جنّة آدم عليه السلام

البريد الإلكتروني طباعة

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ـ 35. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ـ 36. فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ـ 37. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ـ 38. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ـ 39.

( بيان )

قوله تعالى : قلنا يا آدم اسكن ، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم. لم يقع قصة الجنة إلا في ثلث مواضع :

احدهما : هيهنا من سورة البقرة.

الثاني : في سورة الاعراف. قال الله تعالى : « وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ : مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ. قَالَا : رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ : اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ. قَالَ : فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ » الآيات 19 ، 25.

والثالث : في سورة طه. قال الله تعالى : « وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا. وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ ، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَ. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ : يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ. فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ. قَالَ : اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ. قَالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا. قَالَ : كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَ ». الآيات. وسياق الآيات وخاصة قوله تعالى في صدر القصة : إني جاعل في الأرض خليفة يعطي أن آدم عليه السلام إنما خلق ليحيى في الأرض ويموت فيها وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض ، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه : فقلنا يا آدم ، وفي سورة الاعراف : ويا آدم أسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة ، وبالجملة فهو عليه السلام كان مخلوقاً ليسكن الأرض ، وكان الطريق الى الاستقرار في الأرض هذا الطريق ، وهو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته ، ثم أمرهم بالسجدة ، ثم إسكان الجنة . والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض ، فأخر العوامل للاستقرار في الأرض ، وانتخاب الحيوة الدنيوية ظهور السوأة ، وهي العورة بقرينة قوله تعالى : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني ويستلزم التغذي والنمو ايضاً فما كان لإبليس همّ إلا ابداء سوآتهما ، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية ، ولم يمهلا كثيراً ، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحيوة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة ، وانه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما ولما ينفصلا ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ليبدي لهما ما ووري عنهما ولم يقل ما كان ووري عنهما ، وهو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحيوة الدنيا إستدامة وإنما تمشّت دفعة ما واستعقب ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضياً محتوماً في الحيوة الأرضية ومع أكل الشجرة ، ولذلك قال تعالى : فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقی ، وقال تعالى : وأخرجهما مما كانا فيه وأيضاً هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما الى الجنة بل أهبطهما الى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحيوة الأرضية مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتماً مقضياً ، والرجوع الى الجنة مع ذلك محالاً ، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة ، فالعامل في خروجهما من الجنة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوآة ، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين ، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة : « وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ». ثم ساق تعالى القصة. فهل هذا العهد هو قوله تعالى : لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ؟ أو أنه قوله تعالى : ان هذا عدو لك ولزوجك أو أنه العهد بمعنی الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الإنسان ، ومن الأنبياء خاصة بوجه آكد وأغلظ.

والاحتمال الاول غير صحيح لقوله تعالى : « فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ » الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي ، وقد قال تعالى : « فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا » فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة وأما الاحتمال الثاني ( وهو ان يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع ابليس ) فهو وان لم يكن بالبعيد كل البعيد ، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم عليه السلام كما هو ظاهر الآية.

مع ان التحذير عن ابليس كان لهما معاً ، وأيضاً ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي ، لا العهد بمعنى التحذير عن ابليس ، قال تعالى : « فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ الآيات » فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية والعبودية أنسب منه مع التحذير من ابليس ، اذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر واتباع ابليس ، واما الميثاق على الربوبية فهو له انسب ، فان الميثاق على الربوبية هو ان لا ينسى الانسان كونه تعالى رباً له أي مالكاً مدبراً أي لا ينسى الإنسان أبداً ولا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئاً لا نفعاً وضراً ولا موتاً ولا حيوة ولا نشوراً ، أي لا ذاتاً ولا وصفاً ولا فعلاً.

والخطيئة التي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه والغفلة عنه بالإلتفات الى نفسه او ما يعود ويرجع الى نفسه من زخارف الحيوة الدنيا الفانية البالية هذا.

لكنك اذا امعنت النظر في الحيوة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وانحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه اذا نظر الى نفسه وكذلك الى الحيوة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات وانواع الآلام وضروب المكاره من موت وحياة ، وصحة وسقم ، وسعة واقتار ، وراحة وتعب ، ووجدان وفقدان.

