المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 315 ـ 319
(315)
مناهج الجبر
(3)
الجبر المادىّ
قد تعرفتّ على القسمين الأولين من الجبر و هما الجبر الأشعري و الجبر
الفلسفي ، و بقي الكلام في الجبر المادي الذي يحلل فعل الإِنسان من خلال
العِلَل المادية المكونة لشخصيته : روحياته و نفسانياته . و ليست هي إلاَّ ما
يعبّر عنه في ألسنتهم بـ « مثلث الشخصية » ، فإنّها المكونة لحقيقة كل إنسان
و واقعيته التي تسوقه إلى الفعل المناسب لها « و كل إناء بما فيه ينضح » . و قبل
تقرير دليلهم نأتي بكلمة :
الانعتاق من القيود تحت غِطاء « الجبر »
إنَّ الاعتقاد بالجبر شيء يصادم الوجدان و الفطرة ، كما يصادم ما اتفق
عليه العقلاء ، حتى أنَّ القائلين به في الأبحاث الفلسفية يدافعون عن الحرية
في حياتهم الاجتماعية ، و يقفون في وجه المعتدي على حقوقهم ، و يشجبون
عدوانه ، و يشكونه إلى المحاكم القانونية . فهؤلاء جبريون في الفكر ، ولكنهم
ملتزمون بالاختيار في مقام العمل و المعاشرة ، فعند ذلك ينطرح هذا
السؤال :
ما هذا التناقض بين الفِكْر و العمل؟ و لماذا يدّعي هؤلاء أنَّ الإِنسان
________________________________________
(316)
مُسَيّر لا مُخَيّر ، مع أنّهم يعاملون الإِنسان في حياتهم معاملة الموجود
المختار؟
الحق أنَّ هنا دوافع مختلفة بعضها إجتماعية ، و بعضها الآخر سياسية.
أمّا الأولى: فلأنَّ هؤلاء يريدون تجاهل القوانين و تجاوز الحدود ،
و الحصول على الحرية المطلقة في العمل ، و الإنحلال عن كل قيد ، و رفض
كل قاعدة إجتماعية و أخلاقية . و من الطبيعي أنَّ هذا لا يجتمع مع تحمل
المسؤولية المترتبة على الحرية و الإِختيار ، فلا بدّ من اللجوء إلى أصل
فلسفي يرفع عن كاهل الإنسان تلك المسؤولية ، و ليس هو إلاَّ القول بالجبر ،
و كون الإنسان مسيّراً.
و أمّا الثانية: فأكثر أصحاب هذه الفِكرة هم السلطات الغاشمة ، الفارضة
نفسها و سلطانها على الناس بالقهر ، فهم يروجون تلك الفِكرة حتى يبرروا
بها أفعالهم الإِجرامية.
و لأجل ذلك يصوّر شاعر مبدع العامل الأوّل قائلاً :
سألتَ المُخَنَّثَ عَنْ فِعْلِهِ * عَلاََمَ تَخَنَّثْتَ يَا مَاذِقُ
فَقَال ابتلاني بداء عُضَال * وأَسْلَمَني القَدَرُ السَّابقُ
ولُمْت الزُّناةَ على فِعْلِهِمْ * فقالوا بِهذا قَضَى الخَالِقُ
وَ قُلْتُ لآكِلِ مَالِ اليَتِيمِ * أَكلتَ و أنت امْرُؤٌ فَاسِقُ
فَقَال وَلَجْلَج فِي قَوْلِهِ * أَكلتُ وَ أَطعَمَنِي الْخَالِقُ
وَكُلُ يُحيلُ عَلى رَبِّهِ * وَ مَا فِيهمُو أحدٌ صَادِقُ
هذا فِكْرُ جَبْريِّ العصورِ السابقة ، و أمَّا الجبرىّ المادىّ المعاصر ،
فقد أخذ هذا المنطق و نسبه إلى العوامل المادية ليصل إلى ما وصل إليه
الجبري السابق من الإنحلال من القيود.
________________________________________
(317)
العوامل المُكوّنة للشخصية
إستند أصحاب هذه النظرية إلى أنَّ الإِنسان و إن كان حرّاً في ظاهره ،
ولكن إذا لوحظت العوامل التي تكوّن شخصيتهُ الفكرية ، لحكمنا بأنَّه لا
مناص له إلاَّ بالجنوح إلى ما توحي إليه نفسيته.
و العوامل المكونة لشخصيته : تفكراته و تعقلاته ، و روحياته ونفسانياته ،
تتلخص في النواميس التالية :
1ـ الوراثة ، 2ـ الثقافة ، 3ـ البيئة.
ففي ناموس الوراثة : يرث الأولاد من آبائهم و أُمهاتهم السجايا العليا
أو الصفات الدنيئة ، فهي تنتقل عن طريق الحيوان المنوي في الأب
و البويضة في الأم إلى الوليد ، و من خيوطهما تنسج خيوط شخصيته ،
و بحسبها يكون سلوكه.
وأمّا الثقافة و التعليم : فلهما أيضاً تأثير في شخصية الإِنسان ، فمن
هذا الطريق تزرع في كيانه الشخصي الأفكار الخاصة من توحيد أو إلحاد ،
و ثورة أو خمود ، و قناعة أو حرص ، إلى غير ذلك من الروحيات التي لها
اقتضاء خاص ، و بحسبها يميل الإِنسان إلى سلوك معين.
وأمّا البيئة و المحيط : فالإنسان وليد بيئته في سلوكه و خلقه ، و لأجل
ذلك نجد اختلاف السلوك في المجتمعات حسب اختلاف البيئات .
