بحث للشهيد الثاني في تعريف الإيمان والكفر

البريد الإلكتروني طباعة

بحث للشهيد الثاني في تعريف الإيمان والكفر

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 50

في تعريف الإيمان لغة وشرعاً ، فاعلم أن الإيمان لغةً : التصديق ، كما نص عليه أهلها ، وهو إفعال من الأمن ، بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم ما يوجب الخوف لها ، وحينئذ فكان حقيقة آمن به سكنت نفسه واطمأنت بسبب قبول قوله وامتثال أمره ، فتكون الباء للسببية . ويحتمل أن يكون بمعنى آمنه التكذيب والمخالفة ، كما ذكره بعضهم فتكون الباء فيه زائدة ، والأول أولى كما لا يخفى وأوفق لمعنى التصديق ، وهو يتعدى باللام كقوله تعالى : وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ، فأمن له لوط.

وبالباء كقوله تعالى : آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ.

وأما التصديق : فقد قيل أنه القبول والإذعان بالقلب ، كما ذكره أهل الميزان.

ويمكن أن يقال : معناه قبول الخبر أعم من أن يكون بالجنان أو باللسان ، ويدل عليه قوله تعالى : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ، فأخبروا عن أنفسهم بالإيمان وهم من أهل اللسان ، مع أن الواقع منهم هو الإعتراف باللسان دون الجنان ، لنفيه عنهم بقوله تعالى : قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا . وإثبات الإعتراف بقوله تعالى : وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ، الدال على كونه إقراراً بالشهادتين ، وقد سموه إيماناً بحسب عرفهم ، والذي نفاه الله عنهم إنما هو الإيمان في عرف الشرع.

إن قلت : يحتمل أن يكون ما ادعوه من الإيمان هو الشرعي ، حيث سمعوا الشارع كلفهم بالإيمان ، فيكون المنفي عنهم هو ما ادعوا ثبوته لهم ، فلم يبق في الآية دلالة على أنهم أرادوا اللغوي.

قلت : الظاهر أنه في ذلك الوقت لم تكن الحقائق الشرعية متقررة عندهم ، لبعدهم عن مدارك الشرعيات ، فلا يكون المخبر عنه إلا ما يسمونه إيماناً عندهم.

وقوله تعالى : آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ، وقوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ.

وجه الدلالة في هذه الآيات أن الإيمان في اللغة التصديق ، وقد وقع في الإخبار عنهم أنهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، فيلزم صحة إطلاق التصديق على الإقرار باللسان وإن لم يوافقه الجنان. وعلى هذا فيكون المنفي هو الإيمان الشرعي أعني القلبي ، جمعاً بين صحة النفي والإثبات في هذه الآيات.

لا يقال : هذا الإطلاق مجاز ، وإلا لزم الإشتراك ، والمجاز خير منه.

لأنا نقول : هو من قبيل المشترك المعنوي لا اللفظي ، ومعناه قبول الخبر أعم من أن يكون باللسان أو بالجنان ، واستعمال اللفظ الكلي في أحد أفراد معناه باعتبار تحقق الكلي في ضمنه حقيقة لا مجازاً ، كما هو المقرر في بحث الألفاظ.

فإن قلت : إن المتبادر من معنى الإيمان هو التصديق القلبي عند الإطلاق ، وأيضاً يصح سلب الإيمان عمن أنكر بقلبه وإن أقر بلسانه ، والأول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.

قلت : الجواب عن الأول أن التبادر لا يدل على أكثر من كون المتبادر هو الحقيقي لا المجازي ، لكن لا يدل على كون الحقيقة لغوية أو عرفية ، وحينئذ فلا يتعين أن اللغوي هو التصديق القلبي ، فلعله العرفي الشرعي.

إن قلت : الأصل عدم النقل ، فيتعين اللغوي.

قلت : لا ريب أن المعنى اللغوي الذي هو مطلق التصديق لم يبق على إطلاقه بل أخرج عنه إما بالتخصيص عند بعض أو النقل عند آخرين. ومما يدل على ذلك أن الإيمان الشرعي هو التصديق بالله وحده وصفاته وعدله ، وبنبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وبما علم بالضرورة مجيئه به لا ما وقع فيه الخلاف وعلى هذا أكثر المسلمين. وزاد الإمامية التصديق بإمامة إمام الزمان ، لأنه من ضروريات مذهبهم ، أيضاً أنه مما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وقد عرفت أن الإيمان في اللغة التصديق مطلقاً ، وهذا أخص منه.

