الله والتوحيد في الخالقية
1. عقيدة المعتزلة في العلل والأسباب.
2. نقد هذه العقيدة.
3. مذهب الإمام الأشعري في العلل الطبيعية.
4. نقد هذا المذهب.
5. مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام « الأمر بين الأمرين ».
6. التوحيد في الخالقية من شعب التوحيد الافعالي.
7. ما معنى الخالقية ؟
8. لماذا يؤكد القرآن على التوحيد في الخالقية ؟
9. ما معنى خالقية المسيح ؟
10. التوحيد في الخالقية يؤكد الاختيار.
11. كيف تعلّقت الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن الفاعل.
12. تحليل عن الشرور.
13. خلاصة القول في الشرور.
14. جواب آخر حول الشرور.
15. الشر أمر نسبي.
التوحيد في الخالقية
تشهد النظرة العلمية والفلسفية بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسببات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية بعلّة وسبب مادي ، فهذا النظام ـ بمجموعه ـ نظام ممكن ، محتاج ـ في ذاته ، وفعله ـ إلى واجب غني بالذات ، وحيث إنّ الإمكان والافتقار لازم « ذات » الممكن وماهيته ، والفقر والاحتياج لا ينقطع ولا ينفك عنه ، فالنظام الذي يتألف من سلسلة « العلل والمعلولات » يكون قائماً ـ في وجوده وبقائه وفي تأثيره وفعله ـ بالله تعالى دون أن يتمتع بأي « استقلال » ذاتي واستغناء عنه حدوثاً وبقاء ذاتاً وفعلاً.
وبعبارة أُخرى إنّ الظواهر الكونية كما أنّها « غير مستقلة في ذاتها » وأصل وجودها كذلك هي غير مستقلة ـ في مقام عليتها وتأثيرها ـ بمعنى أنّها لا تؤثر أو لا يمكنها التأثير إلّا بإرادة الله ، وحوله وقوته سبحانه ، ويستنتج من ذلك أنّه كما لا شريك له سبحانه في الفاعلية والعلية ، ليس هناك في الواقع إلّا « فاعل مستقل واحد » لا غير ، وإلّا علة واحدة قائمة بنفسها لا بسواها ، وذلك هو « الله » عز وجل.
وأمّا الأسباب والعلل الأُخرى فهي تستمد « وجودها » و « فاعليتها » أيضاً من الله ، وتقوم به ، ولذلك فإنّ شعار المؤمن الموحد يكون دائماً هو : « لا حول ولا قوة إلّا بالله ».
عقيدة المعتزلة
ذهب المعتزلة إلى أنّ كل ممكن مؤثر ، يحتاج في ذاته إليه سبحانه لا في فعله ، فوجوده فقط قائم به تعالى ، دون إيجاده ، وإنّ فعل الممكن يرتبط بنفسه لا بموجده.
فقد فوض تأثير الفاعل ـ في نظر هذه الطائفة ـ إلى نفس « الأسباب والعلل » بحيث لم تعد هذه الأسباب بحاجة إلى الله في « تأثيرها وفاعليتها » بل هي تأتي بكل ذلك على وجه الأصالة والاستقلال دون فرق في هذه الناحية بين الإنسان وغيره.
وقد دفع هذه الفرقة إلى اختيار مثل هذه العقيدة ، تصور تنزيه الله عمّا يفعله العباد من الآثام والقبائح كالظلم والقتل والزنا.
فلو كانت « سببية » هذه الأفعال مستندة إلى الإرادة الإلهية ، لاستلزم ذلك أن يكون عقاب العصاة ـ حينئذ ـ مخالفاً للعدل الإلهي ، واستلزم نسبة القبيح إليه سبحانه.
فهم بغية الحفاظ على العدل الإلهي وتنزيهه سبحانه سلكوا هذا المسلك على خلاف البراهين العلمية والفلسفية ، وعلى خلاف الآيات والأحاديث الإسلامية ، واعتبروا العلل « عللاً مفوضة » فوضت إليها السببية والتأثير ، بحيث تؤثر دون الاستناد إلى القدرة الإلهية ، أي بالاستقلال والأصالة.
وفي الحقيقة ، جعلوا مكان « الفاعل المستقل الواحد » ملايين الفاعلين المستقلين ، وبذلك اتخذوا لله ـ بدل شريك واحد ـ شركاء كثيرين له في الفعل والتأثير ، فسقطوا بذلك في ورطة « الشرك الخفي » (1) بظن المحافظة على العدل الإلهي.
نقد هذا الاعتقاد
ونحن قبل أن نتحدث حول الآيات المرتبطة بـ « التوحيد في الخالقية » الذي هو في الحقيقة بحث في « التوحيد الأفعالي » سنذكر باختصار ما يرد على هذه النظرية من نقد وأشكال ، فنقول :
1. هل يصح أن يستند الموجود الممكن في وجوده وذاته إلى الله ، ولكن يكون مستقلاً عنه في تأثيره في حين أنّ الارتباط من حيث الذات يستلزم الارتباط من حيث الفعل والتأثير ، لزوماً وحتماً.
وبعبارة أُخرى : إذا كان وجود هذه الموجودات وذاتها مرتبطة بالله ، فإنّ فعلها وتأثيرها يكون أيضاً مرتبطاً به تعالى ، فكيف يقول هؤلاء باستقلال هذه الموجودات في فعلها وتأثيرها مع اعترافهم بارتباطها بالله سبحانه في ذاتها ، الملازم لارتباطها قهراً به في الفعل والتأثير في حين لو كان الفاعل مستقلاً في فعله لوجب أن يكون أيضاً مستقلاً في ذاته وأصل وجوده ، والاعتقاد باستقلال الأشياء في « أصل وجودها وذاتها » موجب للاعتقاد بوجوب وجودها ـ لا محالة ـ ومعلوم أنّ مثل هذا الاعتقاد مناف لـ « التوحيد الذاتي ».
2. من الجدير ـ جداً ـ التعمّق في الآية التالية :
( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ). (2)
فإنّ قوله سبحانه : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) أوضح دليل على عدم استقلال أي فاعل في فعله ، إذ لا شك أنّ أثر الفاعل عاقلاً كان أو غيره جزء من الملك ، فلو كان الفاعل مستقلاً في فعله ، لكان بعض الكون وهو ذوات العلل والأشياء ملكاً لله سبحانه والبعض الآخر يكون ملكاً لغيره تعالى ، أعني : العلل والأسباب ، فإنّ المالكية متفرعة على الخالقية فلو كانت الآثار خارجة عن إطار خالقية الله لخرجت عن إطار مالكيته.
إنّ القرآن الكريم يخبر عن مجموعة من المدبرات إلى جانب الله حيث يقول :
( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ). (3)
فمن ترى تكون تلك المدبّرات ؟
المراد من تلك المدبّرات أمّا العلل الطبيعية أو الملائكة التي تدبّر الكون.
فإذا كانت هذه الأشياء تدبّر شؤون العالم على وجه الاستقلال دون أن تكون أفعالها مستندة إلى إرادة الله ومشيئته ، فهل يصح قوله تعالى :
( وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ).
فأي شريك أعلى وأبين من هذه الشركاء المشتغلة بتدبير العالم دون الاعتماد على الله ودون الرجوع إليه فرضاً.
3. لقد أشار أحد أئمّة أهل البيت في الرد على عقيدة المعتزلة إلى نكتة خاصة وهي :
« انّ القدرية أرادوا أن يصفوا الله عز وجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه ». (4)
فلقد كشف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام النقاب ، منذ بداية نشوء مذهب الاعتزال (5) عن الدوافع الأوّلية لمثل هذا الاعتقاد ، وأعلن منذئذ عن فساده ، وعلة بطلانه ، لأنّه يحدّد قدرة الله.
ولو أمعنوا النظر في كيفية صدور الفعل عن الإنسان ، وكيفية فاعليته ، مع المحافظة على أصل « التوحيد الافعالي » ، لثبت لهم أنّ كل فعل صادر من الإنسان مع أنّه فعل الله هو فعل الإنسان نفسه ، ومع أنّه ( أي الفعل البشري ) قائم بالله تعالى هو صادر من العبد نفسه أيضاً ، غاية ما في الباب أنّ فاعليته تعالى بالقيومية وفاعلية البشر فاعلية مباشرية.
يقول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في كتاب له إلى أحد أصحابه :
« قال الله : يابن آدم بمشيئتي كنت ، أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أديت إليَّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعاً ، بصيراً ، قوياً ». (6)
فالحديث رغم أنّه يصف الإنسان بأنّه هو الذي يريد لنفسه ما يريد ، وبإرادته يؤدي فرائضه ويرتكب جرائمه إلّا أنّه في نفس الوقت يقول : بأنّه يفعل ما يفعل بأنعام الله وأقداره.
