ولا سلا عن
شيء أي لا ينسى ويتسلّى عن شيء من المصائب إذ بتذكّر الموت تزول شدّة المحن ، من قولهم :
سلا عن الشيء أي نسيه . وقال الجوهرىّ : بزَّه يبزُّه بزّاً : سلبه ، وفي المثل من عزَّ بزَّ أي
من غلب أخذ السلب . وقال : سامه خسفاً وخُسفاً بالضمّ أي أولاه ذلّاً . وقال الفيروزآباديّ :
لمع بيده : أشار . وقال تفاقم الأمر : عظم . قوله عليهالسلام : وبخت نصّر بالتيه أقول : لعلّه
إشارة إلى ما ذكره جماعة من المؤرّخين أنّ ملكاً من الملائكة لطم بخت نصّر لطمة
ومسخه وصار في الوحش في صورة أسد وهو مع ذلك يعقل ما يفعله الإنسان ، ثمَّ ردّه الله
تعالى إلى صورة الإنس وأعاد إليه ملكه فلمّا عاد إلى ملكه أراد قتل دانيال فقتله الله
على يد واحد من غلمانه ؛ (1) وقيل في سبب قتله : إنّ الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره
وصعدت إلى رأسه فكان لا يقرّ ولا يسكن حتّى يدقّ رأسه فمات من ذلك . وبلبيس غير
معروف عند المؤرّخين . والتطاول هنا مبالغة في الطَول بمعنى الفضل والإحسان . ودخلة
الرجل مثلّثة : نيّته ومذهبه وجمع أمره وبطانته . قوله عليهالسلام : والشاهد المحنة أي
بالشاهد يمكن امتحان الغائب .
واعلم يا مفضّل إنّ اسم هذا العالم بلسان اليونانيّة الجاري المعروف عندهم
« قوسموس » (2) وتفسيره « الزينة » وكذلك سمّته الفلاسفة ومن ادّعى الحكمة أفكانوا
يسمّونه بهذا الاسم إلّا لما رأوا فيه من التقدير والنظام ؟ فلم يرضوا أن يسمّوه تقديراً
ونظاماً حتّى سمّوه زينة ليخبروا أنّه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية
الحسن والبهاء .
أعجب يا مفضّل من قوم لا يقضون صناعة الطبّ بالخطأ وهم يرون الطبيب
يخطىء ، ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئاً منه مهملاً . بل أعجب من أخلاق
من ادّعى الحكمة حتّى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذمّ للخالق جلّ
وعلا . بل العجب من المخذول « مانيّ » حين ادّعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة
في الخلق حتّى نسبه إلى الخطأ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحليم الكريم . وأعجب
منهم جميعاً المعطّلة الّذين راموا أن يدرك بالحسّ ما لا يدرك بالعقل فلمّا أعوزهم (3)
ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب فقالوا : ولمَ لا يدرك بالعقل ؟ قيل : لأنّه فوق
مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو فوق مرتبته فإنّك لو رأيت حجراً يرتفع في الهواء
علمت أنّ رامياً رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأنّ العقل هو
الّذي يميّزه فيعلم أنَّ الحجر لا يذهب علواً من تلقاء نفسه ؛ أفلا ترى كيف وقف البصر
____________________________
(1) سنشير ان شاء الله إلى ما في هذا النقل من الاختلاط والوهن .
(2) وفي نسخة : فرسموس .
(3) أعوزه أي أعجزه وصعب عليه نيله .
على حدّه فلم يتجاوزه ؟ فكذلك يقف العقل على حدّه من معرفة الخالق فلا يعدوه ولكن
يعقله بعقل أقرّ أنَّ فيه نفساً ولم يعاينها ولم يدركها بحاسّة من الحواسّ ، وعلى حسب
هذا أيضاً نقول : إنّ العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب
له الإحاطة بصفته .