على ان الجميع ( أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره ) مملوكة لربه ، لا استقلال لشيء منها وفيها ، بل الكل ممن ليس عنده الا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزتة وجلاله ، ولا يترشح من لدنه الا الجميل والخير ، فاذا نظر اليها وهي هكذا لم ير مكروهاً يكرهه ولا مخوفاً يخافه ، ولا مهيباً يهابه ، ولا محذوراً يحذره ، بل يرى كل ما يراه حسناً محبوباً الا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه ، وهو مع ذلك يكرهه لأمره ، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره ، لا شغل له إلا بربه ، كل ذلك لما يرى الجميع ملكاً طلقاً لربه لا نصيب ولا حظ لشيء غيره في شيء منها ، فما له ولمالك الأمر وما يتصرف به في ملكه ؟ من احياء واماتة ، ونفع وضر وغيرها ، فهذه هي الحيوة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه ، وسرور لا غم معه ، ووجدان لا فقد معه ، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه ، وفي مقابل هذه الحيوة حيوة الجاهل بمقام ربه ، اذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره الا رآه مستقلا بنفسه ضاراً أو نافعاً خيراً أو شراً فهو يتقلب في حيوته بين الخوف عما يخاف فوته ، والحذر عما يحذر وقوعه ، والحزن لما يفوته ، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو اعوان وساير ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره.

كلما نضج جلده بالإعتياد بمكروه والسكون الى مرارة بدّل جلداً غيره ، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق ، وحشى ذائب محترق ، وصدر ضيق حرج ، كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.

إذا عرفت هذا علمت : أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحيوة الدنيا واحد ، وان الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.

وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لاهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى : « فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ».

وبدل ذلك في هذه السورة بقوله : « فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ».

ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحيوة الدنيا وشقائها ، وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسياً لربه ، غافلا عن مقامه ، وأن آدم عليه السلام كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه ، فلم يتمكن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحيوة الدنيا ، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.

قوله تعالى : « وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا » الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت ، وقوم رغد ، ونساء رغد ، أي ذووا عيش رغيد.

وقوله تعالى : « وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ » وكأن النهي انما كان عن أكل الثمرة وانما تعلق بالقرب من الشجرة ايذاناً بشدة النهي ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى « فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا » الأعراف ـ 22.

وقوله تعالى : « فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا » طه ـ 121 ، فكانت المخالفة بالأكل فهو المنهي عنه بقوله : ولا تقربا.

قوله تعالى : فتكونا من الظالمين ، من الظلم لا من الظلمة على ما إحتمله بعضهم وقد إعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما : « رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ».

إلا أنه تعالى بدّل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله : فتكونا من الظالمين من قوله : فتشقى والشقاء هو التعب ثم فسر التعب وفصله ، فقال : « إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ الآيات ».

ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم انما كان هو الوقوع في تعب حيوة هذه الدنيا من جوع وعطش وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما انما هو ظلمهما لأنفسهما ، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه. ومن هنا يظهر أيضاً أن هذا النهي اعني قوله : ولا تقربا ، إنما كان نهياً تنزيهياً إرشادياً يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهياً مولوياً.

فهما انما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على ان جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل في موردهما ، فانهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا الى ما كانا فيه من الجنة ولولا أن التكليف إرشادي ليس له الا التبعة التكوينية دون التشريعية لإستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي انشاء الله.

قوله سبحانه : فأزلهما الشيطان ، الظاهر من هذه الجملة كنظايرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا ( بني آدم ) على نحو القاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.

لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه : « فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ » يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إياه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان : « يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ الآية » حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب ، ويدل ذلك على متكلم مشعور به.

وكذا قوله تعالى في سورة الأعراف : « وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ » والقسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.

وكذا قوله تعالى : « وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ » ، كل ذلك يدل على أنه كان يترآى لهما وكانا يشاهدانه.

ولو كان حالهما عليهما السلام مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا : ربنا اننالم نشعر وخلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره ، ولا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.

وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه ، والأنبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرّضه بهم لو تعرّض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وايوب واسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم هذا.

وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى : « مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ » حيث ينبیء عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة ، فقد كان دخل الجنة وصاحبهما وغرهما بوسوسته ، ولا محذور فيه اذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان ، والدليل على ذلك خروجهم جميعاً من هذه الجنة.

وأما قوله تعالى خطاباً لإبليس : « فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ » الأعراف ـ 13 ، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة ، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف.

قوله تعالى : « قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ الآية » ، ظاهر السياق أنه خطاب آدم وزوجته وإبليس وقد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال : « قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا الآية » ، فقوله تعالى : إهبطوا كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذريتهما ، وكذلك قضى به حيوتهم في الأرض وموتهم فيها وبعثهم منها.

وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله : « فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ الآية » وكما سيأتي في قوله تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الآية » ، من سورة الأعراف.