ويؤيد ذلك قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أخبر عنهم تعالى بالإيمان ، ثم أمرهم بإنشائه فلا بد أن يكون الثاني غير الأول ، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل. وإذا حصلت المغايرة كان الثاني المأمور به هو الشرعي ، حيث لم يكن حاصلاً لهم ، إذ لا محتمل غيره إلا التأكيد ، والتأسيس خير منه. وعن الثاني بالمنع من كون ما صح سلبه هو الإيمان اللغوي بل الشرعي ، وليس النزاع فيه.

إن قلت : ما ذكرته معارض بما ذكره أهل الميزان في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق ، من أن المراد بالتصديق الإذعان القلبي ، فيكون في اللغة كذلك لأن الأصل عدم النقل.

قلت : قد بينا سابقاً أن الخروج عن هذا الأصل ولو سلم فلا دلالة في ذلك على حصر معنى التصديق مطلقاً في الإذعان القلبي ، بل التصديق الذي هو قسم من العلم وليس محل النزاع.

على أنا نقول : لو سلمنا صحة الإطلاق مجازاً ثبت مطلوبنا أيضاً ، لانا لم ندع إلا أن معناه قبول الخبر مطلقاً ، ولا ريب أن الألفاظ المستعملة لغة في معنى من المعاني حقيقة أو مجازاً تعد من اللغة ، وهذا ظاهر.

واما الإيمان الشرعي : فقد اختلفت في بيان حقيقته العبارات بحسب اختلاف الإعتبارات. وبيان ذلك : إن الإيمان شرعاً : إما أن يكون من أفعال القلوب فقط ، أو من أفعال الجوارح فقط أو منهما معاً . فإن كان الأول فهو التصديق بالقلب فقط ، وهو مذهب الأشاعرة وجمع من متقدمي الإمامية ومتأخريهم ، ومنهم المحقق الطوسي رحمه الله في فصوله ، لكن اختلفوا في معنى التصديق فقال أصحابنا : هو العلم.

وقال الأشعرية : هو التصديق النفساني ، وعنوا به أنه عبارة عن ربط القلب على ما علم من أخبار المخبر ، فهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق ، ولذا يثاب عليه بخلاف العلم والمعرفة ، فإنها ربما تحصل بلا كسب ، كما في الضروريات.

وقد ذكر حاصل ذلك بعض المحققين ، فقال : التصديق هو أن تنسب باختيارك الصدق للمخبر حتى لو وقع ذلك في القلب من غير اختيار لم يكن تصديقاً وإن كان معرفة ، وسنبين إن شاء الله تعالى [ قصور ] ذلك.

وإن كان الثاني ، فإما أن يكون عبارة عن التلفظ بالشهادتين فقط ، وهو مذهب الكرامية. أو عن جميع أفعال الجوارح من الطاعات بأسرها فرضاً ونفلاً ، وهو مذهب الخوارج وقدماء المعتزلة والغلاة والقاضي عبد الجبار. أو عن جميعها من الواجبات وترك المحظورات دون النوافل ، وهو مذهب أبي علي الجبائي وابنه هاشم وأكثر معتزلة البصرة.

وإن كان الثالث ، فهو إما أن يكون عبارة عن أفعال القلوب مع جميع أفعال الجوارح من الطاعات ، وهو قول المحدثين وجمع من السلف كابن مجاهد وغيره فإنهم قالوا : إن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان.

وإما أن يكون عبارة عن التصديق مع كلمتي الشهادة ، ونسب إلى طائفة منهم أبو حنيفة.

أو يكون عبارة عن التصديق بالقلب مع الإقرار باللسان ، وهو مذهب المحقق نصير الدين الطوسي رحمه الله في تجريده ، فهذه سبعة مذاهب ذكرت في الشرح الجديد للتجريد وغيره.

واعلم أن مفهوم الإيمان على المذهب الأول يكون تخصيصاً للمعنى اللغوي ، وأما على المذاهب الباقية فهو منقول ، والتخصيص خير من النقل.