فإن قالوا : فكيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللّطيف ولا يحيط به ؟ قيل
لهم : إنّما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه ، وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند
أمره ونهيه ، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته كما أنّ الملك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل
هو أم قصير ، أبيض هو أم أسمر (1) وإنما يكلّفهم الإذعان بسلطانه والانتهاء إلى أمره ؛
ألا ترى أنّ رجلاً لو أتى باب الملك فقال : أعرض عليَّ نفسك حتّى أتقصّي معرفتك (2) وإلّا
لم أسمع لك كان قد أحلّ نفسه العقوبة ، فكذا القائل : إنّه لا يقرّ بالخالق سبحانه
حتّى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه .
فإن قالوا : أوليس قد نصفه فنقول : هو العزيز الحكيم الجواد الكريم ؟ قيل لهم :
كلّ هذه صفات إقرار ، وليست صفات الإحاطة ، فإنّا نعلم أنّه حكيم ولا نعلم بكنه
ذلك منه ، (3) وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته كما قد نرى السماء ولا ندري ما جوهرها ،
ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه ، بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له لأنَّ الأمثال كلّها
تقصر عنه ولكنّها تقود العقل إلى معرفته .
فإن قالوا : ولمَ يختلف فيه ؟ قيل لهم : لقصر الأوهام عن مدى عظمته (4) وتعدّيها
أقدارها في طلب معرفته ، وإنّها تروم الإحاطة به وهي تعجز عن ذلك وما دونه ، فمن
ذلك هذه الشمس الّتي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها ، ولذلك كثرت
الأقاويل فبها واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها فقال بعضهم : هو فلك أجوف مملوٌّ
ناراً ، له فمٌ يجيش بهذا الوهج والشعاع ؛ وقال آخرون : هو سحابة ؛ وقال آخرون :
هو جسم زجاجيٌّ يقبل ناريّة في العالم ويرسل عليه شعاعها ؛ وقال آخرون : هو صفو
____________________________
(1) السمرة : لون بين السواد والبياض .
(2) تقصى واستقصى المسألة : بلغ النهاية في البحث عنها .
(3) وفي نسخة : ولا نحيط بكنه ذلك منه .
(4)المدى : الغاية والمنتهى .
لطيف ينعقد من ماء البحر ؛ وقال آخرون : هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار ؛ وقال آخرون :
هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربع . ثمَّ اختلفوا في شكلها فقال بعضهم : هي
بمنزلة صفيحة عريضة ؛ وقال آخرون : هي كالكرة المدحرجة . وكذلك اختلفوا في
مقدارها فزعم بعضهم أنّها مثل الأرض سواء ؛ وقال آخرون : بل هي أقلّ من ذلك ؛
وقال آخرون : هي أعظم من الجزيرة العظيمة . وقال أصحاب الهندسة : هي أضعاف
الأرض مائة وسبعون مرّة . ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على
أنّهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها ، وإذا كانت هذه الشمس الّتي يقع عليها البصر و
يدركها الحسّ قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحسّ واستتر
عن الوهم ؟ .
فإن قالوا : ولم استتر ؟ قيل لهم : لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب عن
الناس بالأبواب والستور ، وإنّما معنى قولنا : استتر أنّه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام ،
كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر .
فإن قالوا : ولمَ لطف ؟ ـ وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ـ كان ذلك خطأً من القول
لأنّه لا يليق بالّذي هو خالق كلّ شيء إلّا أن يكون مبائناً لكلّ شيء ، متعالياً عن كلّ
شيء ؛ سبحانه وتعالى .
فإن قالوا : كيف يعقل أن يكون مبائناً لكلّ شيء متعالياً ؟ قيل لهم : الحقّ الّذي
تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه : فأوّلها أن ينظر أموجود هو أم ليس بموجود
والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره . والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته ؟ والرابع
أن يعلم لماذا هو ولأيّة علّة ؟ فليس من هذه الوجوه شيء يمكن المخلوق أن يعرفه من
الخالق حقّ معرفته غير أنّه موجود فقط . فإذا قلنا : كيف وما هو ؟ فممتنع علم كنهه و
كمال المعرفة به ؛ وأمّا لماذا هو فساقط في صفة الخالق لأنّه جلّ ثناؤه علّة كلّ شيء و
ليس شيء بعلّة له ؛ ثمَّ ليس علم الإنسان بأنّه موجود يوجب له أن يعلم ما هو كما أنّ
علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي ، وكذلك الاُمور الروحانيّة
اللّطيفة .
