المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 86 ـ 93
(86)
ما هي العبادة؟
لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض ، ولكن مع وضوح
مفهومها وحضور هذا المفهوم في الذهن يصعب التعبير عنه بالكلمات ، فكما
هي واضحة مفهوماً ، كذلك واضحة مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها
عن مصاديق التعظيم والتكريم . فتقبيل العاشق دار معشوقته ، أو تراب قبرها
بعد موتها لا يوصف بالعبادة ، كما أن ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من
الشخصيات ، والوفود إلى مقابرهم ، أو الوقوف أمامها احتراماً لا يعد عبادة ،
وإنْ بلغ من الخضوع ما بلغ . ولكن لكي نعطي ضابطة كلية لتمييز المصاديق
نأتي بتعاريف ثلاثة تتميز بها العبادة عن التكريم والتعظيم وإليك بيانها.
التعريف الأوّل
العبادة هي : « الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد
بألوهية المخضوع له» (1). ويتضح صدق هذا التعريف ببيان أمرين:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيوافيك فيما يأتي معنى الالوهية.
________________________________________
(87)
الأوّل : إنّ العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم
وبيئاتهم ، بل كل الوثنيين وعبدة الشمس والكواكب والجن ، كانوا يعتقدون
بألُوهية معبوداتهم ، ويتخذونها آلهة صغيرة ، وفوقها الإِله الكبير الّذي نسمّيه
بـ« الله » سبحانه وتعالى.
الثاني : إنَّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد
بألوهية المعبود ، وأَنَّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد ، فلا يكون
الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.
أمّا الأمر الأوّل فيدل عليه آيات كثيرة نشير إلى بعضها ، يقول
سبحانه:
{ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(1).
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}(2).
{ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى }(3).
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ِلأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً }(4).
فهذه الآيات تشهد على أنَّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد
بألوهية أصنامهم ، وقد فسّر الشرك في بعض الآيات بـ« اتخاذ الإِله مع الله » ،
وذلك في قوله سبحانه : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحجر: الآية 96.
(2) سورة مريم: الآية 81.
(3) سورة الأنعام: الآية 19.
(4) سورة الأنعام: الآية 74.
(5) سورة الحجر: الآيات 94 ـ 96.
________________________________________
(88)
وفي آية أُخرى يفسّر حقيقة الشّرك بـ« اعتقاد أُلوهية المعبود» وذلك
في قوله سبحانه: { أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }(1).
فجعل مِلاك الشّرك الاعتقاد بألوهية غير الله ، والمراد من الشّرك هنا ، الشّرك
في العبادة.
فبهذه الآيات ونظائرها يتجلى بوضوح تام أنَّ شركهم كان بسبب
اعتقادهم ألوهية معبوداتهم ، وبسبب هذا الاعتقاد كانوا يعبدونها ويقدمون لها
النذور والقرابين وغير ذلك من التقاليد والسنن العبادية . وبما أنَّ كلمة
التَّوحيد تهدم عقيدتهم بألوهية غير الله سبحانه ، كانوا يستكبرون عند سماعها
كما قال عزّ وجل: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}(2).
أي يرفضون ما قيل لهم ؛ لأنّهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم أيضاً ، ويعبدونها ؛
لأنّها آلهة بحسب تصورهم.
ولأجل هذه العقيدة السخيفة كانوا إذا دُعي الله وحده كفروا به ، وإذا
أُشرك به آمنوا كما قال سبحانه : { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ
يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}(3).
وأمّا الأمر الثاني : فيدل عليه الآيات الّتي تأمر بعبادة الله وتنهى عن
عبادة غيره ، مدلّلة ذلك بأنَّه لا إله إلا الله كقوله سبحانه وتعالى:{ يَاقَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }(4). ومعنى ذلك أنَّ الّذي يستحق العبادة هو
من كان إِلهاً ، وليس هو إِلاَّ الله . وعندئذٍ فكيف تعبدون ما ليس بإله . وكيف
تتركون عبادة الله وهو الإِله الّذي يجب أن يُعبد دون سواه؟ ، وفي هذا
المضمون وردت آيات كثيرة أخرى(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الطور: الآية 43.
(2) سورة الصافات: الآية 35.
(3) سورة غافر: الآية 12.
(4) سورة الأعراف: الآية 59.
(5) قد ورد هذا المضمون في عشرة موارد أو أكثر في القرآن الحكيم ، ويمكن للقارئ الكريم أنْ
يراجع لذلك الآيات التالية: الأعراف / 65 و73 و85 ، هود / 50 و61 و84 ، الأنبياء / 25،
المؤمنون / 23 و24، طه / 14.