نعم اختارت المعتزلة ما اختارت من استقلال العبد في فعله بدافع المحافظة على « العدل الإلهي » متوهّمين بأنّ القول بوجود فاعل مستقل واحد في العالم يستلزم أن يكون عقاب العصاة على أفعالهم على خلاف العدل ، ولكنّهم غفلوا عن أنّ عقاب العصاة على آثامهم إنّما يكون مخالفاً له إذا أنكرنا حرية الإنسان في الاستفادة من المواهب الإلهية ، واعتبرناه مجبوراً مقهوراً في أفعاله وأنكرنا وساطة العلل والأسباب وفاعليتها وعلّيتها.
وأمّا إذا قلنا بمشاركة العلل والأسباب في وقوع الفعل بحيث لا يتحقق الفعل إلّا عن هذا الطريق ، أعني : وجود العبد وإرادته واختياره فلا يكون لذلك التوهم أي مجال ، والقول بمشاركة العبد في فعله على النحو الذي ذكرنا لا ينافي « التوحيد الافعالي » إذ لا يعني منه إنكار علية العلل والأسباب الطبيعية وغير الطبيعية وإلغاء دورها وتأثرها ، بل يعني مع احترام علية العلل وسببية الأسباب أنّه ليس ثمت سبب مستقل ومؤثر بالذات إلّا الله ، وانّه تعالى المؤثر الوحيد الذي يؤثر بالأصالة والاستقلال دون غيره ، وبهذا الطريق وحده يمكن الاجتناب عن أي نوع من ألوان الشرك في الذات والفعل. (7)
وبعبارة أُخرى : انّ الله قد أعطى القدرة والنعمة لعبده ، ولكن جعله حراً في كيفية الاستفادة منهما ، فهو بإرادته واختياره يصرف كل نعمة في أي مورد شاء ، وعندئذ يكون هو المسؤول عن أعماله وأفعاله ، وعلى هذا الأساس فالفعل مستند إلى الله سبحانه باعتبار أنّه أقدر عبده على الفعل وأنعم عليه ، كما أنّه مستند إلى عبده لكونه باختياره صرف القدرة والنعمة في أي مورد شاء ، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي تواترت عليه الأخبار عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
مذهب الإمام الأشعري
إنّ هناك مذهباً آخر يعد مقابلاً للمذهب الماضي وهو المنسوب إلى الإمام الأشعري ، فهو لا يعترف إلّا بمؤثر واحد وهو الله سبحانه وينكر علّية أي موجود سواه ، بل يقول جرت إرادة الله على خلق الحرارة بعد النار وخلق النور بعد الشمس وهذا هو ما أسموه بالعادة الإلهية.
فالعادة الإلهية جرت ـ حسب تلك النظرية ـ على ظهور الأثر عقيب وجود المؤثر ، دون مشاركة أو سببية للمؤثر في حصول ذلك الأثر مطلقاً.
ولكن هذه النظرية مرفوضة لمخالفتها الصريحة للبراهين العلمية والفلسفية ولصريح الآيات القرآنية حول تأثير العلل والأسباب الطبيعية في عالم الكون ، ونحن نرجئ بيان بطلان هذا الرأي من الناحية العلمية والفلسفية (8) إلى موضع آخر ، وإنّما نكتفي هنا ببيان بطلانه من وجهة نظر القرآن.
ففي هذه الآيات يصرح القرآن ـ بوضوح كامل ـ بعلية وتأثير العلل لطبيعية نفسها.
وإليك هذه الآيات :
( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ). (9)
وجملة ( يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.
وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين :
( وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ) (10).
( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ). (11)
ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز ـ بجلاء ـ بتأثير الماء في الزرع ، إذ أنّ « الباء » تفيد السببية ـ كما نعلم ـ.
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ). (12)
ففي هذه الآية نرى ـ لو أمعنا النظر ـ كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدماتها.
فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك ـ بزمن طويل ـ سبق القرآن إلى بيان تلك المقدمات في عبارات هي :
1. يزجي ( يحرك ) سحاباً.
2. ثم يؤلّف ( ويركب ) بينه.
3. ثم يجعله ركاماً ( أي كتلة متراكمة متكاثفة ).
4. فترى الودق ( أي المطر ) يخرج من خلاله.
5. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
وهكذا يصرح الله سبحانه في كل المراحل بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية ، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن الله ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.
( اللَّـهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ). (13)
وأية جملة أوضح من قوله : ( فَتُثِيرُ سَحَابًا ) أي الرياح ، فالرياح في نظر القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.
إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول « تأثير العلل الطبيعية بإذن الله ».
ففي هذه الجمل جاء التصريح :
1. بتأثير الرياح في نزول المطر.
2. وتأثير الرياح في تحريك السحب.
3. وانبساط السحب في السماء.
4. وتجمع السحب ـ فيما بعد ـ على شكل قطع متراكمة.
5. ثم نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.
فإذا ينسب القرآن هذه الأفاعيل إلى الله في هذه الآيات عند تعرضه لذكر مراحل تكون المطر ونزوله بأنّه ( هو ) يبسط السحاب في السماء و ( هو ) الذي يجعله كسفاً ، فإنّما يقصد ـ من وراء ذلك ـ التنبيه إلى مسألة « التوحيد الافعالي » الذي سنبحثه من وجهة نظر القرآن في هذا الفصل وما بعده.
على أنّ الآيات التي تؤكد دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر ، وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب والمسببات التي تعمل بإرادة الله وإذنه وتكون فاعليتها فرعاً من فاعلية الله ، أكثر من أن يمكن إدراجها هنا ، ولكننا نرى في ما ذكرنا الكفاية لمن تدبّر.
هذا وقال أحمد أمين المصري : إنّ من الدائر على ألسنة الأزهريين :
ومن يقل بالطبع أو بالعلّه |
فذاك كفر عند أهل الملّه |
وقال الزبيدي في إتحاف السادة (14) وهو شرح لإحياء العلوم :
ثبت مما تقدم أنّ الإله هو الذي لا يمانعه شيء وإنّ نسبة الأشياء إليه على السوية ، وبهذا أبطل قول المجوس وكل من أثبت مؤثراً غير الله من علة أو طبع أو ملك أو أنس أو جن ، إذ دلالة التمانع تجري في الجميع ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان.
هذا ، وقد تقرب الإمام الأشعري إلى أهل السنّة بنسبته فعل الشر إلى الله تعالى لمّا تاب عن الاعتزال ، فرقى يوم الجمعة كرسياً في المسجد الجامع بالبصرة ونادى بأعلى صوته : « من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن وانّ الله لا يرى بالأبصار وانّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة فخرج بفضائحهم ومعايبهم ». (15)
ولا يخفى أنّ التوحيد الافعالي بهذا المعنى أي سلب العلية والتأثير عن أي موجود سواه استقلالاً وتبعاً وبالمعنى الاسمي والمعنى الحرفي جر الويل بل الويلات على أصحاب هذا الرأي من أهل السنّة فدخلوا في عداد الجبرية وان كانوا لا يقبلون بإطلاق هذا الاسم عليهم.
غير انّ هذا الرأي الزائف لا ينتج غير الجبر والإلجاء في أفعال الإنسان ، ولذا رأينا أنّ الإمام الأشعري قد تاب عن قول : « إنّ أفعال الشر أنا أفعلها » ، وذلك حينما دخل في عقيدة السنّة ـ حسب رأيه ـ.
ما معنى هذه الجملة التي ذكرها الإمام الأشعري في جملة عقائد أصحاب الحديث والسنّة إنّ سيئات العباد يخلقها الله عزّ وجلّ ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (16)
أو ليس هذا موجباً للغوية بعث الأنبياء والرسل ، ولغوية الحث على العمل الصالح والزجر عن غير الصالح.
ونرى إمام الحنابلة يمشي على هذا الضوء فيفسر القضاء والقدر على نحو يساوي الجبر والحتم حيث يقول : القدر خيره وشره ، حسنه وسيئه من الله قضاء قضاه وقدر قدره لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل والعباد صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم لأفعاله وهو عدل منه عزّ ربنا وجل والزناء والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المرء المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر. (17)
إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا المعنى تشعب عن الفكرة الخاطئة من إنكار العلية والمعلولية في عالم الطبيعة مطلقاً وانّ الظواهر الطبيعية لا مصدر ولا منشأ لها إلّا إرادته سبحانه من دون وساطة علة أو مشاركة سبب ، وهو ما عرفت بطلانه في الصفحات السابقة.
وأمّا كشف النقاب عن حقيقة قضائه وقدره سبحانه مع شمولها لعامة الحوادث والظواهر الطبيعية والأفعال الإنسانية ، فقد أسهبنا فيه الكلام في بعض أبحاثنا الفلسفية. (18)
وللعلّامة الحجة السيد مهدي الروحاني مقال مسهب في المقام في كتابه « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه.