إن إسجاد الملائكة لآدم عليه السلام إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي ، فكان المسجود له آدم عليه السلام وحكم السجدة لجميع البشر ، فكان إقامة آدم عليه السلام مقام المسجود له معنوناً بعنوان الأنموذج والنائب.

وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنة ، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله الى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيرة القدس ، ومنزل الرفعة والقرب ، ودار نعمة وسرور ، وانس ونور ، ورفقاء طاهرين ، وإخلاء روحانيين ، وجوار رب العالمين.

ثم إنه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حيوة فانية ، وجيفة منتنة دانية ، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع اليه وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفراً واحل بنفسه دار البوار ، جهنم يصليها وبئس القرار.

قوله تعالى : « فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ » ، التلقي هو التلقن ، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقى كان هو الطريق المسهل لآدم عليه‌السلام توبته.

ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان : توبه من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة ، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.

وتوبة العبد ، محفوفة بتوبتين : من الله تعالى ، فان العبد لا يستغني عن ربه في حال من الاحوال ، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة ، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته ، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى : « ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا » التوبة ـ 118.

وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة ، وإن كانت القراءة الاخرى ( وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات ) لا تنافيه ايضاً.

وأما أن هذه الكلمات ما هي ؟ فربما يحتمل انها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله : « قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » الأعراف ـ 23 ، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله : « قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا الآية » قبل قوله : « قَالَ اهْبِطُوا » في سورة الاعراف ووقوع قوله « فَتَلَقَّىٰ آدَمُ » الآية بعد قوله : قلنا اهبطوا ، في هذه السورة لا يساعد عليه.

لكن هيهنا شيء : وهو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال : « إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » ، قالت الملائكة : « أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ الآية » وهو تعالى لم يرد عليهم دعويهم على الخليفة الأرضي بما رموه به ولم يجب عنه بشيء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها.

ولولا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب إعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم ولا تمت الحجة عليهم قطعاً . ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الاسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب ، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقاً بشيء من تلك الأسماء فافهم ذلك.

وإعلم أن آدم عليه السلام وإن ظلم نفسه في القائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا ، فلو وقف في مهبطه فقد هلك ، ولو رجع الى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه وظلمها ، فهو عليه السلام ظالم لنفسه على كل تقدير ، إلا أنه عليه السلام هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلة والمسكنة والحاجة والقصور وله في كل ما يصيبه من التعب والعناء والكد روح وراحة في حظيرة القدس وجوار رب العالمين ، فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون ، وله في أيام الدهر نفحات يرتاح بها إلا المتعرّضون.

فهذه التوبة هي التي إستدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونه ، فورائها تشريع الدين وتقويم الملة.

ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.

قال تعالى : « فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ » هود ـ 112 ، وقال : « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ » طه ـ 82 ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى : قلنا إهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى. وهذا أول ما شرّع من الدين لآدم عليه السلام وذريته ، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شيء الى يوم القيامة.

وأنت إذا تدبرت هذه القصة ( قصة الجنة ) وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذريته ، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والإستقرار في الأرض والحيوة فيها تلك الحيوة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن إقتراب الشجرة هذا.

وأن التوبة ثانياً : تعقب قضاء وحكماً ثانياً منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولاً كان نفس الحيوة الأرضية ، ثم بالتوبة طيّب الله تلك الحيوة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية ، فتألفت الحيوة من حيوة أرضية ، وحيوة سماوية.

وهذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى : « وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ الآية » وقال تعالى : « قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى » الآية.

وتوسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضاً فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.

يشعر بذلك أيضاً قوله تعالى : « وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ الآية » بعد ما قال لهما : لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة الى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبّر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم.

واعلم أن ظاهر قوله تعالى : « وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ الآية » وقوله تعالى : « قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ الآية » أن نحوه هذه الحيوة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط ، وان هذه حيوة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الارض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكوّن الانسان في الأرض ثم يعاد بالموت اليها ثم يخرج بالبعث منها.

فالحيوة الارضية تغاير حيوة الجنة فحيوتها حيوة سماوية غير أرضية.

ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء ، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.

نعم : يبقی الكلام في معنى السماء ولعلنا سنوفّق لإستيفاء البحث منه ، إن شاء الله تعالى.

بقى هنا شيء وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر وإن كان تحقق المعصية والخطيئة منه عليه السلام كما قال تعالى : فتكونا من الظالمين ، وقال تعالى : وعصى آدم ربه فغوى الآية ، وكما إعترف به فيما حكاه الله عنهما : « رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الآية ».

لكن التدبر في آيات القصة والدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهياً مولوياً وانما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والإرادة المولوية.

