أمّا الإمام الصادق عليه السلام فهو العقل المبدع والمفكّر في الإسلام ، فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطوليّة يوم الطفّ ، وكان ممّا قاله في حقّه :
« كانَ عَمِّيَ الْعَبّاسُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام نافِذَ الْبَصيرَةِ ، صُلْبَ الْإِيمانِ ، جاهَدَ مَعَ أَخيهِ الْحُسَيْنِ ، وَأَبْلىٰ بَلاءً حَسَناً ، وَمَضىٰ شَهيداً » (1).
وتحدّث الإمام الصادق عليه السلام عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس ، والتي كانت موضع إعجابه وهي :
1 ـ نفاذ البصيرة
أمّا نفاذ البصيرة ، فإنّها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلّا من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل ، فقد كان من نفاذ بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لإمام الهدى وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التاريخ ، فما دامت القيم الإنسانيّة يخضع لها الإنسان ويمجّدها ، فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.
2 ـ الصلابة في الإيمان
والظاهرة الاُخرى من صفات أبي الفضل عليه السلام هي الصلابة في الإيمان ، وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الأجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع الماديّة ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الأدلّة على إيمانه.
3 ـ الجهاد مع الحسين عليه السلام
وثمّة مكرمة وفضيلة اُخرى لبطل كربلاء العبّاس عليه السلام أشاد بها الإمام الصادق عليه السلام وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.
4 ـ زيارة الإمام الصادق عليه السلام
وزار الإمام الصادق عليه السلام أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الإمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته بقوله :
سَلَامُ اللهِ وَسَلَامُ مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبينَ ، وَأَنبِيائِهِ الْمُرْسَلينَ ، وَعِبادِهِ الصّالِحينَ ، وَجَميعِ الشُّهداءِ وَالصِّدّيقينَ ، وَالزّاكِياتُ الطَّيِّباتُ فيما تَغْتَدي وَتَرُوحُ ، عَلَيْكَ يَابْنَ أَميرِ الْمُؤْمِنيِنَ.
لقد استقبل الإمام الصادق عليه السلام عمّه العبّاس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الإجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيّات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الإمام الصادق عليه السلام في زيارته قائلاً :
أَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْليمِ وَالتَّصْديقِ وَالْوَفاءِ وَالنَّصيحَةِ لِخَلَفِ النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ ، وَالسِّبْطِ الْمُنْتَجَبِ ، وَالدَّليلِ الْعالِمِ ، وَالْوَصِيِّ الْمُبَلِّغِ ، وَالْمَظْلُومِ الْمُهْتَضَمِ.
وأضفى الإمام الصادق عليه السلام بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الأوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي :
التسليم
وسلّم العباس عليه السلام لأخيه سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام جميع اُموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الإيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي ، وسلامة القصد ، والإخلاص في النيّة.
التصديق
وصدّق العبّاس عليه السلام أخاه ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله في جميع اتّجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وأنّه على الحقّ ، وأنّ من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.
الوفاء
من الصفات الكريمة التي أضافها الإمام الصادق عليه السلام على عمّه أبي الفضل عليه السلام : الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحقّ أخيه أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتّى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله.
قد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتيّاته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.
النصيحة
وشهد الإمام الصادق عليه السلام بنصيحة عمّه العبّاس لأخيه سيّد الشهداء عليه السلام ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ .. ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول عليه السلام :
فَجَزاكَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ ، وَعَنْ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، أَفْضَلَ الْجَزاءِ ، بِما صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ وَأَعَنْتَ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ.
وحوى هذا المقطع على إكبار الإمام الصادق عليه السلام لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله الإمام الحسين عليه السلام ، فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الأجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وعن باب مدينته الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وعن الحسن والحسين عليه السلام أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.
ويستمرّ مجدّد الإسلام الإمام الصادق عليه السلام في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه :
لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَكَ ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ جَهِلَ حَقَّكَ ، وَاسْتَخَفَّ بِحُرْمَتِكَ ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ حالَ بَیْنَكَ وَبَیْنَ مَاءِ الْفُرَاتِ.
أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ مَظْلُوماً ، وَأَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ لَکُمْ مَا وَعَدَکُمْ.
جِئْتُكَ یَابْنَ أَمیرِ الْمُؤْمِنینَ وافِداً إِلَیْکُمْ ، وَقَلْبي مُسَلِّمٌ لَکُمْ وَتَابِعٌ ، وَأَنَا لَکُمْ تَابعٌ ، وَنُصْرَتي لَکُمْ مُعَدَّةٌ ، حَتّىٰ یَحْکُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاکِمینَ.