مذهب أئمة أهل البيت
أقول : من جعل القرآن رائده وإمامه ، ونظر في آياته مجرّداً عن الميول والأفكار المسبقة ، يقف على أنّ كلا المذهبين ( مذهب المعتزلة والأشاعرة ) على جهتي الإفراط والتفريط ، فلا تفويض ولا جبر ، لا إشراك ولا ثنوية ولا اضطرار والجاء ، لا أنّ الممكن مستقل في فعله وتأثيره ، ولا هو منعزل عن فعله وأثره بتاتاً.
إنّ كلا الرأيين والمذهبين لا يصدقهما القرآن ولا الدلائل العقلية الواضحة بل انّ هناك مذهباً ثالثاً أسماه أئمّة أهل البيت بالأمر بين الأمرين وهو الذي يرشدنا إليه التدبر في القرآن وبه يحافظ على التوحيد في الخالقة والفاعلية ، وانّه لا خالق مستقل إلّا هو ، وعلى مشاركة العلل والأسباب مختارها ومضطرها في الفعل والأثر « فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » وسيوافيك توضيح الفرق بين المذهبين والأمر بين الأمرين بطرح مثال بديع.
* * *
ويمكن تلخيص التوحيد الافعالي في فصلين :
1. انّه ليس في عالم الوجود إلّا خالق أصيل ومستقل واحد ، وأمّا تأثير العلل الأُخرى وفاعليتها فليست إلّا في طول خالقية الله وعلّيته وفاعليته ، ومتحقّقة بإذنه.
2. انّه لا مدبر للعالم إلّا « الله » ولا تدبير لغيره إلّا بإذنه سبحانه وأمره.
وأمّا القسم الأوّل فهو « التوحيد في الخالقية ».
والقسم الثاني فهو « التوحيد في التدبير والربوبية ».
وسيوافيك انّ « الرب » ليس بمعنى : الخالق ، بل بمعنى المدبر الذي وكل إليه أمر صلاح فرد أو جماعة. (19)
التوحيد في الخالقية
من مراجعة القرآن الكريم يتضح أنّ هذا الكتاب السماوي لا يعرف خالقاً مستقلاً أصيلاً إلّا الله ، وأمّا خالقية ما سواه فهي في طول خالقيته وليس له استقلال في الخلق والإيجاد ، وإليك فيما يلي طائفة من الآيات التي تشهد بهذا الأمر :
( قُلِ اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ). (20)
( اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ). (21)
( ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ). (22)
( ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ). (23)
( هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ). (24)
( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ). (25)
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّـهِ ). (26)
( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ). (27)
ولا يمكن أن تكون هناك عبارات أوضح من هذه العبارات في إفادة المقصود وهو : أنّ كل الأشياء ـ بذاتها وآثارها ـ معلولة لله ومخلوقة له سبحانه.
فهو الذي خلق الشمس والقمر والنار ، وهو الذي أعطاها النور والضوء والحرارة ، وأقام ارتباطاً وثيقاً بين هذه الآثار وتلك الأشياء.
وبالتالي فهو الذي أعطى للأسباب سببيّتها وللعلل علّيتها.
إنّ القرآن يرى ـ بحكم نظرته الواقعية ـ بأنّ كل ما في هذه الحياة من سماء وكواكب وأرض وجبال وصحراء وبحر ، وعناصر ومعادن ، وسحاب ورعد وبرق وصاعقة ، ومطر وبرد ، ونبات وشجر ، وحجر وحيوان وإنسان ، وغيرها من الموجودات غير مستقلة في التأثير ، وإنّ كل ما ينتسب إليها من الآثار ليست لذوات هذه الأسباب ، وانّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى الله سبحانه.
فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباطها بعضها ببعض ـ بحكم العلية ـ فهي مخلوقة لله جميعاً ، فإليه تنتهي العلية وإليه تؤول السببية وهو معطيها للأشياء.
ولا شك أنّ البشر هو أيضاً ذو آثار وأفعال ، كالأكل والشرب والقيام والقعود وغيرها من الأفعال ، وكلّها مرتبطة بالإنسان نفسه ، فهي أفعاله الاختيارية التي يتعلّق بها الأمر والنهي.
ولكنّه ليس مستقلاً في فعله وأثره ، فكما أنّ فعله يعد فعلاً له ومرتبطاً به ، فهكذا يعد فعله فعلاً لله سبحانه ومرتبطاً به بحكم كون وجوده وما أُعطي من القوى والطاقات مستندة إلى الله سبحانه ، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون فعل العبد مرتبطاً بالعبد ومنقطعاً عن الله ، إذ كيف يكون ذات الشيء مرتبطاً ويكون فعله منقطعاً ، فإنّ غير المستقل بالذات غير مستقل في الفعل ، والمستقل في الذات مستقل في الفعل أيضاً.
وبعبارة أُخرى : انّ المراد من كون أفعال العباد مخلوقة لله ليس هو كونها فعلاً له سبحانه بلا مشاركة العبد ، بل المراد هو عدم استقلال العبد والعلل كلها في مقام الإنشاء والإيجاد وإلّا لزم أن يكون في صفحة الوجود فاعلون مستقلون في الفعل والإيجاد وهو بمنزلة الشرك.
وبذلك يرتفع الاستيحاش عن القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله ، إذ ليس المراد انّه سبحانه فاعل دونهم كما ليس المراد أنّها أفعال لهم دونه سبحانه ، بل هي أفعال له تعالى من جهة وأفعال لهم من جانب آخر.
وقد أوضحه بعض المحقّقين بالمثال التالي الذي يوضح موقف كل من مذهبي الجبر والتفويض وما هو الحق من الأمر بين الأمرين ، فلنفرض أنّ إنساناً أعطى لأحد سيفاً مع علمه بأنّه يقتل به نفساً ، فالقتل إذا صدر منه لا يكون مستنداً إلى المعطي بوجه ، فإنّه حين صدوره يكون أجنبياً عنه بالكلية غاية الأمر أنّه هيّأ بإعطائه السيف مقدمة إعدادية من مقدمات القتل ، وهذا واقع التفويض.
كما أنّه لو شد آلة جارحة بيد الإنسان المرتعش بغير اختيار ، فأصابت الآلة من جهة الارتعاش نفساً فجرحته ، فالجرح لا يكون صادراً من ذاك الإنسان المرتعش ، بإرادته واختياره ، بل هو مقهور عليه في صدوره منه ، وهذا واقع الجبر وحقيقته.
وإذا فرضنا أنّ يد الإنسان مشلولة لا يتمكّن من تحريكها إلّا مع إيصال الحرارة إليها بالقوة الكهربائية ، فأوصل رجل القوة إليها بواسطة سلك يكون أحد طرفيه بيد المولى ، فاختار ذلك الإنسان قتل نفس والموصل يعلم بذلك ، فالفعل بما انّه صادر من الإنسان المشلول باختياره يعد فعلاً له ، وبما أنّ السلك بيد الموصل وهو الذي يعطي القوة للعبد آناً فآناً فالفعل مستند إليه ، وكل من الإسنادين حقيقي من دون أن يكون هناك تكلّف أو عناية ، وهذا هو واقع الأمر بين الأمرين ، فالأفعال الصادرة من المخلوقين بما أنَّها تصدر منهم بالإرادة والاختيار ، فهم مختارون في أفعالهم ؛ وبما أنّ فيض الوجود والقدرة والشعور من مبادئ الفعل يجري عليهم من قبل الله تعالى آناً فآناً ، فأفعالهم منتسبة إلى خالقهم. (28)
إنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية تبيّن هذه الحقيقة بنحو آخر وهو أنّه ليس الله تعالى خلق الأشياء فقط ، بل هو الذي قدر تأثير كل شيء وخلق له « حدوداً » خاصة ، وغايات معينة مثل قوله تعالى :
( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) (29).
( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (30).
( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (31).
هذه الآيات وما قبلها تبيّن « التوحيد الخالقي » بوضوح ولا تعترف بخالق أصيل ومستقل إلّا الله ، كما أنّها لا تعترف بمقدّر أصيل للأشياء وهاد واقعي لها غيره سبحانه.
ما هو معنى الخالقية ؟
ماذا يراد من أنّ الله سبحانه هو الخالق الوحيد وانّ الذوات والأشياء وما يتبعها من الأفعال والآثار حتى الإنسان وما يصدر منه ، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية ؟
إنّ الوقوف على تلك الحقيقة القرآنية يتوقف على تحليل معنى الخلق لغة واستعمالاً.
إنّ لفظة « الخلق » تارة يراد منها « التقدير » وأُخرى الإبداع والإيجاد ، والميزان في ذلك هو إنّه إذا قيل : خلق هذا من ذاك وذكرت معه المادة القابلة للصياغة والتصوير والنحت والتكوين يراد منه التقدير ، قال سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيح عليه السلام :
( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (32).
يقال : خلقت الأديم للسقاء ، إذا قدرته ، ويقال أيضاً : خلق العود : سوّاه (33).