ويدل على ذلك اولا : أنه تعالى فرّع على النهي في هذه السورة وفي سورة

الأعراف أنه ظلم حيث قال : « لَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ » ثم بدله في سورة طه من قوله : فتشقى مفرعاً إياه على ترك الجنة. ومعنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له : « إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ ، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ » الآيات.

فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي ، الذي تستتبعه هذه الحيوة الأرضية من جوع وعطش وعراء وغير ذلك.

فالتوقي من هذه الامور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة اخرى مولوية فالنهي إرشادي ، ومخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية ، وتعدياً عن طور العبودية وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضاً في ما ورد من الآيات ظلمهما على انفسهما في القائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية والعبودية وهو ظاهر.

وثانياً : أن التوبة ، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب ، والمعصية كأنها لم تصدر ، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد ، وفي مورد فعله معاملة الإمتثال والانقياد.

ولو كان النهي عن أكل الشجرة مولوياً وكانت التوبة توبة عن ذنب عبودي ورجوعاً عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما الى الجنة مع انهما لم يرجعا.

ومن هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهى للخروج من الجنة كان إستتباعاً ضرورياً تكوينياً ، نظير إستتباع السم للقتل والنار للإحراق ، كما في وارد التكاليف الإرشادية لا استتباعاً من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية ، كدخول النار لتارك الصلوة ، وإستحقاق الذم واستيجاب البعد في المخالفات العمومية الإجتماعية المولوية.

وثالثاً : أن قوله تعالى : « قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، الآيات ».

وهو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه ورسله ، يحكى عن اول تشريع شرّع للانسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم وذريته ، وقد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط ومن الواضح ان الامر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة واقتراف الخطيئة ، فلم يكن حين مخالفة النهي واقتراب الشجرة لا دين مشروع ولا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي ، ولا معصية مولوية.

ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولإبليس وهو قبل خطاب لا تقربا ، خطاباً مولوياً لان المكلف غير المكلف.

فإن قلت : إذا كان النهي نهياً إرشادياً لا نهياً مولوياً فما معنى عدّه تعالى فعلهما ظلماً وعصياناً وغواية ؟.

قلت : اما الظلم فقد مرّ أن المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى ، وأما العصيان فهو لغة عدم الإنفعال أو الإنفعال بصعوبة كما يقال : كسرته فإنكسر وكسرته فعصى ، والعصيان وهو عدم الإنفعال عن الأمر أو النهي كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الإرشادية.

وأما تعيّن معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صلّ ، أم صم ، أو حجّ ، أو لا تشرب الخمر ، أو لا تزن ونحو ذلك فهو تعيّن بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضرّ بعموم المعنى بحسب اللغة والعرف العام هذا.

وأما الغواية فهو عدم إقتدار الإنسان مثلاً على حفظ المقصد وتدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد ويلائمه.

وواضح أنه يختلف بإختلاف الموارد من إرشاد ومولوية.

فإن قلت : فما معنى التوبة حينئذ وقولهما : « وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ؟ ».

قلت : التوبة كما مر هي الرجوع ، والرجوع يختلف بحسب إختلاف موارده.

فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده وإرادته أن يتوب اليه ، فيرد اليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهياً إرشادياً عن أكل شيء معين من الفواكه والمأكولات ، وانما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته وعافيته فلم ينته المريض عن نهيه فإقترفه فتضرّر فأشرف على الهلاك.

يجوز ان يتوب إلى الطبيب ليشير اليه بدواء يعيده الى سابق حاله وعافيته ، فيذكر له ان ذلك محتاج إلى تحمل التعب والمشقة العناء والرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الأولية بل إلى اشرف منها وأحسن ، هذا.

وأما المغفرة والرحمة والخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائرها في إختلافها بحسب إختلاف مواردها ، هذا.

( بحث روائي )

في تفسير القمي عن أبيه رفعه قال : سئل الصادق عليه السلام عن جنة آدم أمن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقال عليه السلام : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً ، قال عليه السلام : فلما أسكنه الله الجنة وأباحها له الا الشجرة ، لأنه خلق خلقة لا يبقى الا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والإكتنان والنكاح ، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره الا بالتوفيق ، فجائه إبليس فقال له : إنكما ان أكلمتا من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين ، وبقيتما في الجنة أبداً ، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة ، وحلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز وجل حكاية عنه : « ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة » فكانا كما حكى الله ، فبدت لهما سوأتهما ، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة ، وأقبلا يستتران من ورق الجنة ، وناديهما ربهما : ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ، فقالا كما حكى الله عنهما : ربنا ظلمنا انفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما : إهبطا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين ، قال : أي يوم القيامة ، قال : فهبط آدم على الصفا ، وإنما سميت الصفا لأن صفي الله أنزل عليها ، ونزلت حواء على المروة وانما سميت المروة لأن المرئة أنزلت عليها ، فبقي آدم أربعين صباحاً ساجداً يبكي على الجنة ، فنزل عليه جبرئيل ، فقال أليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ؟ قال : بلى ، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته ؟ قال آدم : إن ابليس حلف لي بالله كاذباً.

