روى الكليني عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد مرفوعاً قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه (1) ، ثم قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر ، فقال له الشيخ عند الله أحتسب عنائي (2) يا أمير المؤمنين ؟ فقال له : مه يا شيخ ! فوالله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.
فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟ فقال له : وتظن أنه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً ؟ إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها.
إن الله تبارك وتعالى كلف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يملك مفوضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، فأنشأ الشيخ يقول :
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته |
يوم النجاة من الرحمن غفراناً |
|
أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً |
جزاك ربك بالإحسان إحساناً (3) |
وقال الرضي : ومن كلام له ( عليه السلام ) للسائل الشامي لما سأله : أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر ؟ بعد كلام طويل هذا مختاره :
ويحك ! لعلك ظننت قضاء لازماً ، وقدراً حاتماً ! ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد . وإن الله سبحانه أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يرسل الأنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثاً ، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً : « ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار » (4).
روى هذا النص من الإمام مشايخ الحديث في القرن الثالث والرابع منهم :
1 ـ ثقة الإسلام الكليني ( ت حوالي 250 ـ م 329 ) في جامعه « الكافي » ج 1 ص 155 بسند مرفوع.
2 ـ الصدوق ( ت 306 ـ م 381 ) في توحيده ص 273 ، وفي عيون أخبار الرضا ج 1 ص 138 بأسانيد ثلاثة.
3 ـ أبو محمد الحسن بن علي الحسيني بن شعبة الحراني الذي يروي عن أبي علي محمد بن الهمام الإسكافي الذي ( توفي عام 336 ) فالرجل من أعلام أواسط القرن الرابع.
4 ـ الشيخ المفيد ( ت 336 ـ م 413 ) في كتابه « العيون والمحاسن » ص 40.
5 ـ محمد الرضي جامع نهج البلاغة ( ت 359 ـ م 406 ).
6 ـ محمد بن علي الكراجكي ( م 449 ) في كتابه « كنز الفوائد » ص 169.
وهؤلاء أساتذة الحديث عند الشيعة لا يمتون للإعتزال ولا للمعتزلة بصلة بل يصارعونهم في كثير من المسائل والمبادیء ولبعضهم ردود على المعتزلة في بعض المجالات كما ستوافيك أسماؤها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة ، وبعد هذا لا يصح تقوُّل بعض المتحذلقين كالدكتور علي سامي النشار حيث رأى أن هذا النص موضوع على لسان علي (ع) ببراعة نادرة يرى فيه محاكاة ممتازة بأسلوب علي (ع) بحجة أنه ورد فيه جميع المصطلحات المعتزلية (5).
يلاحظ عليه : أن الكاتب لم يتحمل جهد التتبع حتى يقف على مصادر الحديث في كتب الشيعة في القرن الثالث والرابع فألقى الكلام على عواهنه فحكم بوضع النص وقد عرفت وجوده في كتب الشيعة الذين كانوا هم والمعتزلة متصارعين وأما ما تمسك به من وجود مصطلحات المعتزلة في الكلام فهو ناشیء عن عدم إلمام الرجل بتاريخ تكوّن المعتزلة فإنهم أخذوا أكثر مبادئهم من خطب الإمام علي (ع) في التوحيد والعدل مضافاً إلى أن « عطاء بن واصل » مؤسس المنهج تتلمذ على يد « أبي هاشم » ولد « محمد بن الحنفية » ، وهو أخذ عقائده عن أبيه وهو عن علي (ع) وهذا شيء قطعي في التاريخ ولا ينكره إلا المتعصب وهو مما تعترف به أئمة الاعتزال كما سيوافيك نصوصهم في الجزء الثالث إن شاء الله.
إن مسألة القضاء والقدر وكون الإنسان مخيراً أو مسيراً ليست من المسائل التي طرحتها المعتزلة بل من المسائل القديمة التي كانت مطروحة عند جميع الأمم وقد عرفت عقيدة المشركين المعاصرين للنبي الأكرم كما عرفت بعض الأحاديث المروية عن الخلفاء حول القدر والجبر فلو كان وجود تلك المصطلحات شاهداً على وضع النص فليكن ذلك شاهداً على كون أحاديث القدر بأجمعها موضوعة لاشتمالها على مصطلحات لم تكن موجودة في عصر الرسول الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ).
والعجب العجاب أن الدكتور ينكر النص ولكنه يصحح روايات أبي هريرة ويقول : « وقد أكثر حقاً من روايات الحديث لكثرة ملازمة الرسول » (6).
ولا أظن من درس تاريخ حياة أبي هريرة أن يوافق الدكتور في هذا الرأي فإنه أسلم بعد خيبر وما أدرك من حياة الرسول إلا سنتين وبضعة أشهر ومع ذلك فهو أكثر الصحابة حديثاً.
فيفوق عدد أحاديثه أحاديث عائشة وعلي (ع) مع أن علياً (ع) عاش في كنف النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من لدن ولادته إلى أن لبى الرسول دعوة ربه فمرويات الإمام في الصحاح والمسانيد حوالي خمسمائة حديث ومرويات أبي هريرة تناهز خمسة آلاف حديث.
الهوامش
1. جثا يجثوا جثواً وجثياً بضمهما : جلس على ركبتيه وأقام على أطراف أصابعه. والتلعة ما ارتفع من الأرض.
2. أي منه أطلب أجر مشقتي.
3. الكافي : ج 1 كتاب التوحيد باب الجبر والقدر ص 155 ـ 156.
4. نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 78.
5. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج 1 ص 412.
6. المصدر السابق : ج 1 ص 285.
مقتبس من كتاب : بحوث في الملل والنحل / المجلّد : 1 / الصفحة : 264 ـ 267