وأمّا إذا تعلّق الخلق بالشيء ونسب إليه من دون أن تقترن بمادة خاصة ، فيراد منه الإبداع والإيجاد من كتم العدم ، كقوله سبحانه :
( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) (34).
نعم دلت البراهين الفلسفية على أنّ « الخلق » لا ينفك عن الإيجاد والإبداع حتى في القسم الأوّل ، فإنّ المادة وإن كانت موجودة لكن الصورة ـ لا شك ـ إنّها أبداعية قطعاً ، كقوله سبحانه :
( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ) (35).
ولعلّه لذلك اكتفى ابن فارس في مقاييسه في توضيح معنى الخلق بالمورد الأوّل أي التقدير ولم يذكر المورد الثاني اعتماداً بأنّ التقدير لا ينفك عن الإيجاد والإبداع كما أنّ الإيجاد لا ينفك عن التقدير ، كما صرح بقوله : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) (36).
* * *
ثم إنّه وقع النزاع في صحة استعمال لفظ الخلق في الأفعال ، لغة ، وانّه هل يتعلّق الخلق بالأفعال كتعلّقه بالذوات ، أو أنّه لا يتعلّق إلّا بالذوات ، وأمّا الأفعال والأحداث فيتعلّق بها الإيجاد ، والإنسان موجد لفعله لا خالق له ، فيقال : أوجد فعله ولا يقال : خلقه.
وربما يستدل على صحة تعلّقه بالفعل والعمل بقوله تعالى :
( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (37).
والشاهد هو قوله : ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) غير انّه يمكن أن يقال : انّ المراد من الموصول في قوله : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) هو الأصنام التي كانوا يعملونها وينحتونها بقرينة ما سبقها من الآيات ، أعني قوله : ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) والمقصود انّ الله خلقكم وخلق الأصنام التي تصنعونها ، ويكون وزان الآية وزان قوله سبحانه : ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ) (38).
وبذلك يسقط الاستدلال بالآية.
وربما يستدل على نفي صحة اسناد الخلق إلى غيره سبحانه بقوله تعالى :
( أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) (39). (40)
فإنّ الظاهر من قوله ( لَا يَخْلُقُ شَيْئًا ) انّ كل معبود سواه لا يخلق شيئاً ولا يقال لفعله انّه مخلوق ولا لنفسه انّه خالق.
غير انّ الإجابة عن هذا الاستدلال أيضاً واضحة ، فإنّ المراد بعد الغض عن احتمال كون المراد الأصنام المنحوتة لا كل موجود سواه ، نفي الخالقية اللائقة لساحته سبحانه ، وهي الخالقية المستقلة غير المعتمدة على شيء ومن المعلوم أنّ الخالقية بهذا المعنى لا يقدر عليها أحد.
إذا وقفت على استدلال الطرفين من حيث صدق الخلق على الفعل وعدم صدقه ، فهلمّ معنا نوقفك على الحقيقة وانّه هل يجوز استعمال لفظ الخلق في مورد الأعمال وعدمه ؟
فنقول : أمّا أوّلاً : لا شك أنّ الخلق يتعلّق بالفعل كما يتعلّق بالذات ، كما في قوله سبحانه :
( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ) (41).
فإنّ قوله سبحانه : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) بمعنى تقولون : كذباً ، فليس الكذب والصدق إلّا من أفعال البشر.
وفي الحديث :
« خلقت الخير وأجريته على يدي من أحب وخلقت الشر وأجريته على يدي من أُريد ».
قال الطريحي في تفسير الحديث : المراد بخلق الخير والشر خلق تقدير لا خلق تكوين ، ومعنى التقدير نقوش في اللوح المحفوظ ، ومعنى خلق التكوين وجود الخير والشر في الخارج ، وهو من أفعالنا وقد ورد في الحديث يا خالق الخير والشر (42).
وثانياً : سلمنا أنّ الخلق لا يتعلّق بالفعل غير أنّ عمومية المتعلّق في الآيات الواردة في هذا الفصل التي تخص الخالقية بالله سبحانه كقوله : ( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) وقوله : ( قُلِ اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) أو قوله : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّـهِ ) تكون قرينة على أنّ المراد من الخلق في الآيات هو مطلق الإيجاد والإبداع ، سواء تعلّق بالذات أو بالفعل ، فيستدل بعموم المتعلّق ( كل شيء ) مثلاً على إلغاء الخصوصية المتوهمة في لفظ الخلق من أنّه لا يتعلّق إلّا بالذوات دون الأفعال.
إنّ عناية القرآن بطرح متعلّق الخلق بشكل عام عناية لا يرى مثلها في غيره تكون قرينة على أنّ المراد هو نفي وجود أي مؤثر أو موجود مستقل في صفحة الوجود دون الله ، وقد ذكر علماء المعاني ، انّ خصوصية الفعل ربّما يسري إلى المتعلّق فيخرجه عن السعة ، فإذا قال القائل : لا تضرب أحداً ، ينصرف لفظ الأحد بقرينة « لا تضرب » إلى الحي وإن كانت تلك اللفظة عامة تشمل الحي الميت.
وقد يعكس فتكون سعة المتعلّق قرينة على شمول الفعل وعموميته ، كما لا يخفى مثلاً أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ ) (43) وإن كان خاصاً من جهة الموصول والصلة بالعاقل فلا يشمل إلّا دعوة العقلاء ، إلّا أنّ قوله من دون الله قرينة على أنّ الممنوع هو دعوة مطلق غير الله عاقلاً كان أو غيره ، وبذلك يظهر أنّ للعموم الحاكم على المتعلّق في الآيات ، أعني قوله تعالى : ( كُلَّ شَيْءٍ ) ، وإضرابه دليلاً على أنّ المقصود حصر مطلق الخلق المتعلّق بالذوات والأفعال بالله سبحانه.
ثالثاً : انّ المقصود من التوحيد في الخالقية هو التوحيد في التأثير والإيجاد سواء أصح إطلاق الخلق عليه أم لا. (44) والمراد أنّ كل موجود ممكن غير مستقل في ذاته غير مستقل في فعله وتأثيره أيضاً ، لأنّ غير المستقل في الذات والقوى والطاقات غير مستقل في أعمال هذه القوى والاستفادة من هذه الطاقات ، إلّا أنّ كون الفاعل غير مستقل ليس بمعنى كونه مجبوراً ومضطراً في أعمال هذه القوى والطاقات ، بل هو مخير في أعمالها على أي نحو شاء.
وتظهر حقيقة هذا المعنى بالتدبّر في الآيات التي تصف الله تبارك وتعالى بالقيومية كما في قوله سبحانه : ( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (45). (46)
فإنّ معنى القيومية ليس إلّا قيام ما سواه ـ من ذات وفعل ومؤثر وأثر ـ به سبحانه ومعه كيف يمكن أن نصف الموجودات الإمكانية بالاستقلال في الفاعلية والتأثير.
سؤال في المقام
إذا كان المشركون لا يشكّون في موضوع « التوحيد في الخالقية » ، فلماذا نجد القرآن ينهض لذم المشركين ، ويذكرهم بأنّ معبوداتهم لم تخلق شيئاً ؟ كقوله :
( هَـٰذَا خَلْقُ اللَّـهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (47).
( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) (48).
( أَمْ جَعَلُوا لِلَّـهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (49).
( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (50).
( اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (51).
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) (52).
الجواب : انّ الهدف من التذكير بخالقية الله وحده وسلب الخالقية من غيره ليس لأنّ المشركين كانوا يعتبرون الأوثان خالقة ، إنّما الهدف من طرح « حصر الخالقية بالله ونفيها من الأصنام » هو في الحقيقة « ردع » المشركين من عبادة غير الله تعالى ، ذلك لأنّ العبادة إنّما يستحقها من يكون متصفاً بالكمال ومنزّهاً عن أية نقيصة أو عائبة ، وأي كمال أعلى من الاتصاف بالخالقية التي أسبغ صاحبها لباس الوجود على كل شيء مما سواه ؟
وبعبارة أُخرى فإنّ العبادة من مقتضيات المالكية والمملوكية ، الناشئتين من الخالقية والمخلوقية ، وإذ يعترف المشركون بأنّ الله هو الخالق دون سواه ، فلماذا يعبدون غيره ؟ ولماذا لا يجتنبون عن عبادة من سواه ؟
وعلى هذا الأساس فإنّ إصرار القرآن الكريم ليس لأنّ المشركين كانوا يشكون في « التوحيد الخالقي » وغافلين عن هذه الحقيقة الساطعة الثابتة ، بل لأنّهم كانوا غافلين عن لوازم التوحيد الخالقي ، وهو : التوحيد في العبادة ، فأراد الله بالتذكير بهذه الحقيقة أنّ يلفت نظرهم إلى لازمه وهو « التوحيد في العبادة ».
هذا وقد نقلنا لك فيما مضى بعض هذه الآيات (53).