________________________________________
(89)
فهذه التعابير الّتي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف ، تفيد أنّ
العبادة هي الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بألوهية المعبود ، إذ نلاحظ
بجلاء كيف إنَّ القرآن استنكر عبادة المشركين غير الله بأنَّ هذه المعبودات
ليست بآلهة ، وأنَّ العبادة من شؤون الألوهية ، فإذا تحقق وصف الألوهية في
شيء جازت عبادته واتخاذه معبوداً . وحيث أنَّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في
الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.
فإلى هنا اتضح أنَّ الحق في التعريف هو أنْ يقال: « إنَّ العبادة هي
الخضوع النابع عن الإِعتقاد بألوهية المعبود» ، وإلى ذلك يشير العلاّمة الحجّة
المرحوم الشيخ محمّد جواد البلاغي في تفسيره المسمّى بـ« آلاء الرحمن »
في معرض تفسيره وتحليله لحقيقة العبادة قال: « العبادة ما يرونه مشعراً
بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إليهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز
بالأُلوهية » (1).
لقد صَبَّ العلامة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ
والبيان . والآيات المتقدمة تؤيد صحّة هذا التعريف واستقامته.
التَّعريف الثاني
العبادة هي: « الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأنا من شؤون
وجود العابد وحياته وآجله وعاجله ».
توضيح ذلك : إنَّ العبودية من شؤون المملوكية ومقتضياتها ، فعندما
يحسّ العابد في نفسه بنوع من المملوكية ، ويحسّ بالمالكية في الطرف
الآخر ، يُفرغ إحساسه هذا ، في الخارج ، في ألفاظ وأعمال خاصة ،
وتصير الألفاظ والأعمال تجسيداً لهذا الإِحساس ، ويكون كل عمل أو لفظ
مُظْهِر لهذا الإِحساس العميق ، عبادة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آلاء الرحمن : ص 57، طبعة صيدا. وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.
________________________________________
(90)
ولا شكّ أنْ ليس المقصود بالمالكية ، مطلق المالكية ، فالاعتقاد
بالمالكية القانونية والاعتبارية لا يكون أبداً موجباً لصيرورة الخضوع عبادة .
والبشر في عصور « العبوديات الفردية » بالأمس ، و« العبودية الجماعية» في
الحاضر ، لا يعدون امتثالهم لأوامر أسيادهم عبادة . وإنّما المقصود من
المملوكية هنا ، القائمة على أساس الخلق والتكوين ، والتسلّط على شأن من
شؤون التكوين . فالمالكيات الحقيقية لها مناشئ مختلفة وهاك بيانها:
1 ـ قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً ، ومن هنا يكون الله سبحانه مالكاً
حقيقياً للبشر ؛ لأنّه خالقه وموجوده من العدم . ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر
جميع الموجودات الشاعرة عبيداً لله ، ويصفهم تعالى بأنّه مالكهم الحقيقي ؛
وذلك لأنّه خلقهم ، إذ يقول سبحانه: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}(1).
ولأجل ذلك أيضاً نجده سبحانه يأمرهم بعبادة نفسه معللاً بأنّه هو ربّهم
الّذي خلقهم دون سواه ، إذ يقول: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }(2) . ويقول جلّ شأنه: { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ }(3).
2 ـ ويوصَف بالمالكية لكونه رازقاً ومحيياً ومميتاً ، ولذلك يحس كل
إنسان سليم الفطرة بمملوكيته لله تعالى ؛ لأنَّه سبحانه مالك حياته ومماته
ورزقه . ومن هنا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية الله تعالى لرزق الإِنسان ،
وأنّه تعالى هو الّذي يميته ، وهو الّذي يحييه ، ليلفته من خلال ذلك إلى أنَّ الله
هو الّذي يستحق العبادة فحسب ؛ إذ يقول عزّ من قائل : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }(4). ويقول سبحانه: { هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة مريم: الآية 93.
(2) سورة البقرة: الآية 21.
(3) سورة الأنعام: الآية 102.
(4) سورة الروم: الآية 40.
________________________________________
(91)
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ }(1). ويقول تعالى : {هُوَ يُحْيِ
وَيُمِيتُ }(2).
3 ـ ويوصَف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده ، وحيث إنَّ الله تعالى هو
المالك للشفاعة المطلقة لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا }(3).
ولمغفرة الذنوب لقوله تعالى: { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ }(4). بحيث لا
يملك أنْ يشفع أحد لأحد من العباد إلاَّ بإذنه ، لذلك يشعر الإِنسان في قَرارَة
ضميره بأنَّ الله سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية ، وإذا أحس
إنسان بمملوكية كهذه ومالكية كتلك ، ثمّ جَسَّد هذا الإِحساس في قالب
اللفظ أو العمل ، كان عابداً له بلا ريب.
وإلى ذلك يرجع ما ربما يفسّر العبادة بأنَّها خضوع أمام من يعتقد
بربوبيته ، فمن كان خضوعه العملي ، أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد
بربوبيته ، كان بذلك عابداً له . ويكون المقصود من لفظة « الرّب » في هذا
التعريف هو المالك لشؤون الشيء ، القائم بتدبيره وتربيته.