فإن قالوا : فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفاً حتّى كأنّه غير معلوم !
قيل لهم : هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به وهو من جهة اُخرى
أقرب من كلّ قريب إذا استدلّ عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على
أحد ، وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد ، وكذلك العقل أيضاً ظاهر بشواهد ومستور
بذاته .
فأمّا أصحاب الطبائع فقالوا : إنّ الطبيعة لا تفعل شيئاً لغير معنى ولا تتجاوز عمّا
فيه تمام الشيء في طبيعتة ، وزعموا أنَّ الحكمة تشهد بذلك . (1) فقيل لهم : فمن أعطى
الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها ، وهذا قد تعجز عنه
العقول بعد طول التجارب ؟ فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال
فقد أقرُّوا بما أنكروا لإنّ هذه هي صفات الخالق ، وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة
فهذا وجه الخلق يهتف بأنّ الفعل لخالق الحكيم .
وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أنَّ كونها
بالعرض والاتّفاق ، وكان ممّا احتجّوا به هذه الآفات الّتي تلد غير مجرى العرف والعادة
كالإنسان يولد ناقصاً أو زائداً إصبعاً ، أو يكون المولود مشوّهاً (2) مبدل الخلق ، فجعلوا
هذا دليلاً على أنَّ كون الأشياء ليس بعمد وتقدير ، بل بالعرض كيف ما اتّفق أن يكون .
وقد كان أرسطاطاليس ردَّ عليهم فقال : إنَّ الّذي يكون بالعرض والاتّفاق إنّما هو شيءٌ يأتي
في الفرط مرّة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها ، وليس بمنزلة الاُمور الطبيعيّة
الجارية على شكل واحد جرياً دائماً متتابعاً .
وأنت يا مفضّل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج
واحد كالإنسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس ،
فأمّا ما يولد على خلاف ذلك فإنّه لعلّة تكون في الرحم أو في المادّة الّتي ينشأ منها
الجنين ، كما يعرض في الصناعات حين يتعمّد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك (3)
____________________________
(1) وفي نسخة : وزعموا أن المحنة تشهد بذلك .
(2) أي مقبحاً .
(3)عاقه يعوقه عن كذا : صرفه وثبطه وأخره عنه . والعائق كل ما عاقك وشغلك .
عائق في الأداة أو في الآلة الّتي يعمل فيها الشيء فقد يحدث مثل في أولاد الحيوان
للأسباب الّتي وصفنا فيأتي الولد زائداً أو ناقصاً أو مشوّهاً ويسلم أكثرها فيأتي سويّاً
لا علّة فيه ، فكما أنَّ الّذي يحدث في بعض الأعمال الأعراض (1) لعلّة فيه لا توجب عليها
جميعاً الإهمال وعدم الصانع كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعيّة لعائق يدخل
عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض والاتّفاق ، فقول من قال في الأشياء إنَّ كونها
بالعرض والاتّفاق من قبل أنَّ شيئاً منها يأتي على خلاف الطبيعة يعرض له خطأ و
خطل .
فإن قالوا : ولمَ صار مثل هذا يحدث في الأشياء ؟ قيل لهم : ليعلم أنّه ليس كون
الأشياء باضطرار من الطبيعة ، ولا يمكن أن يكون سواه كما قال قائلون ، بل هو تقدير
وعمد من خالق حكيم ، إذ جعل الطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى ومنهاج معروف ،
ويزول أحياناً عن ذلك لأعراض تعرض لها فيستدلّ بذلك على أنّها مصرَّفة مدبَّرة فقيرة
إلى إبداء الخالق وقدرته في بلوغ غايتها وإتمام عملها تبارك الله أحسن الخالقين .
