الإمام الهادي عليه السلام يوضح أصول التوحيد
١. ردَّ الإمام عليه السلام ما نسبه المجسمة الى رسول الله صلّى الله عليه وآله من أحاديث عن رؤية الله تعالى بالعين . قال أحمد بن إسحاق الأشعري وهو من كبار علماء قم : « كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس فكتب : لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواءٌ ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ، وكان في ذلك الإشتباه ، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الإشتباه ، وكان ذلك التشبيه . لأن الأسباب لابد من اتصالها بالمسبّبات » . [ الكافي : ١ / ٩٧ ].
٢. في الإحتجاج « ٢ / ٢٥٠ » : « سئل أبوالحسن عليه السلام عن التوحيد فقيل له : لم يزل الله وحده لا شيء معه ثمّ خلق الأشياء بديعاً ، واختار لنفسه الأسماء ، ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة ؟
فكتب : لم يزل الله موجوداً ثم كَوَّنَ ما أراد ، لا رادَّ لقضائه ولا مُعقب لحكمه ، تاهت أوهام المتوهمين ، وقصر طُرُف الطارفين ، وتلاشت أوصاف الواصفين ، واضمحلت أقاويل المبطلين ، عن الدَّرْكِ لعجيب شأنه ، أو الوقوع بالبلوغ على عُلُوِّ مكانه ، فهو بالموضع الذي لايتناهى ، وبالمكان الذي لم تقع عليه عيون بإشارة ولا عبارة . هيهات هيهات » !
٣. وفي التوحيد للصدوق / ٦١ : « عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، قال : لقيته عليه السلام على الطريق عند منصرفي من مكّة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول : من اتّقى الله يُتقى ، ومن أطاع الله يطاع . فتلطفت في الوصول إليه فوصلت فسلّمت فردّ عليّ السلام ، ثمّ قال : يا فتح من أرضى الخالق لم يبالِ بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فَقَمِنٌ أن يُسلط عليه سخط المخلوق ، وإن الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الإحاطة به. جلَّ عما وصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، فهو في بُعده قريب ، وفي قربه بعيد ، كيَّف الكيف فلا يقال له : كيف. وأيَّن الأينَ فلا يقال له أين ، إذ هو مبدع الكيفوفية والأينونية.
يا فتح : كل جسم مُغَذَّى بغذاء إلّا الخالق الرزاق ، فإنه جَسَّمَ الأجسام ، وهو ليس بجسم ولا صورة ، لم يتجزأ ، ولم يتناه ، ولم يتزايد ، ولم يتناقص ، مبرأٌ من ذات ، ما رُكب في ذاتٍ من جسمه.
وهو اللطيف الخبير ، السميع البصير ، الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، منشئ الأشياء ، ومجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور.
لو كان كما يقول المشبهة ، لم يعرف الخالق من المخلوق ، ولا الرازق من المرزوق ولا المنشئ من المنشأ ، لكنّه المنشئ ، فرق بين من جَسَّمَهُ وصَوَّرَه وشَيَّأَه وبيَّنه ، إذ كان لا يشبهه شيء.
قلت : فالله واحد والإنسان واحد ، فليس قد تشابهت الوحدانيّة ؟
فقال : أَحَلْتَ ثبتك الله ، إنما التشبيه في المعاني ، فأمّا في الأسماء فهي واحدة ، وهي دلالة على المسمّى ، وذلك أن الإنسان وإن قيل واحد ، فإنه يخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين ، والإنسان نفسه ليس بواحد ، لأن أعضاءه مختلفة ، وألوانه مختلفة غير واحدة ، وهو أجزاء مجزأة ليس سواء ، دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق ، فالإنسان واحد في الإسم ، لا واحد في المعنى ، والله جلّ جلاله واحد لا واحد غيره ، ولا اختلاف فيه ، ولا تفاوت ، ولا زيادة ، ولا نقصان.
فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف ، فمن أجزاء مختلفة وجواهر شتّى ، غير أنه بالإجتماع شيء واحد.
قلت : فقولك : اللطيف فسّره لي ، فإنّي أعلم أنّ لطفه خلاف لطف غيره للفصل غير أنّي أحبّ أن تشرح لي ، فقال : يا فتح إنمّا قلت : اللطيف للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف ، ألا ترى إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف وفي الخلق اللطيف من أجسام الحيوان من الجرجس والبعوض وما هو أصغر منهما ممّا لا يكاد تستبينه العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى ، والمولود من القديم ، فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد والهرب من الموت ، والجمع لما يصلحه بما في لجج البحار ، وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار ، وإفهام بعضها عن بعض منطقها ، وما تفهم به أولادها عنها ، ونقلها الغذاء إليها ، ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة ، علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف ، وأنّ كلّ صانعِ شيء فمن شيء صنع ، والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء.
قلت : جعلت فداك وغير الخالق الجليل خالق ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى يقول : فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. فقد أخبر أن في عباده خالقين منهم عيسى بن مريم ، خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، فنفخ فيه فصار طائراً بإذن الله ، والسامري خلق لهم عجلاً جسداً له خوار.
قلت : إن عيسى خلق من الطين طيراً دليلاً على نبوته ، والسامري خلق عجلاً جسداً لنقض نبوة موسى ، وشاء الله أن يكون ذلك كذلك ، إن هذا لهو العجب !