وقد ذكرت هذه الحقيقة ( أي حصر الخالقية في الله تعالى ) في آيات أُخرى بعبارة ( الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) ، مثل قوله :
( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) (54).
( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) (55).
وصفوة القول : إنّ السبب وراء طرح « حصر الخالقية في الله » ونفيها عمّا سواه ، وكذا التنديد بالأوثان والأصنام بأنّها لا تقدر على خلق ذبابة ، (56) وغير ذلك هو تنبيه الضمائر الغافلة عن عبادة الله وحده ، لأنّه مع اعتراف المشركين بانحصار الخالقية في الله ونفيها عن المعبودات الأُخرى ( المصطنعة ) ينبغي أن يعبدوا الله وحده ، الذي خلق كل شيء وأخرج جميع الموجودات من العدم إلى حيز الوجود والتحقّق لا أن يعبدوا ما سواه ، من الأوثان والأصنام العاجزة عن فعل أو خلق شيء حتى ذبابة أو دفعها عن نفسها ، وهذا هو ما تريد هذه الآيات التنبيه إليه.
سؤال
إذا لم يكن في الوجود من خالق غير الله ، فكيف يصف القرآن عيسى المسيح عليه السلام بأنّه يخلق أيضاً حيث يقول حاكياً عنه :
( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (57) ؟
ثم كيف يصف الله نفسه ـ بعد أن يذكر مراحل خلقه للإنسان ـ بأنّه ( أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ، وفي ذلك اعتراف ضمني بوجود « خالقين » آخرين إلى جانب الله ، إذ يقول :
( فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (58) ؟
انّ الجواب : يتضح من التوجه إلى « استقلال » الله في التأثير والفعل ، و « عدم استقلال » غيره في مقام الذات والفعل.
فالخالقية المنحصرة في الله غير قابلة لاتصاف الغير بها ، ولا قابلة لإثباتها للغير ، إذ هو مستقل أصيل في خلقه بمعنى أنّه لا يعتمد على شيء ولا يستعين بأحد ولا يحتاج لأذن آذن ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يصف أحداً بمثل هذه الخالقية دون الله تعالى.
أمّا الخلق والخالقية التي يكون المتصف بها معتمداً على الله ، ومحتاجاً إلى قدرته وإرادته وعونه ، فهي يمكن أن تثبت للمخلوقين ، إذ لا مشاركة حينئذ مع الله في الصفة الثابتة له المذكورة سابقاً.
فكل شيء من أشياء هذا الوجود يكون خالقاً في حد نفسه عندما يكون مؤثراً لأثر وسبباً لمسبب ، ولا ريب أنّ إثبات هذا النوع من الخالقية لغير الله لا ينافي « التوحيد الخالقي » على النحو الذي مر تفسيره وبيانه.
وربما يجاب عن هذا السؤال بأنّ لفظة « الخلق » تطلق ويراد منها الإيجاد من العدم تارة وأُخرى التقدير ، والمراد من قوله سبحانه : ( أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) هو المعنى الثاني ، أي أقدر لكم من الطين كهيئة الطير.
غير انّ هذا الجواب لا يخالف مع ما اخترناه في هذا الفصل ، فانّ التقدير وإن كان فعلاً للمسيح ، إلّا أنّه بما هو ظاهرة كونية يحتاج إلى فاعل ، وليس الفاعل القريب إلّا المسيح عليه السلام ، ولكنه ليس مستقلاً في فعله هذا ، كما هو ليس مستقلاً في ذاته وإلّا تلزم الثنوية في الفاعلية المستقلة ، على ما أوضحنا برهانه فالتقدير مع كونه فعلاً له ، فعل لله سبحانه ، ونعم ما قاله الحكيم السبزواري في منظومته الفلسفية :
وكيف فعلنا إلينا فوضا |
وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضى |
|
لكن كما الوجود منسوب لنا |
فالفعل فعل الله وهو فعلنا (59) |
سؤال آخر
إنّ حصر الخالقية في الله سبحانه ربما يستشم منه القول بالجبر ويكون المسؤول عن فعل العبد هو خالق الفعل والمفروض إنّه لا خالق سوى الله ؟
الجواب
إنّ هذا الإشكال ـ في الحقيقة ـ إنّما يتجه ويصح إذا قلنا بأحد الأصلين التاليين ، وهما :
1. إنكار علّية أية ظاهرة من الظواهر الطبيعية ، وإحلال خالقيته سبحانه مكان العلل الطبيعية ، كما هو الظاهر من كل من أنكر قانون العلية في الأشياء وأراح نفسه بعادة الله.
2. أن نعترف بعلية الموجودات الأُخرى ومشاركتها المباشرة في الآثار والأفعال ، ولكن نعتقد بوجود نوع واحد من العلة في العالم فقط وهو العلة المضطرة المسيرة ، لا أكثر.
فمع قبول أحد هذين الأصلين يتوجه الإشكال المذكور على ما قلناه ويتجه ولكن إذا أنكرنا كلا الأصلين المذكورين اتضح جواب الإشكال.
فبالنسبة للأصل الأوّل بحثنا فيما سبق وأوضحنا كيف أنّ البراهين الفلسفية والقرآنية تعترف وتؤكد « رابطة العلية والمعلولية » بين الموجودات وآثارها واتضح من خلالها أنّ الله تعالى علّة العلل وموجد الأسباب ، لا أنّه يقوم مقام الأسباب والعلل بحيث تتعطل الأسباب والعلل ولا تعود لها أية مشاركة وفاعلية.
وعلينا الآن أن نبحث حول الأصل الثاني ونتحدث حول تقسيم العلة إلى « اضطرارية » وأُخرى « اختيارية ».
فنقول : هناك نوعان من العلل والأسباب :
1. علل ذات إدراك وشعور واختيار وإرادة.
وبعبارة أُخرى ، هناك « فاعل مختار » بمعنى أنّه إذا واجه مفترق طريقين اختار أحدهما على الآخر بإرادة واختيار منه ، وبكامل حريته دونما قهر أو جبر.
2. وهو ما يقابل النوع الأوّل وتلك هي العلل الفاقدة للإدراك والشعور بنفسها وبأفعالها ، أو تكون مدركة وشاعرة ولكنها لا تكون مختارة ومريدة لأفعالها.
وهذا النوع من العلل سواء أكانت فاقدة للشعور أم فاقدة للاختيار والإرادة تسمّى فاعلاً مضطراً.
فمثلاً الشمس هي من العلل التي لا تشعر هي بآثارها ( كالإشعاع والإنبات والإنماء ) وتكون لذلك مجبورة ومضطرة في فعلها ، والنحل والنمل وما شابههما من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وإن كانت تشعر وتدرك ما تفعل ـ إلّا أنّها تعمل ما تعمل بالوحي أو بالغريزة مائة بالمائة بمعنى أنّ هذه الأحياء لا تفعل ما تفعله بعد مراجعة العقل ، بل تأتي بأفعالها تحت وطأة الغريزة ، ودون إرادة منها ولا اختيار ، ومثل ذلك حركة يد المشلول وأضرابه.
ومع الالتفات إلى هذا النوع من التقسيم يتضح جواب السؤال ، لأنّه وان صحّ أن يقال إنّ أفعال البشر مخلوقة لله ومتعلّقة لإرادته ، وإنّ الله أراد من الأزل أن تقع هذه الحوادث في عالم الطبيعة ، ولكنه يجب أن نعرف مغزى خالقية الله لكل شيء ، ويتعرف على ذلك من الوقوف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بكل شيء ، وبكل العلل والأسباب مختارها ومضطرها.
كيف تعلّقت إرادته سبحانه بأفعالنا ؟
إذا عرفنا كيفية تعلّق إرادته تعالى ، فسنعرف كيفية « خالقيته » بالنسبة لأفعالنا ، ولذلك يجب علينا هنا أن نركّز البحث على معرفة كيفية « تعلّق الإرادة الإلهية ».
لقد تعلّقت الإرادة الإلهية منذ الأزل بأن يصدر كل معلول من علّته الخاصة به ، وأن تصدر كل ظاهرة من سببها المخصوص بها ، بمعنى أنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت منذ الأزل بأن تلقي الشمس أشعتها ـ دون شعور منها ـ على الأرض ، وأن يمتص النحل رحيق الأشجار والأزهار بفعل الغريزة أو بدافع الشعور ، ولكن بلا اختيار ولا إرادة ولا حرية ، وأن تبني بيوتها كذلك مسدسة ، وكذلك تعلّقت إرادته تعالى بأن يأتي الإنسان بأفعاله باختيار منه وحرية.
وبعبارة أُخرى قد تعلّقت إرادة الله سبحانه بوجود الإنسان وفعله ، وصدور فعله منه بالاختيار ، فالله سبحانه كما شاء وجود الإنسان شاء صدور فعله منه بلا جبر ولا اضطرار ، فلو فرضنا صدور فعله منه بالاضطرار لزم تفريق إرادته سبحانه من مراده وهو أمر محال.