اقول : وفي كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.

والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد ، كما يشير اليه بعض فقرات الرواية كقوله : فهبط آدم على الصفا ، وكقوله : ونزلت حوا على المروة ، وكقوله : إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثاً في الأرض طبقاً لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثاً في الارض كما يشير اليه قوله تعالى : « قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ، قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ » المؤمنون ـ 114 ، وقوله تعالى : « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » الروم ـ 56 ، على أن عدة من الروايات المنقولة عن اهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء ، وأنهما نزلا من السماء ، على ان المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء والهبوط منها الى الارض مع كونهما خلقا في الأرض وعاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء ووقوع سؤال القبر فيه وكونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وغير ذلك وارجو أن يرتفع هذا الاشكال وما يشاكله من الاشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء انشاء الله العزيز.

وأما كيفية مجيء ابليس اليهما ، وما إتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح والمعتبرة من الروايات خالية عن بيانها.

وفي بعض الأخبار ذكر الحية والطاووس عونين لإبليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة ، أضربنا عن ذكرها وكأنها من الأخبار الدخيلة ، والقصة مأخوذه من التوراة وهاك لفظ التوراة في القصة بعينه :

قال في الفصل الثاني من السفر الأول وهو سفر الخليقة : وإن الله خلق آدم تراباً من الأرض ، ونفخ في انفه الحيات ، فصار آدم نفساً ناطقاً ، وغرس الله جناناً في عدن شرقياً ، وصير هناك آدم الذي خلقه ، وأنبت الله من الأرض كل شجرة ، حسن منظرها وطيب مأكلها ، وشجرة الحياة في وسط الجنان ، وشجرة معرفة الخير والشر ، وجعل نهراً يخرج من عدن ليسقى الجنان ، ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس ، إسم أحدها النيل ، وهو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب ، وذهب ذلك البلد جيد ، ثم اللؤلؤ وحجارة البلور ، وإسم النهر الثاني جيحون ، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة ، وإسم النهر الثالث دجلة ، وهو يسير في شرقي الموصل ، واسم النهر الرابع هو الفرات ، فأخذ الله آدم وأنزله في جنان عدن ليفلحه وليحفظه وأمر الله آدم قائلا : من جميع شجر الجنان جايز لك أن تأكل ، ومن شجرة معرفة الخير والشر لا تأكل ، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت ، وقال الله لا خير في بقاء آدم وحده ، اصنع له عوناً حذاه ، فحشر الله من الارض جميع وحش الصحراء وطير السماء وأتى بها الى آدم ليريه ما يسميها ، فكل ما سمى آدم من نفس حية بإسم هو إسمه إلى الآن.

فأسمی آدم أسماء لجميع البهائم وطير السماء وجميع وحش الصحراء ولم يجد آدم عوناً حذاه ، فأوقع سباتاً على آدم لئلا يحس فنام ، فاستل إحدى أضلاعه وسد مكانها اللحم ، وبنى الله الضلع التي أخذ إمرأة ، فأتى بها إلى آدم ، وقال آدم هذه المرة شاهدت عظماً من عظامي ، ولحماً من لحمي ، وينبغي أن تسمى إمرأة لأنها من أمري أخذت ، ولذلك يترك الرجل أباه وامه ويلزم زوجته ، فيصيران كجسد واحد.

وكانا جميعاً عريانين آدم وزوجته ولا يحتشمان من ذلك.

الفصل الثالث : والثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أيقيناً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان ؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل ، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه ، ولا تدنوا به كيلا تموتا ، قال لهما لستما تموتان ، ان الله عالم انكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما وتصيران كالملائكة عارفي الخير والشر بزيادة ، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر ، منى للعقل ، أخذت من ثمرها فأكلت ، وأعطت بعلها فأكل معها ، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مأزر ، فسمعا صوت الله ماراً في الجنان برفق في حركة النهار ، فأستخبأ آدم وزوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان ، فنادى الله آدم ، وقال له مقرراً : أين أنت ؟ قال : إني سمعت صوتك في الجنان فإتقيت إذ أنا عريان فإستخبأت ، قال : من أخبرك إنك عريان ؟ أمن الشجرة التي نهيتك عن الأكل منها أكلت ؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت ، قال الله للمرأة : ماذا صنعت ؟ قالت : الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان : إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم وجميع وحش الصحراء وعلى صدرك تسلك وتراباً تأكل طول أيام حياتك ، واجعل عداوة بينك وبين المرأة ، وبين نسلك ونسلها ، وهو يشدخ منك الرأس وأنت تلذعه في العقب ، وقال للمرأة : لأكثرن مشقتك وحملك ، وبمشقة تلدين الأولاد ، وإلى بعلك يكون قيادك ، وهو يتسلط عليك.