فقال : ويحك يا فتح إن لله إرادتين ومشيتين إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أوما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ، ولو لم يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لغلبت مشيّتهما مشيّة الله. وأمر إبراهيم يذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام ، وشاء أن لا يذبحه ، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشية إبراهيم مشيئة الله عزّ وجلّ !
قلت : فَرَّجْتَ عنّي فَرَّجَ الله عنك ، غير أنّك قلت : السميع البصير ، سميع بالأذن وبصير بالعين ؟ فقال : إنّه يسمع بما يبصر ، ويرى بما يسمع ، بصير لا بعين مثل عين المخلوقين ، وسميع لا بمثل سمع السامعين ، لكن لما لم يخف عليه خافية من أثر الذرة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار ، قلنا : بصير ، لا بمثل عين المخلوقين. ولما لم يشتبه عليه ضروب اللغات ، ولم يشغله سمع عن سمع ، قلنا : سميع ، لا مثل سمع السامعين.
قلت : جعلت فداك قد بقيت مسألة ، قال : هات لله أبوك.
قلت : يعلم القديم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ؟
قال : ويحك إن مسائلك لصعبة ، أما سمعت الله يقول : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا. وقوله : وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ. وقال يحكي قول أهل النار : رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. وقال : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، فقد علم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون.
قال : ويحك إن مسائلك لصعبة ، أما سمعت الله يقول : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا. وقوله : وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ. وقال يحكي قول أهل النار : رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. وقال : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، فقد علم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون.
فقمت لأقبل يده ورجله ، فأدنى رأسه فقبلت وجهه ورأسه ، وخرجت وبي من السرور والفرح ما أعجز عن وصفه ، لما تبينت من الخير والحظّ.
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : إن الله تبارك وتعالى نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وقد علم أنّهما يأكلان منها ، لكنّه عزّ وجلّ شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة ، كما منعهما من الأكل منها بالنهي والزجر ، فهذا معنى مشيته فيهما ، ولو شاء عزّ وجلّ منعهما من الأكل بالجبر ، ثمّ أكلا منها لكانت مشيّتهما قد غلبت مشيته ، كما قال العالم عليه السلام ».
٤. ورواه المسعودي في إثبات الوصية [ ١ / ٢٣٥ ] ، بلفظ آخر وفيه : « كيَّفَ الكيفَ فلا يقال كيف ، وأيَّنَ الأينَ فلا يقال أين ، إذ هو منقطع الكيفيّة والأينيّة ، الواحد الأحد جلّ جلاله. بل كيف يوصف بكنهه محمّد صلّى الله عليه وآله وقد قرنَ الخليل إسمه باسمه ، وأشركه في طاعته وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته ، فقال : وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ. وقال تبارك اسمه يحكى قول من ترك طاعته : يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. أم كيف يوصف من قَرَنَ الجليل طاعتَه بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله حيث يقول : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ.
يا فتح : كما لا يوصف الجليل جل جلاله ، ولا يوصف الحجة ، فكذلك لا يوصف المؤمن المُسَلِّمُ لأمرنا ، فنبينا صلّى الله عليه وآله أفضل الأنبياء ، ووصينا عليهالسلام أفضل الأوصياء. ثمّ قال لي بعد كلام : فأوردِ الأمر إليهم وَسَلِّمْ لهم.
ثمّ قال لي : إن شئت. فانصرفت منه. فلمّا كان في الغد تلطفت في الوصول إليه فسلّمت فردّ السلام فقلت : يا ابن رسول الله تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية ؟ فقال لي : سل وأَصِخْ إلى جوابها سمعك ، فإن العالم والمتعلّم شريكان في الرشد ، مأموران بالنصيحة ، فأمّا الذي اختلج في صدرك فإن يشأ العالم أنبأك. إنّ الله لم يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى من رسول ، وكلّ ما عند الرسول فهو عند العالم ، وكلّ ما اطلع الرسول عليه ، فقد اطلع أوصياؤه عليه.
يا فتح : عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أوردت عليك وأشكَّك في بعض ما أنبأتك ، حتّى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم فقلت : متى أيقنتُ أنّهم هكذا : فهم أرباب ! معاذ الله ، إنّهم مخلوقون مربوبون مطيعون داخرون راغمون !
فإذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به ، فاقمعه بمثل ما نبأتك به !
قال فتح : فقلت له : جعلني الله فداك فرجت عني ، وكشفت ما لبس الملعون عليَّ ، فقد كان أوقع في خلدي أنّكم أرباب. قال : فسجد عليه السلام فسمعته يقول في سجوده : راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً. ثمّ قال : يا فتح كدت أن تهلك ! وما ضرَّ عيسى أن هلك من هلك. إذا شئت رحمك الله. قال : فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عنّي من اللبس.
فلمّا كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متّكئ ، وبين يديه حنطة مقلوَّة يعبث بها ، وقد كان أوقع الشيطان لعنه الله في خلدي أنّه لا ينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا فقال : أجلس يا فتح فإن لنا بالرسل أسوة ، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وكلّ جسم متغذٍّ إلّا خالق الأجسام الواحد الأحد ، منشئ الأشياء ومجسم الأجسام ، وهو السميع العليم . تبارك الله عما يقول الظالمون ، وعلا علوّاً كبيراً. ثمّ قال : إذا شئت رحمك الله.
وقدم به عليه السلام بغداد ، وخرج إسحاق بن إبراهيم وجملة القواد فتلقوه ».
مقتبس من كتاب : [ الإمام علي الهادي عليه السلام ] / الصفحة : 230 ـ 237