هذه هي العوامل البنّاءة لشخصية الإِنسان و روحياته ، و كل إنسان
يحوك على نولها ، و يعمل بحسب اقتضائها . و على ضوء هذا ، فكل فعل
ينتهي إلى علّة موجبة لوجود الفعل ، و ليست هي إلاَّ شخصيته المتكونة من
العوامل المحيطة به السائقة له نحو الفعل . حتى أنَّ الإِرادة التي تعدّ رمزاً
للإِختيار ، وليدة تلك العوامل في صقع النفس . فإذا كانت هذه العوامل
خارجة عن الإِختيار ، فما ينتهي إليها كذلك.
يلاحظ عليه : إنّه لا شكّ في تأثير هذه العوامل في تكوين الشخصية ،
________________________________________
(318)
ولكن ليس تأثيرها إلى درجة يسلب الإِختيار من الإِنسان ؛ إذ لو صحّ هذا ، للزم
بطلان جهود المربّين ، و صيرورة أعمال المصلحين هواءً في شَبَك . بل هذه
العوامل لا تعدو عن كونها مقتضيات و أرضيات تطلب أموراً حسب طبيعتها ،
ولكن وراءها حرية الإِنسان و اختياره . و قد خلط المادي في هذه النظرية بين
الإِيجاب و الإِقتضاء ، و العلَّة التامة و العلَّة الناقصة . و لأجل إيضاح مدى تأثير
هذه العوامل نبحث عن كل واحدة منها على وجه الإِجمال.
أمّا الوراثة : فهي ناموس مقبول في الجملة ، ولكن لا يعلم حدودها
سعة وضيقاً ، فلا شكّ أنّ الأولاد يرثون الصفات الخلقية و الروحية على وجه
الإجمال ، ولكن ما يتركه الآباء و الأُمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين :
1ـ ما يفرض على الأولاد فرضاً لا يمكن إزالته مثل الحمق ،
و البلادة ، و العقل و الذكاء ، و الجبن ، و الشجاعة و غير ذلك ممّا لا يمكن إزالته
في الأغلب بالجهود التربوية و الإِصلاحية.
2ـ ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية و الإِقتضاء ، و بصورة تأثير العلّة
الناقصة ، فيمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية و الطرق العلمية ؛ و ذلك
كالأمراض الموروثة كالسل و غيره ، و مثل هذا القسم طائفة كبيرة من
الروحيات كحالة الطغيان و التمرد ؛ فإنّه يمكن إزالتها برفَع مستوى فكر الإِنسان
و عقليته ، و إيقافه على عواقب العصيان . فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء
و الأمهات مصيراً لازماً و قضاءً حتماً ، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإِنسان
و اختياره ، و سائر العوامل التربوية المغيرة لأرضية الوراثة.
وأمّا التعليم و الثقافة : فلا شكّ في تأثيرهما في شخصية الإِنسان
و لتأثيرهما شواهد جمّة في التاريخ ، ولكن ليس دور التعليم في تكوين
الشخصية على وجه الإيجاب ، فله قبول ما يلقى إليه من المفاهيم
و التعاليم ، كما أنَّ له رفضها ، ولأجل ذلك يختلف خريجو الثقافة الواحدة
بين قابل لما أوحته إليه ، و رافض له . و هذا دليل على أنَّ الثقافة لا تؤثر إلاَّ
بشكل غير إيجابي.
________________________________________
(319)
وأمّا الثالث من العوامل أعني البيئة : فلها دور خاص في تكوين
الشخصية ، فالقاطنون في المناطق الحارة تختلف طباعهم و روحياتهم عمّن
يعيشون في المناطق الباردة ، لكن العوامل الطبيعية و الجغرافية كالعاملين
السابقين لا تبلغ في التأثير حدّ الجبر بحيث لا يتمكن الإِنسان من التخلص
من أثرها.
فإذا كان تأثير كل منها تأثيراً اقتضائياً ، فليس مجموعها أيضاً مؤثراً على
وجه الإِيجاب بحيث لا يمكن تغيير آثارها بالعوامل المشابهة . و ليس الإِنسان
بعدما تأثر بالوراثة و الثقافة و البيئة كمجسمة حجرية لا يمكن تغيير صفتها أو
جزئها إلاَّ بالقضاء عليها ، بل الإنسان بعد ذلك قابل للتأثّر و التغيير في ظل
عاملين مختلفين :
1ـ التفكر و التدبّر في صالح أعماله و طالح أفعاله ، و ما يترتب عليهما
من الآثار و المضاعفات ، سواء أكانت الأفعال مناسبة لشخصيته المكونة في
ظل تلك العوامل ، أو منافية لها . و إنكار ذلك إنكار للبداهة.
2ـ الوقوع في إطار ثقافة وبيئة تختلف عمّا كان فيه ، فلا شكّ أنَّ
لهذين العاملين ، حتى في السنين المتأخرة من العمر ، تأثير في إزالة بعض
أو كل ما خلفته العوامل السابقة . و هذا دليل على أنَّ المثلث الماضي لم
يكن مؤثراً بنحو الإيجاب حتى لا يمكن التخلّف عنه ، بل التأثير بشكل
الإِقتضاء.
وفي الختام ، لا يمكن لإنسان أن ينكر دور الأنبياء و المصلحين في
تغيير الأجيال و المجتمعات بعدما تمت شخصيتهم وتكونت روحياتهم
ونفسانياتهم ، و كم لذلك من شواهد تاريخية نتركها للباحث.
***