وقال لآدم : إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك ، وشوكاً ودردراً تنبت لك ، وتأكل عشب الصحراء ، بعرق وجهك تأكل الطعام الى حين رجوعك الى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب والى التراب ترجع ، وسمى آدم زوجته حواء لأنها كانت ام كل حي ناطق ، وصنع الله لآدم وزوجته ثياب بدن والبسهما ، ثم قال الله ، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير والشر ، والآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل فيحيي الى الدهر ، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الارض التي أخذ منها ، ولما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة ، ولمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحيوة.

انتهى الفصل من ( التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية ) ، وانت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن والتوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة والخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا اضربنا عن الغور في بيانها والبحث عنها لأن الكتاب غير موضوع لذلك.

واما دخول ابليس الجنة واغوائه فيها وهي ( أولاً ) مقام القرب والنزاهة والطهارة وقد قال تعالى : « لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ » الطور ـ 23 ، وهي ( ثانياً ) في السماء وقد قال تعالى خطاباً لإبليس حين إبائه عن السجدة لآدم : « فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ » الحجر ـ 34 ، وقال تعالى : « فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا » الأعراف ـ 13.

فالجواب عن الأول كما ربما يقال أن القرآن انما نفى من وقوع اللغو وتأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة وجنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت والإرتحال عن دار التكليف ، وأما الجنة التي ادخل فيها آدم وزوجته وذلك قبل إستقرار الإنسان في دار التكليف وتوجه الأمر والنهي فالقرآن لم ينطق فيه بشيء من ذلك ، بل الأمر بالعكس وناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو والتأثيم من الامور النسبية التي لا تتحقق الا بعد حلول الإنسان الدنيا وتوجه الأمر والنهي اليه وتلبسه بالتكليف.

والجواب عن الثاني اولا : ان رجوع الضمير في قوله : فأخرج منها ، وقوله : فاهبط منها الى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقاً وعدم العهد بها ، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة والهبوط منها ببعض العنايات ، أو الخروج والهبوط من المنزلة والكرامة.

وثانياً : أنه يجوز أن يكون الأمر بالهبوط والخروج كناية عن النهي عن المقام هناك بين الملائكة ، لا عن أصل الكون فيها بالعروج والمرور من غير مقام واستقرار كالملائكة ، ويلوح اليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من إستراق السمع ، وقد روي أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى الى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها ، ثم لما ولد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منعوا من جميع السموات وخطفوا بالخطفة.

وثالثاً : أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للإستشكال ، وإنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات وهي آحاد غير متواترة مع إحتمال النقل بالمعنى من الراوي.

واقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن ابليس « وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ » « الأعراف 20 » حيث أتى بلفظة هذه وهي للاشارة من قريب ، لكنها لو دلت هيهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى : « وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ » الأعراف ـ 19 ، على مثله فيه تعالى.

وفي العيون عن عبد السلام الهروي قال : قلت للرضا عليه السلام : يا بن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت ؟ فقد إختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة ، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد ، فقال : كل ذلك حق ، قلت : فما معنى هذه الوجوه على إختلافها ؟ فقال : يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعاً ، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا ، وان آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له ، وبإدخاله الجنة ، قال : هل خلق الله بشراً أفضل مني ؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه إرفع رأسك يا آدم وأنظر إلى ساق العرش ، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوباً لا إله إلا الله ومحمد رسول الله علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، فقال آدم : يا رب من هؤلاء ؟ فقال عز وجل يا آدم هؤلاء ذريتك ، وهم خير منك ومن جميع خلقي ، ولولاهم ما خلقتك ولا الجنه ولا النار ولا السماء ولا الارض ، فإياك أن تنظر اليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري ، فنظر اليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها ، وتسلط علی حواء فنظرت إلی فاطمة بعين الحسد حتی أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنتة واهبطهما من جواره إلى الارض.

اقول : وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب وبعضها أجمل وأوجز.