يا مفضّل خذ ما آتيتك واحفظ ما منحتك ، وكن لربّك من الشاكرين ولآلائه
من الحامدين ، ولأوليائه من المطيعين ، فقد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد
على صواب التدبير والعمد قليلاً من كثير ، وجزءاً من كلّ فتدبّره وفكّر فيه واعتبر به .
فقلت : بمعونتك يا مولاي أقوى على ذلك وأبلغه إن شاء الله ؛ فوضع يده على صدري فقال :
احفظ بمشيّة الله ولا تنس إن شاء الله .
فخررت مغشيّاً عليَّ فلمّا أفقت قال : كيف ترى نفسك يا مفضّل ؟ فقلت : قد
استغنيت بمعونة مولاي وتأييده عن الكتاب الّذي كتبته ، وصار ذلك بين يديَّ كأنّما
أقرأه من كفّي ، ولمولاي الحمد والشكر كما هو أهله ومستحقّه .
فقال : يا مفضّل فرِّغ قلبك واجمع إليك ذهنك وعقلك وطمأنينتك فساُلقي إليك
من علم ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله بينهما ، وفيهما من عجائب خلقه و
أصناف الملائكة وصفوفهم ومقاماتهم ومراتبهم إلى سدرة المنتهى ، وسائر الخلق من
____________________________
(1) وفي نسخة : فكما ان الذي يحدث في بعض الاعمال للاعراض .
الجنّ والإنس إلى الأرض السابعة السفلى وما تحت الثرى حتّى يكون ما وعيته جزءاً
من أجزاء ؛ انصرف إذا شئت مصاحباً مكلوءاً (1) فأنت منّا بالمكان الرفيع ، وموضعك
من قلوب المؤمنين موضع الماء من الصدى ، ولا تسألن عمّا وعدتك حتّى اُحدث لك
منه ذكراً .
قال المفضّل : فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله .
بيان : جاش البحر والقِدر وغيرهما يجيش جيشاً : غلا . قوله عليهالسلام : قال : أصحاب
الهندسة أقول : المشهور بين متأخّريهم أنَّ جرم الشمس مائة وستّة وستّون مثلاً وربع و
ثمن لجرم الأرض ، وما ذكره عليهالسلام لعلّه كان مذهب قدمائهم مع أنّه قريب من المشهور ،
والاختلاف بين قدمائهم ومتأخّريهم في أمثال ذلك كثير . قوله عليهالسلام : الحقّ الّذي
أي الاُمور الحقّة الثابتة الّتي تطلب معرفتها من بين الأشياء وفي بعض النسخ
لحقّ أي ما يحقّ وينبغي أن تطلب معرفته من أحوال الأشياء هو أربعة أوجه . وقال
الجوهريّ : قولهم لقيته في الفرط بعد الفرط أي الحين بعد الحين . والصدى بالفتح :
العطش .
ثمَّ اعلم أنّ بعض تلك الفقرات تؤمي إلى تجرّد النفس ، والله يعلم وحججه
صلوات الله عليهم أجمعين .(2)
____________________
____________________________
(1) أي محفوظا .
(2) بل الى وجود امور اخرى غير النفس مجردة كما يشعر به قوله : وكذلك الامور الروحانية
اللطيفة ومنه يظهر أن وصف شيء بأنه روحاني أو لطيف في الاخبار يشعر بتجرده . ط
الهوامش
1. أي أعطاه.
2. الخطر : الشرف وارتفاع القدر والمرتبة.
3. الانعام : 122.
4. الحنق : شدة الاغتياظ.
5. أي لا يصيبه.
6. العصابة : الجماعة من الرجال.
7. الدهري : الملحد القائل : بأن العالم موجود أزلا وأبداً ، لا صانع له.
8. أي خلق.
9. أي خلقه من العدم.
10. وعر الارض : صلب وصعب السير فيه ، ضد السهل.