وعلى الجملة انّ الله سبحانه لم يشأ من الإنسان أن يصدر منه الفعل على وجه الإطلاق مختاراً أو مضطراً ، وإنّما شاء أن يصدر منه الفعل بإرادته واختياره ، ولو صدر بغير هذا الوجه لزم تخلّف إرادته عن مراده.
ومعلوم أنّ مثل هذه الإرادة الأزلية التي تعلّقت بأفعال الإنسان مضافاً إلى أنّها لا تخالف حرية الإنسان تكون مؤكدة لحريته واختياره ، فكما أنّ إرادة الله نافذة وماضية إذا تعلّقت بوجود الشيء ، فهكذا نافذة إذا تعلّقت بصدور شيء على نحو خاص ، فلو صدرت والحال هذه ـ على غير هذا النحو ـ لزم صدور الشيء على خلاف إرادته تعالى.
وحيث إنّ الله أراد أن يكون الإنسان حراً مختاراً آتياً بفعله باختياره فلا بد أن تتنفذ إرادة الله بأن يأتي الإنسان بأفعاله حسب اختياره وحريته ، وإذا أتى بأفعاله باختيار منه وحرية ، تحققت حينئذ مشيئة الله في شأنه ، تلك المشيئة التي شاءت أن يكون الإنسان مختاراً في أفعاله.
وإذا فرضنا أنّه يصدر منه الفعل بنحو « الجبر » ودون اختياره يلزم أن لا يكون فعل الإنسان حينئذ مطابقاً للمشيئة الإلهية وأن لا تتحقّق هذه المشيئة الربانية مع أنّ من الضروري أنّ إرادة الله لا بد أن تتحقّق ولا بد أن تتنفذ. وخلاصة القول : إنّ أصل وجود الإرادة الأزلية لله لا يكون ـ بتاتاً ـ موجباً للجبر ولا يكون رافعاً للاختيار ، بل يجب علينا أن ننظر إلى كيفية تعلّق تلك الإرادة أوّلاً ثم نصدر أحكامنا في هذا المجال (60).
إنّ جميع الظواهر الكونية ومنها أفعال البشر وإن كانت داخلة في إطار الإرادة الإلهية وليس شيء منها يتحقّق بلا إذنه وإرادته ، ولكن يجب علينا أن نعرف كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالظواهر الكونية عامة وأفعال البشر خاصة ، فنقول :
إنّ إرادته سبحانه تعلّقت بصدور كل شيء عن مباديه الخاصة ، فلو كان الفاعل مضطراً ومجبوراً ، فقد تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالجبر والاضطرار وان كان الفاعل مريداً مختاراً تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالإرادة والاختيار.
إنّ الإرادة الإلهية الأزلية إنّما تكون موجبة للجبر ومستلزمة له في صورة واحدة بينما لا تكون مستلزمة للجبر في صورة أُخرى ، فإن قلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت بصدور كل ظاهرة من علّتها لا عن اختيار ، ففي هذه الصورة تكون الإرادة الإلهية موجبة للجبر ، ولكنّنا إذا اعتبرنا العالم هذا عالم الأسباب والمسببات وتصوّرنا لكلّ معلول علّة خاصة به واعتبرنا الإنسان ـ من بين هذه الأسباب والعلل ـ فاعلاً مختاراً وقلنا بأنّ الإرادة الإلهية تعلّقت منذ الأزل بأن يصدر الفعل البشري منه بكامل اختياره وحريته ، ففي هذه الصورة بين هذا وبين الجبر مئات الفراسخ والأميال.
جواب على سؤال
لو قال أحد : إذا كان عالم الممكنات بكل خصائصه وآثاره مخلوقاً لله ، ومنبعثاً عن إرادته ومشيئته ، فقدرته وسعت كل شيء وشملت كل الوجود بلا استثناء إذن ، فكيف يمكن أن تنسب أفعال البشر القبيحة إلى « الله » سبحانه ؟
هل يمكن أن نسند الظلم والأفعال القبيحة إلى الله ونعتبرها مرادة ومخلوقة له ، وهو القائل :
( قُلْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) (61).
والقائل :
( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) (62).
فهل من الصحيح أن نعتبره خالق المفاسد والمعاصي والرذائل ؟ وماذا يعني من كونه : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) ؟
أفليس يفيد قوله تعالى : ( لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (63) أنّ خالقيته تشمل كل ما في الوجود وكل ما يكون مصداقاً للشيء ؟
وبعبارة أُخرى : أفلا يستفاد من الآية التي تقول : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) كما في سورة السجدة الآية 7 ، أنّ كل ما هو مخلوق لله فهو متصف بالحسن والجمال ، وبعيد عن القبح بحيث يمكن أن يقال أنّ الخلق والحسن متلازمان في خلق الله لا ينفكان ولا ينفصلان ؟ فإذا كان الله خالق كل شيء ، فكيف يمكن أن يوصف الظلم ـ مثلاً ـ بالحسن وهو كما نعلم من القبائح المسلمة ؟
على أنّ المشكلة لا تنحصر في مسألة الأفعال القبيحة التي يفعلها الناس بل تصدق على مسألة الآفات والبلايا والشرور ، فكيف تصدر من الله هذه الحوادث المستقبحة التي تصيب البشر ، وتشقيه ؟
ولنوضح الإشكال بصورة أكثر جلاء فنقول :
إنّ الإشكال يرد ـ على القائلين بأنّ ( اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) على الإطلاق ـ في موردين :
1. الأعمال القبيحة التي تصدر من العباد ، فكيف يمكن أن تكون مخلوقة لله ؟ وهذا هو ما دفع بعض أهل الكلام إلى أن ينسبوا كل أفكار البشر وأفعاله خيرها وشرها بنحو مطلق إلى البشر نفسه ، وأن يقطعوا وينكروا أي ارتباط وصلة بين هذه الأفكار والأفعال وبين المقام الربوبي ، وقد دفعهم إلى هذا الاعتقاد تصور أنّ اسناد أفعال البشر إلى الله يستلزم أن يكون الظلم مخلوقاً لله سبحانه.
2. انّ هناك في عالم الكون أُموراً تدعى بالشرور والبلايا ، فكيف يصح أن نعتبر الله الحكيم خالقاً لهذه الشرور والآفات ؟! وهذا هو ما تسبب في أن يظهر فريق باسم المجوس يعتقدون بخالقين للكون :
أ. خالق للخير يدعى يزدان.
ب. خالق للشر يدعى اهريمن.
فكيف يواجه القرآن هذين الفريقين وهو يؤكد على وحدة الخالق ، وما هو جوابه عليهما ؟
الجواب
أمّا الأفعال القبيحة فإنّ لها جانبين : وبتعبير آخر : انّ هذه الأفعال يمكن أن تطالع من جانبين :
1. الجانب الوجودي ، الإثباتي.
2. الجانب العدمي ، السلبي.
فالفعل على وجه الإطلاق لا يكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب الوجودي ويكون قبيحاً إذا طالعناه من الجانب الثاني ( أي الجانب العدمي السلبي ).
خذ مثلاً : اللقاء الجنسي الذي يتم بين الرجل المرأة بصورة غير مشروعة ، فإنّ مثل هذا اللقاء غير المشروع لا يختلف عن اللقاء المشروع في الجوانب الوجودية ، فكلاهما سواء من حيث إنّ العملين نتيجة « الفعالية الجنسية » غايته انّ التفاوت بين هذين اللقاءين هو أنّ العمل الأوّل غير مأذون به من قبل الله أو السلطة التشريعية في حين أنّ العمل الثاني مأذون به من قبل الله أو موافق لرأي السلطة التشريعية.
وعلى هذا فإنّ عامل القبح في « الزنا » هو صفة « اللامشروعية » التي هي أمر عدمي وسلبي مائة بالمائة ، والذي تتعلّق به القدرة إنّما هو الجانب الوجودي ، للشيء وليس الجانب العدمي السلبي متعلّقاً بها ، لأنّ الأُمور العدمية والجوانب السلبية أقل من أن تتعلّق بها القدرة الإلهية بل يستحيل تعلّق عملية الخلق بها.
وانّك ـ بالإمعان في هذا المثال ـ بإمكانك أن تتناول بالتحليل غير عمل الزنا من القبائح كالظلم والخدعة والخيانة والجناية ، فالظلم ـ مثلاً ـ إنّما يكون قبيحاً ، لأنّه يؤدي إلى ذهاب حق المظلوم ويوقف نمو المجتمع وتقدّمه ، وهذا بما أنّه أمر عدمي ليس متعلّقاً للقدرة والإرادة الإلهية.