ويدل على ذلك أنَّ قسماً من الآيات تعلل الأمر بحصر العبادة في الله ،
وحده بأَنّه الربّ ، فمن ذلك قوله سبحانه: { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }(5). وقوله سبحانه: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(6). وقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }(7). وغير ذلك من الآيات الّتي تجعل العبادة دائرة مدار
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الروم: الآية 28.
(2) سورة يونس: الآية 56.
(3) سورة الزُّمر: الآية 44.
(4) سورة آل عمران: الآية 135.
(5) سورة المائدة: الآية 72.
(6) سورة الأنبياء: الآية 92.
(7) سورة آل عمران: الآية 51.
________________________________________
(92)
الربوبية(1).
التعريف الثالث
ويمكننا أَنْ نصبَّ إدراكنا للعبادة في قالب ثالث فنقول : العبادة هي
« الخضوع ممّن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله ، أمام مَن
يكون مستقلاً فيهما ». وليس الغني المستقل إلا الله سبحانه ، وقد وصف نفسه
تعالى في غير موضع من كتابه بالقيوم قال عزّ من قائل: { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ }(2). وقال سبحانه : { وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ }(3). ولا
يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه ، ليس فيه أيّة شائبة من شوائب الفقر والحاجة
إلى الغير ، بل كل ما سواه قائم به.
وبعبارة أُخرى : العبادة نداء الله تعالى وسؤاله ، والقيام بخضوع في
محضره ، وطلب حاجات الدنيا والآخرة منه على أَنّه الفاعل المختار ، والمالك
الحقيقي لأُمور الدنيا والآخرة كلها ، والمتصرف فيها ، فلو نودي موجود آخر
بهذا الوصف ، تماماً أو بعضاً ، فالنداء عبادة له وشرك فيه ، والمنادي
مشركٌ بلا كلام. فالذي يجب التركيز عليه هو أَن نعرف ما هو فعل الله
سبحانه ، ونميزه عن فعل غيره وصلاحيته ، حتى لا نقع في ورطة الشرك عند
طلب شيء من الأَنبياء والأَولياء وغيرهم من الناس ، فنقول:
إنَّ من أَقسام الشرك هو أَنْ نطلب فعل الله تعالى من غيره ، ومن
المعلوم أَنَّ فعل الله تعالى ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان
عن استقلال أم بإِذن الله ؛ لأَنّه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن ، بل هو
القيام بالفعل مستقلاً من دون استعانة بغيره ، فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا حظ الآيات الكريمات التاليات: يونس : الآية 3 ، الحجر: الآية 99، مريم :
الآيتان 36 و65، الزخرف: الآية 64.
(2) سورة البقرة : الآية 255 ، وآل عمران: الآية 2.
(3) سورة طه: الآية 111.
________________________________________
(93)
مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلاً عادياً كالمشي والتكلّم ، أم غير عادي
كالمعجزات الّتي كان يقوم بها سيّدنا المسيح ـ عليه السَّلام ـ مثلاً ، من خلق
الطَّير من الطين ، وإِبراء الأَكْمَه والأَبرص ، وإِحياء الموتى ، والإِنباء بالمغيّبات ،
يُعَدُّ الخضوع عبادة للمخضوع له.
توضيح ذلك : إِنَّ الله سبحانه غني في فعله ، كما هو غني في ذاته عمّا
سواه ، فهو يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت من دون أَنْ يستعين بأَحد ـ سواء في
أَفعاله المباشرية أو التسبيبية ـ أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة
له. فلو اعتقدنا بأَنّ أَحداً مستغن في فعله العادي وغير العادي عمّن سواه ،
وأَنّه يقوم بما يريد من دون استمداد واحتياج إلى أحد حتى الله سبحانه ، فقد
أَشركناه مع الله ، واتخذناه نداً له تعالى.
فالمِلاك في هذا التعريف هو « استقلال الفاعل » في فعله ، وعدم
استقلاله . والتوحيد بهذا المعنى ممّا يشترك فيه العالم والجاهل.
نعم ، ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في
المعبود ، وعدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية والكتاب العزيز ، ممَّا
يدركه غيره أيضاً بفطرته الّتي خلق عليها ، فلا يلزم من اختصاص فهم
التفاصيل بهذه الطبقة (أي المتألّهين البصيرين) حرمان الجاهلين من فهم
معاني العبادة ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية ، فالعبادة بهذا
المعنى ـ أي باعتقاد كون المعبود مستقلاً ـ يشترك فيه العالم والجاهل ،
والكامل وغير الكامل ، غير أنَّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي
من الفهم والدرك كما قال سبحانه: { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }(1). وحيث إنَّ
الدارج في ألسِنَة المتكلمين في المقام التعبير بـ« التفويض » فلنشرح
مقاصدهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الرعد: الآية 17.