وهذه الرواية كما ترى سلّم عليه السلام فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة وشجرة الحسد وإنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها وحسدا وتمنّيا منزلة محمد وآله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ومقتضى المعنى الاول أن الشجرة كانت أخفض شأناً من أن يميل إليها ويشتهيها أهل الجنة ، ومقتضى الثاني أنها كانت ارفع شأناً من ان ينالها آدم وزوجته كما في رواية اخرى إنها كانت شجرة علم محمد وآله.

وبالجملة لهما معنيان مختلفان ، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد وان ادم عليه السلام أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة وهو مقام القرب من الله وفيها الميثاق ان لا يتوجه إلى غيره تعالى وبين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الارض ونسي الميثاق فلم يجتمع له الامران وهو منزلة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثم هداه الله بالإجتباء ونزعه بالتوبة من الدنيا ، وألحقه بما كان نسيه من الميثاق فإفهم.

وقوله عليه السلام : فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمنى منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الاخلاق الرذيلة.

وبالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين عن الثمالي عن ابي جعفر عليه السلام ، قال : إن الله عز وجل عهد إلى آدم ان لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وذلك قول الله عز وجل ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزماً ، الحديث.

وبين ما رواه العيّاشي في تفسيره عن أحدهما وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان ؟ فقال : إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكر ويقول له إبليس : ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث. والوجه فيه واضح.

وفي أمالي الصدوق عن أبي الصلت الهرويّ ، قال : لمّا جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى ألزم حجَّته كأنه ألقم حجراً فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له : يا بن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء ؟ قال : بلى ، قال : فما تعمل بقول الله عز وجل : « وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ؟ » إلى أن قال : فقال مولانا الرضا عليه السلام : ويحك يا علي إتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأوَّل كتاب الله عز وجل برأيك فإن الله عز وجل يقول : « وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ». أما قوله عز وجل في آدم : « وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ » فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل : « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ » الحديث.

اقول : قوله : وكانت المعصية في الجنة الخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الدينى المولوي لم يكن مجعولاً في الجنة بعد ، وإنما موطنه الحيوة الأرضية المقدرة لآدم عليه السلام بعد الهبوط إلى الأرض ، فالمعصية إنما كانت معصية لأمر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسّف التأويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.

وفي العيون عن علي بن محمد بن الجهم ، قال : حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون ؟ فقال بلى ، قال فما معنى قول الله تعالى : فعصى آدم ربه فغوى ؟ قال : إن الله تعالى قال لآدم : اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة وأشار لهما الى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين ، ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال : ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين او تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير إستحق به دخول النار ، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي اليهم ، فلما إجتباه الله وجعله نبياً كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عز وجل : « وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ » ، وقال عز وجل : « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ » الحديث.

اقول : قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله : والحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم السلام إنتهى.

وما أعجبه منه إلا ما شاهده من إشتماله على تنزيه الأنبياء من غير أن يمعن النظر في الاصول المأخوذة فيه ، فما نقله من جوابه عليه السلام في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الأنبياء من الصغاير والكبائر قبل النبوة وبعدها.

على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى : « مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا » ، إلى مثل قولنا : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نهاكما عن غيرها وما نهاكما عن غيرها الا ان تكونا الخ . على ان قوله تعالى « مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ » ، وقوله تعالى « قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ الآية » ، يدل على ان إبليس إنما كان يحرضهما على الأكل من شخص الشجرة المنهية تطميعاً في الخلود والملك الذي حجب عنه بالنهي ، على ان الرجل أعني عليّ بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق ، فالرواية لا تخلو عن شيء وإن كان بعض هذه الوجوه ممكن الإندفاع هذا.

وروى الصدوق ، عن الباقر عليه السلام عن آبائه عن علي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال : إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من ايام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليه السلام وأنا حاضر : كم لبث آدم وزوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برء زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك ، فوالله ما إستقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله تعالى ، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس وصيّرا بفناء الجنة حتى اصبحا فبدت لهما سوآتهما وناديهما ربهما : الم انهكما عن تلكما الشجرة فاستحيى ادم فخضع وقال : ربنا ظلمنا أنفسنا وإعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا ، قال الله لهما إهبطا من سمواتي إلى الارض ، فانه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سمواتي.

اقول : ويمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما وأنه كان أولاً من الجنة إلى فنائها ومن فنائها إلى الارض من تكرر الأمر بالهبوط في الآية مع كونه أمراً تكوينياً غير قابل التخلف ، وكذا من تغيير السياق في قوله تعالى : « وَقُلْنَا : يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، الى أن قال : وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ الآية » ، وقوله تعالى : وناديهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، الآية ، حيث عبَّر في الاول بالقول وبالإشارة القريبة وفي الثاني بالنداء والإشارة البعيدة ، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل اضلاع آدم كما إشتملت عليه التوراة ، والروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجيء في البحث عن خلقة آدم ، وان أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة ادم مما يلي أضلاعه هذا ، واما ساعات مكثه في الجنة ، وأنها ستة أو سبعة فالأمر فيها هين فانما هو تقريب.