11. المآرب : الحوائج.
12. وفي نسخة : هيئة الدار.
13. وفي نسخة : إثبات الصنعة.
14. في نسخة عزبت ، وفي نسخة اخرى : غبت ، وفي ثالثة : وعرت.
15. الذي وصف عليه السلام به هذا الدليل هو أنه أول الادلة أي أقرب الادلة منا إذا أردنا التفهم بالاستدلال ، وأما كونه أقواها كما ذكره رحمه الله فلعل هناك ما هو أقوى منه وإن كان أبعد من أفهامنا كما بيّن في محله. ط
16. المخاض : وجع الولادة وهو الطلق.
17. فظع الامر : اشتدت شناعته وجاوز المقدار في ذلك.
18. أي ضايع العقل.
19. أي يتعود ويتدرّب.
20. وفي نسخة : من المكافاة.
21. أي حفظهم وتعهّدهم.
22. وفي نسخة : يعرفه العارفون.
23. أي ضعف العقل وعجز الرأي.
24. أي اضطراب العقل واختلاله.
25. اللقوة : علة ينجذب لها شقّ الوجه الى جهة غير طبيعية ، فيخرج النفخة والبزقة من جانب واحد ، ولا يحسن التقاء الشفتين ، ولا ينطبق احدى العينين.
26. أي رافعة. وفي نسخة ناشرة.
27. التخليص : التصفية والتمييز عن غيره ، وذلك لان الكبد يحيل الكيلوس الى الخلط ، ويصفى الاخلاط كل واحد عن الاخر ، وينفذها الى البدن ، كلها في مجاري مهيأة له.
28. أي لاخراج الفضول.
29. بالنون المفتوحة والشين الساكنة ثم الهمزة . أو بالنون والشين المضمومتين والواو الساكنة ثم الهمزة.
30. أي جرى وسال. غار في الارض.
31. أي طرف الانف ، أوما لان من طرفه.
32. الارب : الحاجة.
33. أي انتهى إليها بغتة على غفلة منه.
34. أي حتى يملّوا ويضجروا به.
35. جمع الخلة وهي الخصلة.
36. وفي نسخة : إلا لانه خلق بعلم وبقدر.
37. نكّل به : صنع به صنيعاً يحذّر غيره ويجعله عبرة له.
38. وزان ارجوزة : ما بين العقدتين من القصب.
39. وفي نسخة : لو حبس.
40. دعم الشيء : أسنده لئلا يميل.
41. رشّف الماء أي بالغ في مصّه.
42. الفاس : آلة لقطع الخشب وغيره.
43. وزان الكتابة : حرفة النجار.
44. الصكة : الضرب الشديد أو اللطم.
45. الفرو : شيء كالجبة يبطّن من جلود بعض الحيوانات كالارانب والسمور.
46. العيبة الزنبيل من ادم. ما تجعل فيه الثياب كالصندوق. الادم : الجلود المدبوغة.
47. في نسخة : أترى من الاهمال يأتي بشيء من ذلك.
48. أقول : في بعض النسخ « اللولب » مكان الكوكب وهو آلة من خشب أو حديد ذات محور ، ذي دوائر ناتئة ، وهو الذكر ، أو داخلة وهو الانثى.
49. وفي نسخة : كأنه فرد من زوج مهنأ.
50.لم نجد في كلامه عليه السلام لفظة وزعته.
51. وفي نسخة : في أستر موضع منها.
52. رضّه : دقّه وجرشه.
53. المسامة : ثقبة ومنافذ كمنابت الشعر.
54. وفي نسخة : المانوية.
55. الابطين : باطن الكتفين.
56. وفي نسخة بعد.
57. أي يبعثه ويسوقه إليه.
58. وفي نسخة : وهي التي تطحنه.
59. تحرّى : طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن : أو طلب أحرى الامرين أي أولاهما.
60. أي لم يكف ولم يمتنع عن فاحشة.
مقتبس من كتاب : بحار الأنوار / الجزء : 3 / الصفحة : 57 ـ 151