فَمَعَکُمْ مَعَکُمْ لَا مَعَ عَدُوِّکُمْ ، إِنّي بِکُمْ وَبِإِیابِکُمْ مِنَ الْمُؤْمِنینَ ، وَبِمَنْ خَالَفَکُمْ وَقَتَلَکُمْ مِنَ الْکَافِرینَ.
قَتَلَ اللهُ اُمَّةً قَتَلَتْکُمْ بِالْأَیْدي وَالْأَلْسُنِ.
السَّلَامُ عَلَیْكَ أَیُّهَا الْعَبْدُ الصّالِحُ ، الْمُطِیعُ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَلأمِیرِ الْمُؤْمِنینَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَیْنِ ، صَلَّى اللهُ عَلَیْهِمْ وَسَلَّمَ. السَّلَامُ عَلَیْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَکاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوانُهُ ، وَعَلىٰ رُوحِكَ وَبَدَنِكَ.
أَشْهَدُ وَاُشْهِدُ اللهَ أَنَّكَ مَضَیْتَ عَلىٰ ما مَضىٰ عَلَيْهِ الْبَدْرِیُّونَ ، وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبیلِ اللهِ ، الْمُناصِحُونَ لَهُ في جِهادِ أَعْدَائِهِ ، الْمُبالِغُونَ في نُصْرَةِ أَوْلِیائِهِ ، الذّابُّونَ عَنْ أَحِبّائِهِ.
فَجَزاكَ اللهُ أَفْضَلَ الْجَزاءِ ، وَأَکْثَرَ الْجَزاءِ ، وَأَوْفَرَ الْجَزاءِ ، وَأَوْفىٰ جَزاءِ أَحَدٍ مِمَّنْ وَفَىٰ بِبَیْعَتِهِ ، وَاسْتَجابَ لَهُ دَعْوَتَهُ ، وَأَطاعَ وُلَاةَ أَمْرِهِ.
لقد شهد الإمام الصادق عليه السلام العقل المفكّر والمبدع في الإسلام ، وأشهد الله تعالى على ما يقول من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس عليه السلام قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله ، فهم الذين كتبوا النصر للإسلام ، وبدمائهم الزكيّة ارتفعت كلمة الله عالية في الأرض ، وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم.
وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لإنقاذ الإسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني اُميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلفّ لواء الإسلام ، ويعيد الناس لجاهليّتهم الاُولى ، فثار أبو الفضل بقيادة أخيه أبي الأحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحقّقت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الإسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.
ويستمرّ الإمام الصادق عليه السلام في زيارته لعمّه العبّاس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول عليه السلام :
وَأَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَالَغْتَ في النَّصیحَةِ ، وَأَعطَیْتَ غَایَةَ الْمَجْهُودِ ، فَبَعَثَكَ اللهُ في الشُّهَداءِ ، وَجَعَلَ رُوحَكَ مَعَ أَرْواحِ السُّعَداءِ ، وَأَعْطاكَ مِنْ جِنانِهِ أَفْسَحَها مَنْزِلاً ، وَأَفْضَلَها غُرَفاً ، وَرَفَعَ ذِکْرَكَ في عِلِّیّینَ ، وَحَشَرَكَ مَعَ النَّبِیّینَ وَالصِّدّیقینَ ، وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحینَ ، وَحَسُنَ اُولٰئِكَ رَفیقاً.
أَشْهَدُ أَنَّكَ لَمْ تَهِنْ وَلَمْ تَنْکُلْ ، وَأَنَّكَ مَضَیْتَ عَلىٰ بَصیرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ ، مُقْتَدِیاً بِالصّالِحینَ ، وَمُتَّبِعاً لِلْنَّبِیّینَ.
فَجَمَعَ اللهُ بَیْنَنا وَبَیْنَكَ وَبَیْنَ رَسُولِهِ وَأَوْلِیائِهِ في مَنازِلِ الْمُخْبِتینَ ، فَإِنَّهُ أَرْحَمُ الرّاحِمینَ (2).
ويلمس في هذه البنود الأخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدى الإمام الصادق عليه السلام ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيه لريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله الإمام الحسين عليه السلام ، كما دعا الإمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلّا الأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام ، ومن امتحن الله قلبه للإيمان.
الهوامش
1. ذخيرة الدارين : 123. معالي السبطين : 1 : 434.
2. كامل الزيارات : 440 ، باب 85 ، الحديث 1. تهذيب الأحكام : 6 : 65 ـ 70. مصباح المتهجّد : 724 ـ 726. المزار الكبير : 388 ـ 392. مصباح الزائر : 215. مزار الشهيد : 131 ـ 134 و 165. بحار الأنوار : 98 : 217 و : 277 ، الحديث 1 و : 278 ، الحديث 2.
مقتبس من كتاب : العبّاس بن علي عليه السلام / الصفحة : 40 ـ 46