المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 81 ـ 84
(81)
التوحيد في التشريع
(8)
انحصار حق التقنين والتَّشريع في الله سبحانه
إنَّ التَّوحيد في التشريع من فروع التَّوحيد في الربوبية ، فإذا كان الله
سبحانه هو الربُّ والمدبّر والمدير للكون والإِنسان ، والمالك والصاحب فلا
وجه لسيادة رأي أحد على أحد ؛ لأنّ النَّاس في مقابله سبحانه سواسية
كأسنان المشط فلا فضل لأحد على أحد من حيث هو هو.
وبعبارة أُخرى : إنَّ المُشَرّع والمُقَنّنِ لا ينفك تشريعه وتقنينه عن إيجاد
الضيق على الفرد والمجتمع ، فينهى عن شيء تارة ويُسَوّغُه أُخرى ، ويعاقب
على العصيان والمخالفة . ومن المعلوم أنَّ هذا العمل يتوقف على ولاية
المقنن على الفرد أو المجتمع ، ولا ولاية لأحد على أحد إلاَّ الله سبحانه ؛
فلأجل ذلك لا مناص من القول بأنَّ التقنين والتشريع الّذي هو نوع تدبير
لحياة الفرد والمجتمع مختص بالله سبحانه ، وليس لأحد ذلك الحق.
وعلى هذا الأساس لا يوجد في الإسلام أي سلطة تشريعية لا فردية ولا
جماعية ، ولا مشرّع إلاّ الله وحدة ، وأمَّا الفقهاء والمجتهدون فليسوا بمشرعين
بل هم متخصصون في معرفة تشريعه سبحانه ، ووظيفتهم الكشف عن الأحكام
بعد الرجوع إلى مصادرها ، وجعلها في متناول الناس.
وأمَّا ما تُعُورف في القرن الأخير من إقامة مجالس النواب أو الأُمة أو
________________________________________
(82)
الشورى في البلاد الإسلامية ، فليست لها وظيفة سوى التخطيط لإِعطاء
البرامج للمسؤولين في الحكومات في ضوء القوانين الإِلهية لتنفيذها.
والتخطيط غير التقنين كما هو واضح.
وعلى ذلك فهناك مُقَنّن وَمَشَرّع وهو الله سبحانه ، كما أنَّ هناك مُبَيّن
وكاشف عن القوانين وهو الفقيه ، وهناك جماعة الخبراء الواقفون على
المصالح والمفاسد ، وشأنهم التخطيط والبرمجة في مجالات الزراعة والتنمية
والاقتصاد والصناعة وغير ذلك ممَّا لا تتم الحياة في هذه العصور إلاّ به ، وهم
نواب الأُمة ووكلاؤهم في تلك المجالس.
ثمّ إنَّ هناك آيات في الذكر الحكيم تدل بوضوح على اختصاص
التشريع بالله سبحانه ، نذكر بعضاً منها:
قال سبحانه:{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْكَافِرُونَ}(1).
وقال سبحانه :{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الظَّالِمُونَ}(2).
وقال سبحانه:{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(3).
فهذه المقاطع الثلاثة تعرب عن انحصار حق التقنين بالله سبحانه ؛ وذلك
لأنّه يصف كل من حكم بغير ما أنزل الله تارة بالكفر ، وأُخرى بالظلم ، وثالثة
بالفسق ، فهم كافرون ؛ لأنّهم يخالفون التشريع الإِلهي بالرّدِ والإِنكار
والجحود ، وظالمون ؛ لأنّهم يسلّمون حق التقنين الّذي هو مختص بالله
سبحانه إلى غيره ، وفاسقون ؛ لأنّهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة الله تعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة: الآية 44.
(2) سورة المائدة: الآية 45.
(3) سورة المائدة: الآية 47.
________________________________________
(83)
وباختصار : يَعُدّ الحُكْمَ صنفين : حكم الله تبارك وتعالى ، وحكم
الجاهلية ويقول: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ}(1).
« فالحكم حكمان : حكم الله ، وحكم أهل الجاهلية ، فمن أخطأ بحكم
الله ، حكم بحكم أهل الجاهلية » (2).
وعلى ضوء ذلك فالسلطات التشريعية السائدة في العالم ، إذا كان
تشريعها مطابقاً لتشريع الله سبحانه فهو حكم الله ، ولو أضيف إلى المجالس
فقد سبقه التشريع الإِلهي ولم يكن حاجة لتشريعه . وإن كان على خلافه فهو
حكم الجاهلية حسب النصّ الشريف.
نعم ، ها هنا أسئلة حول اختصاص التشريع بالله سبحانه نترك الإِجابة
عنها إلى الأبحاث الفقهية . ولكن نأتي بنكتة ، وهي أَنَّ حق التشريع على
العباد من شؤون الربوبية ، فمن أعطى زمان التشريع إلى غيره سبحانه فقد
اتخذه ربّاً ولو في بعض الشؤون لا كلّها ؛ ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرمي
اليهود والنصارى بأنّهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ }(3). ولم يكن اتِّخاذهم أرباباً لأجل عبادتهم بل لأجل دفع
حق التشريع إليهم.
روى الثعلبي في تفسيره عن علي بن حاتم قال : « أتيت رسول الله
ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وفي عنقي صليب من ذهب . فقال لي: يا علي إطرح
هذا الوثن من عنقك ، فطرحته ، ثمّ انتهيت إليه ، وهو يقرأ من سورة البراءة هذه
الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا } حتى فرغ منها . فقلت له: إنَّا
لسنا نعبدهم . فقال: أليس يحرمون ما أحلّ الله ، فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله ،
فتستحلّونه . قال: فقلت: بلى . قال: فتلك عبادتهم ».
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة: الآية 50.
(2) من لا يحضره الفقيه : ج 3، ص 3.
(3) سورة التوبة: الآية 31.
________________________________________
(84)
ورُوي عن الباقر والصادق ـ عليهما السَّلام ـ أنّهما قالا : «أما والله ما
صاموا ولا صَلُّوا ، ولكنهم أحَلّوا لهم حراماً وحَرّموا عليهم حلالاً ، فاتَّبَعوهم
وعَبَدوهم من حيث لا يشعرون» (1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان : ج 3، ص 23. فاتخاذ الرّب وإعطاء زمان التشريع كان على وجه الحقيقة ،
وفي تسمية ذلك عبادة نوع تَجَوُّز وتوسع كما سيوافيك في معنى العبادة.