تحليل عن الشرور
إنّ السؤال السابق بعينه ينطرح بالنسبة إلى « الآفات والبلايا » كالزلازل والسيول وغيرها ، وقد بحثه المسلمون في كتبهم الكلامية والفلسفية ، ولكنّنا بغية إكمال هذا القسم نعمد إلى بحثه بصورة مختصرة.
لو تناولنا بالتحقيق كل ما يسمّى شراً ، لتبيّن لنا أنّ تلك الصفة ناشئة من كون الشيء مصحوباً بالعدم ، فالمرض ـ على سبيل المثال ـ إنّما يكون شراً وغير مطلوب ، لأنّ المريض ـ حال مرضه ـ يكون فاقداً للصحة والعافية ، وهكذا بالنسبة إلى الأعمى والأصم ، فحيث إنّ السمع والبصر من لوازم الحياة عند البشر لكونهما موجبين لكماله ، لذلك يكون فقدانهما « شراً » وأمراً غير مطلوب ، ولكن العمى أو الصمم ليس شيئاً وجودياً في الإنسان الأعمى والأصم ، إنّما هو فقدان وصفي السمع والبصر وعدمهما ليس غير.
فما العمى أو الصمم ـ في الواقع ـ سوى حالة الفقدان والعدمية ؟
من ملاحظة هذه النقطة ومقارنة كل الأُمور والموارد المعدودة من الشرور مع المثال المذكور ، يتبين أنّ الشر ملازم لنوع من العدم الذي لا يحتاج إلى موجد وفاعل ، بل هو عين ذلك الفقدان ، فكل البلايا والشرور والقبائح إنّما تكون إذن شروراً وأُموراً غير مطلوبة لكونها « فاقدة » لنوع من الوجود أو مستلزمة ومصحوبة بنوع من العدم.
وقس على ذلك الحيوانات المفترسة والضارة والآفات فكلّها إنّما تكون شراً لأنّها تجر إلى فقدان سلسلة من الأُمور والجهات الوجودية ، لأنّ كل هذه الأشياء ( الحيوانات المفترسة والمضرة والآفات ) توجب الموت وفقدان الحياة أو فقدان عضو من الأعضاء ، أو قوة من القوى ، أو تتسبب في منع نمو القابليات والاستعدادات وتحوّلها إلى مرحلة الفعلية ، فلو كانت هذه الشرور كالزلازل والآفات الحيوانية والنباتية لا تنطوي على مثل هذه النتائج لما عدت شروراً ، ولما كانت أُموراً قبيحة غير مطلوبة.
وعلى هذا فإنّ الموت والجهل والفقر إنّما تكون شروراً لكونها ترافق أنواعاً من العدم ، فالعلم كمال وواقعية يفقدها الجاهل ، والحياة حقيقة وكمال يفقدها الميت ، والفقير هو ـ بالتالي ـ من يفقد المال الذي يعيش بسببه.
خلاصة القول
إنّه ليس في هذا الوجود إلّا نوع واحد من الموجودات ، وهو ما يكون خيراً وجميلاً وحسناً.
أمّا الشرور فهي من نوع العدم ، والعدم ليس مخلوقاً ، بل هو من باب « عدم الخلق » وليس من باب « خلق العدم ».
ولهذا ( أي الوجود الخير فقط ) لا يمكن أن يقال أنّ للعالم خالقين : أحدهما خالق الخير ، والآخر خالق الشر ، إنّ مثل الوجود والعدم مثل الشمس والظل ، فعندما نقيم في الشمس شاخصاً يحدث على الأرض ظل بسبب ذلك الشاخص الذي منع من وصول النور.
وما الظل في الحقيقة إلّا عدم النور ، لأنّ الظل هو الظلمة ، والظلمة ليست إلّا « عدم » النور ، فلا يصح أن نتساءل ـ هنا ـ : ما هي حقيقة الظل ؟ إذ ليست للظل واقعية خارجية وحقيقة عينية تقابل حقيقة النور وجوهره ، إنّما الظل هو :
عدم النور ومعنى هذا أنّه ليس للظل أو الظلمة منبع ينبعان ، ومنشأ ينشآن منه.
هذا ولصدور الآفات والشرور من جانب الله توجيهات أُخرى نذكرها فيما يأتي.
جواب آخر حول الشرور
في التحليل ـ المذكور فيما سبق ـ بيّنا بوجه مبسوط أوّل الأجوبة التي يجيب بها العلماء على الثنويين ، واتضح أنّ الشر أمر عدمي ، والأمر العدمي الذي هو نوع من الفقدان لا يحتاج إلى خالق وفاعل وموجد ، وفيما يلي نعمد إلى توضيح ثاني أجوبتهم.
الشر أمر نسبي
إنّ لفظة « الحقيقي » و « النسبي » من الألفاظ الرائجة في اصطلاح العلماء كما هي تستعمل في كثير من العلوم الإنسانية والتجريبية ، وإليك توضيحها :
كل موجود نصفه بصفة أمّا أنّه موصوف بتلك الصفة في كل حال مع قطع النظر عن أي شيء وهذه ما نسمّيها بـ « الصفة الحقيقية » ، مثلاً صفة الحياة ثابتة للموجود الحي على وجه الحقيقة ، ولا حاجة إلى توصيفه بصفة الحياة إلى أي نوع من المقارنة والمقايسة ولأجل ذاك تكون الحياة بالنسبة للحي صفة حقيقية ، ووصفه بالحياة توصيفاً حقيقياً وواقعياً.
فكون المتر يتألف من ( 100 ) سنتيمتر واقعية ثابتة للمتر في جميع الحالات ، ولا حاجة لتوصيف المتر بهذه الكمية إلى أي نوع من المقايسة بشيء.
ويقابل الوصف الحقيقي « الوصف النسبي » ، بمعنى أنّ الشيء ما لم يقس ويقارن بشيء آخر ، وما لم يكن هناك موجود آخر لا يمكن توصيف الشيء بصفة.
فالصغر والكبر ـ مثلاً ـ من الأوصاف التي لا يمكن أن يوصف بهما شيء من الأشياء إلّا إذا كان هناك شيء ثان يقاس به هذا الشيء ، حتى يمكن أن يقال في شأنه هذا « أصغر » وهذا « أكبر » أو هذا « صغير » وذاك « كبير » ، فإنّ الصغر والكبر صفان لا يصدقان على شيء إلّا بعد مقارنته بشيء آخر ، فالكرة الأرضية ـ مثلاً ـ إنّما يمكن وصفها بالصغر والكبر ويقال الكرة الأرضية « صغيرة » أو « كبيرة » إذا ما قيست بكرة الشمس والقمر فحينئذ يصح قولنا : الكرة الأرضية أصغر من الشمس وأكبر من القمر ، فالصغر والكبر ليسا وصفين حقيقيين بالنسبة إلى الأرض بحيث يدخلان في حقيقة الأرض وإلّا لما أمكن وصفها بوصفين متضادين ، بل هما وصفان نسبيان وحالتان للأرض يعرضان لها كلّما قيست إلى الكرتين « الشمس والقمر » ويمكن وصف الأرض بهما في تلك الحالة ، وبذلك لا يكون هذان الوصفان حقيقيين.
من هذه المقارنة والبيان يمكن استنباط نتيجة فلسفية هامة ، وهي : انّ « الصفات الحقيقية » على غرار موصوفاتها التي تتمتع بواقعية لا تنكر على صعيد الخارج ، إنّما تحتاج إلى جاعل وخالق.
وأمّا الصفات النسبية حيث إنّها ليست بذات واقعية خارجية ، بل هي وليدة الذهن ، ونتيجة أفكارنا لدى المقايسة لا تكون محتاجة إلى الخالق والموجد ، إذ لا واقعية خارجية لها حتى تكون محتاجة إلى موجد.
إنّ حياة الخلية أو وصف المتر بكونه مائة سنتيمتر من الأُمور التي تتمتع بالواقعية الخارجية ، فما لم يكن وراؤهما واقعية أُخرى ( ونعني الخالق ) ، لما تحقّقا على صعيد الخارج ، ولما كان لهما حظ من الوجود خارج عالم الذهن حسب قانون العلية.
ولكن الصغر والكبر في المقابل بالنسبة إلى الأرض ليسا لهما واقعية خارج الذهن لكي يحتاجان إلى الخالق والموجد.
إنّ المحتاج إلى الموجد والخالق إنّما هو وجود نفس الكرة الأرضية ، وأمّا صغرها وكبرها فهو وليد الذهن والفكر الذي ينشأ من مقارنة جسمين ببعضهما.
من هذا البيان يمكن معرفة حقيقة « الشرور والآفات » وأنّها من أي نوع من هذين النوعين من الصفات.