وفي الكافي : عن أحدهما عليه السلام في قوله تعالى : فتلقى ادم من ربه كلمات ، قال : لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فإرحمني وأنت خير الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم.

اقول : وروى هذا المعنى الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ، وعن طرق أهل السنة والجماعة أيضاً ما يقرب من ذلك ، وربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة.

وقال الكليني في الكافي : وفي رواية اخرى في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات قال : سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

اقول : وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ، وروي ما يقرب من ذلك من طرق اهل السنة والجماعة ايضاً كما رواه في الدر المنثور عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه الى السماء فقال : أسألك بحق محمد الا غفرت لي فأوحى الله اليه ، ومن محمد ؟ قال : تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فاذا فيه مكتوب لا إله الا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس احد عندك اعظم قدراً ممن جعلت إسمه مع اسمك فاوحى الله اليه يا آدم انه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك.

اقول : وهذا المعنى وإن كان بعيداً عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن اشباع النظر والتدبر فيها ربما قرب ذلك تقريباً ، إذ قوله : فتلقى آدم ، يشتمل على معنى الأخذ مع الإستقبال ، ففيه دلالة على اخذ آدم هذه الكلمات من ربه ، ففيه علم سابق على التوبة ، وقد كان عليه السلام تعلم من ربه الاسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة : اني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : اني اعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة ودواء كل داء وإلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم : يفسد فيها ويسفك الدماء شيئاً ولم يقابلهم بشيء دون ان علم آدم الأسماء كلها ففيه اصلاح كل فاسد ، وقد عرفت ما حقيقة هذه الاسماء ، وانها موجودات عالية مغيبة في غيب السموات والارض ، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها ، لا يتم كمال لمستكمل الا ببركاتها وقد ورد في بعض الأخبار أنه رأى اشباح اهل البيت وانوارهم حين علم الاسماء ، وورد أنه رآها حين اخرج الله ذريته من ظهره ، وورد ايضاً انه رآها وهو في الجنة فراجع والله الهادي. وقد ابهم الله امر هذه الكلمات في قوله : فتلقى ادم من ربه كلمات الآية حيث نكرها ، وورد في القرآن : إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحاً في قوله : « بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » آل عمران ـ 45.

وأما ما ذكره بعض المفسرين : ان الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الاعراف بقوله : « قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » الآية ، ففيه : أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الارض ، قال تعالى : « وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ » إلى أن قال : « فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ » الآيات وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنة كما في سورة الأعراف ، قال تعالى : « وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ » إلى ان قال : « قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا » إلى أن قال : « قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ » الآيات ، بل الظاهر ان قولهما : ربنا ظلمنا انفسنا ، تذلل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الأمر الى الله سبحانه كيف يشاء بعد الإعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.

وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام قال : ان موسى سأل ربه ان يجمع بينه وبين آدم ، فجمع فقال له موسى : يا أبت ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك الملائكة وأمرك أن لا تأكل من الشجرة ؟ فلم عصيته ؟ قال : يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية ؟ قال بثلثين الف سنة ؛ قال : فقال : هو ذاك ، قال الصادق عليه السلام فحجج آدم موسى.

اقول : وروى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وفي العلل : عن الباقر عليه السلام : والله لقد خلق الله آدم للدنيا ، وأسكنه الجنة ليعصيه فيرده الى ما خلقه له.

اقول : وقد مرّ رواية العياشي عن الصادق عليه السلام : في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.

وفي الاحتجاج : في احتجاج علي مع الشامي حين سأله : عن أكرم وادٍ على وجه الأرض ، فقال عليه السلام : وادٍ يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.

اقول : وتقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة وقد مر بعضها ويمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولاً بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة وليس بنزولين عرضيّين هذا.

وفي الدر المنثور عن الطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أرأيت آدم أنبيّاً كان ؟ قال : نعم كان نبياً رسولاً ، كلّمه الله قبلاً ، قال له : يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.

اقول : وروى أهل السنَّة والجماعة قريباً من هذا المعنى بعدة طرق.

مقتبس من كتاب : الميزان في تفسير القرآن / الجزء : 1 / الصفحة : 125 ـ 150

 

أضف تعليق

الأنبياء عليهم السلام

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية

أربعة + ثلاثة =