هل هي من الصفات الحقيقية ؟
أو هي من الصفات النسبية ؟
بمراجعة سريعة وتحقيق عاجل يمكن معرفة أنّ الشرور أُمور نسبية لا حقيقية بمعنى أنّ صفة الشر ليست جزءاً من ذوات وحقائق الأشياء الموصوفة بالشر ، بل الشر حالة تنسب إلى شيء من الأشياء عندما يقاس إلى شيء آخر ، فسم الحية والعقرب وغزارة المطر لا تكون شراً إذا ما قيست بنفس الأشياء ، بل هي مبعث كمالها وموجب لبقائها واستمرار حياتها ووجودها ، إنّما هي شر إذا ما قيست إلى الإنسان وتضرر البشر بها فالمطر الغزير مثلاً لا يكون شراً في حد ذاته بل عندما يقاس بشيء آخر اتصف حينئذ بهذا الوصف ، فلو نزل المطر الغزير في فصل مناسب أحيا الزرع والنبات واخضرت بسببه المزارع والحدائق وكان خيراً ، ولكنّه يكون شراً من جهة كونه موجباً لانهدام الأكواخ في الصحارى والبراري ، وعلى هذا فإنّ الخير والشر لو كانا من الأوصاف الحقيقية وكان لهما حظ من الوجود لأمكن وصح حينئذ أن نسأل عن موجدها وخالقها ونقول : إنّ المبدأ الذي يتصف بالخير المطلق لا يمكن أن يكون خالق الشرور ، ولذلك نضطر إلى افتراض خالق آخر ( غير خالق الخير ) يكون خالق الشرور وموجودها.
ولكنّ الحق أنّه ليس للشرور « واقعية خارجية » ليتعلّق بها جعل وخلق ، وعلى هذا فإنّ ما يكون له حظ من الوجود الخارجي كسم العقرب لا يكون مستغنياً عن الخالق ، ولكن شرّية هذا السم ليست لها واقعية لتنضم إلى وجود السم فتكون رديفة للسم في عالم الوجود والكون ، ولأجل هذا لا تحتاج شرّية السم إلى خالق ، ويكون البحث عن خالقها لغواً لا معنى له ، لأنّ الشر ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ ليس بذات واقعية خارجية كيما يفتقر إلى الفاعل.
وبعبارة أُخرى انّه ليس من الصحيح أن يقال أنّ الله بخلقه للعقرب خلق شيئين وفعل أمرين : خلق « ذات » العقرب مع شرها ، بل فعل الله سبحانه شيئاً واحداً ، وهو أنّه تعالى ألبس هذا الموجود لباس الوجود ، وإنّما الإنسان هو الذي يصف هذا العقرب بالشرّية والقبح عندما يقيسه إلى شيء آخر.
من هنا يمكن إدراك حقيقة الجملة التي يرددها الفلاسفة عند بيان نسبة الشرور إلى الله إذ يقولون :
جميع الموجودات من حيث كونها تتحلّى بالوجود فهي مخلوقة لله بالذات ، وأمّا من حيث اتصافها بالشرّية فليست موضع إرادته سبحانه بل هي ذات نسبة عرضية ومجازية إذا قيست إلى مبدأ الخلق (64).
وهناك أجوبة أُخرى عن وجود الشر في صفحة الوجود نتركها رعاية للاختصار.
الهوامش
1. انّ اعتقاد المعتزلة باستقلال العلل والأسباب في الفاعلية هو نوع من الشرك الخفي الذي لا يدركه إلّا العلماء والمحققون دون عامة الناس ، ولهذا لا يكون هذا الاعتقاد سبباً للخروج من الإسلام.
2. الإسراء : 111.
3. النازعات : 4.
4. بحار الأنوار : 5 / 54.
5. نعم أنّ أصحاب الاعتزال قد أخذوا الأصلين الرئيسيين ( التوحيد والعدل ) عن خطب أمير المؤمنين عن طريق محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم غير أنّهم لابتعادهم عن سائر أئمّة أهل البيت لم يوفقوا إلى تفسير هذين الأصلين على النحو اللائق بهما إلى أن وجد فيهم أقوام لهجوا بأنّ الله غير قادر على أفعال الإنسان إيجاداً واعداماً وهؤلاء هم القدرية الحقيقية.
6. بحار الأنوار : 5 / 57.
7. للسيد الرضي في المقام كلام فراجع حقائق التأويل : 209 ـ 210.
8. نعم هذه النظرية تقارب ما نقل من الفيلسوف الإنجليزي المعروف : هيوم ، حيث إنّه أنكر مطلق العلية ولم يعترف حتى بعلّة واحدة ، وعلّل ذلك بأنّ التجربة لا تثبت إلّا التوالي والتقارن بين النار وحرارتها والشمس وضوئها ، وهما غير العلّية أي نشوء شيء من شيء.
ولكنّه لما حصر أسباب المعرفة بالتجربة والاختبار عجز عن إثبات قانون العلية الذي تبتني عليه المعارف البشرية ، ولو رجع إلى البراهين الفلسفية التي أقامها الفلاسفة على أنّ كل ظاهرة ممكنة تحتاج إلى سبب يخرجها من نقطة الاستواء لظهر له الحق بأجلى مظاهره.
9. الرعد : 4.
10. البقرة : 22.
11. السجدة : 27.
12. النور : 43.
13. الروم : 48.
14. اتحاف السادة : 2 / 135.
15. الفهرست لابن النديم : 257.
16. مقالات الإسلاميين : 1 / 321.
17. طبقات الحنابلة : 1 / 25.
18. راجع القضاء والقدر في العلم والفلسفة تأليف شيخنا الأُستاذ وتعريب محمد هادي الغروي طبع في بيروت 1399 هـ.
19. قد فسر الوهابيون « الرب » بالخالق واعتبروا التوحيد في الربوبية والتوحيد في الخالقية قسماً واحداً ، في حين أنّ الربوبية لا تعني الخالقية ، بل تعني إدارة فرد أو جماعة وتدبير أُمورهم وسيأتي توضيح هذا القسم في المستقبل.
20. الرعد : 16.
21. الزمر : 62.
22. غافر : 62.
23. الأنعام : 102.
24. الحشر : 24.
25. الأنعام : 101.
26. فاطر : 3.
27. الأعراف : 54.
28. أجود التقريرات : 1 / 90.
29. الفرقان : 2.
30. طه : 50.
31. الأعلى : 2 ـ 3.
32. آل عمران : 49.
33. المقاييس لابن فارس : 2 / 214 ، والقاموس المحيط : مادة خلق.
34. الفرقان : 2.
35. غافر : 67.
36. الفرقان : 2.
37. الصافات : 93 ـ 96.
38. سبأ : 13.
39. الأعراف : 191.
40. ومثله الآية 20 من سورة النحل والآية 3 من سورة الفرقان.
41. العنكبوت : 17.
42. مجمع البحرين مادة خلق ، ولا يخفى أنّه كما تكون ذوات الأشياء خيراً وشراً كذلك تكون الأفعال خيراً وشراً ، بل نسبة الخير والشر إلى الذوات كصحة البدن والمال إنّما هي باعتبار كونها مبدأ للخير والشر.
43. الحج : 73.
44. نعم عند ذاك لا تصلح الآيات الحاصرة للخلق بالله سبحانه للاستدلال في المقام إلّا بضرب من التأويل ، ولا بد من الاستدلال بالآيات التي تحصر القيومية بالله سبحانه وغيرها من الآيات.
45. البقرة : 255 ، وآل عمران : 2.
46. وقوله سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) ( طه : 111 ).
47. لقمان : 11.
48. الفرقان : 3.
49. الرعد : 16.
50. الحج : 73.
51. الروم : 40.
52. فاطر : 40.
53. راجع الآيات التالية : الأنعام : 102 ، فاطر : 3 ، الزمر : 62 ، غافر : 62 ، الحشر : 24 وغيرها.
54. الحجر : 86.
55. يس : 81.
56. الحج : 73 ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا ).
57. آل عمران : 49.
58. المؤمنون : 14.
59. شرح المنظومة : 175.
60. هذا الجواب يرجع إلى ما ربما يقال أنّ الله خلق الإنسان وخلق فيه ( جبراً ) قوة الاختيار في الأفعال بمعنى أنّه لا يجبره شيء في كل فعل يصدر منه.
نعم أنّ العبد وإن كان مجبولاً على الاختيار وخُلق على الحرية التامة لكن حريته وكونه مختاراً لا يخرج عن حيطة إرادة الله ومشيئته إذ لا يمكن أن يوجد شيء في صفحة الوجود ويكون خارجاً عن مشيئته وإرادته بتاتاً ، فصدور الفعل عن العبد عن اختيار ، غير خارج عن حيطة إرداته.
وعلى القارئ الكريم أن يرجع للمزيد من التوضيح إلى المثال الذي ذكرناه في صفحة 349 فإنّه يصور كيفية إرادته سبحانه وإرادة العبد.
61. الأعراف : 28.
62. فصلت : 46.
63. الأنعام : 102 .
64. هذا هو تفصيل قولهم : الشرور ليست مجعولة بالذات بل هي مجعولة بالتبع والعرض.
مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 1 / الصفحة : 332 ـ 373