وهنا بحث وهو أن القائلين بأن الإيمان عبارة عن فعل الطاعات ، كقدماء المعتزلة والعلاف والخوارج ، لا ريب أنهم يوجبون اعتقاد مسائل الأصول ، وحينئذ فما الفرق بينهم وبين القائلين بأنه عبارة عن أفعال القلوب والجوارح ؟

ويمكن الجواب ، بأن اعتقاد المعارف شرط عند الأولين وشطر عند الآخرين ....

إعلم أن المحقق الطوسي رحمه الله ذكر في قواعد العقائد أن أصول الإيمان عند الشيعة ثلاثة : التصديق بوحدانية الله تعالى في ذاته تعالى ، والعدل في أفعاله ، والتصديق بنبوة الأنبياء عليهم السلام والتصديق بإمامة الأئمة المعصومين من بعد الأنبياء عليهم السلام.

وقال أهل السنة : إن الإيمان هو التصديق بالله تعالى وبكون النبي صلّى الله عليه وآله صادقاً ، والتصديق بالأحكام التي يعلم يقيناً أنه صلّى الله عليه وآله حكم بها دون ما فيه اختلاف واشتباه.

والكفر يقابل الإيمان ، والذنب يقابل العمل الصالح ، وينقسم إلى كبائر وصغائر.

ويستحق المؤمن بالإجماع الخلود في الجنة ، ويستحق الكافر الخلود في العقاب. انتهى.

وذكر في الشرح الجديد للتجريد أن الإيمان في الشرع عند الأشاعرة هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة ، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً ، وإجمالاً فيما علم إجمالاً ، فهو في الشرع تصديق خاص . انتهى.

فهؤلاء اتفقوا على أن حقيقة الإيمان هي التصديق فقط ، وإن اختلفوا في المقدار المصدق به . والكلام هاهنا في مقامين :

الأول : في أن التصديق الذي هو الإيمان المراد به اليقين الجازم الثابت ، كما يظهر من كلام من حكينا عنه.

الثاني : في أن الأعمال ليست جزء من حقيقة الإيمان الحقيقي ، بل هي جزء من الإيمان الكمالي. أما الدليل على الأول فآيات بينات :

منها قوله تعالى : إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا . والإيمان حق للنص والإجماع ، فلا يكفي في حصوله وتحققه الظن.

ومنها : إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، فهذه قد اشتركت في التوبيخ على اتباع الظن ، والإيمان لا يوبخ من حصل له بالإجماع ، فلا يكون ظناً.

ومنها قوله : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، فنفى عنهم الريب ، فيكون الثابت هو اليقين.

إن قلت : هذه الآية الكريمة لا تدل على المدعى بل على خلافه ، وهو عدم اعتبار اليقين في الإيمان ، وذلك أنها إنما دلت على حصر الإيمان فيما عدا الشك ، فيصدق الإيمان على الظن.

قلت : الظن في معرض الريب ، لأن النقيض مجوز فيه ويقوى بأدنى تشكيك ، فصاحبه لا يخلو من ريب حيث أنه دائماً يجوز النقيض ، على أن الريب قد يطلق على ما هو أعم من الشك ، يقال : لا أرتاب في كذا. ويريد أنه منه على يقين ، وهذا شائع ذائع.

ومن السنة المطهرة قوله عليه السلام : يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ، فلو لم يكن ثبات القلب شرطاً في الإيمان لما طلبه عليه السلام والثبات هو الجزم والمطابقة ، والظن لا ثبات فيه ، إذ يجوز ارتفاعه.

وفيه ، منع كون الثبات شرطاً في تحقيق الإيمان ، ويجوز أن يكون عليه السلام طلبه لكونه الفرد الأكمل ، وهو لا نزاع فيه.

ومن جملة الدلائل على ذلك أيضاً الإجماع ، حيث ادعى بعضهم أنه يجب معرفة الله تعالى التي لا يتحقق الإيمان بها إلا بالدليل إجماعاً من العلماء كافة ، والدليل ما أفاد العلم ، والظن لا يفيده.

وفي صحة دعوى الإجماع بحث ، لوقوع الخلاف في جواز التقليد في المعارف الأصولية ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

واعلم أن جميع ما ذكرناه من الأدلة لا يفيد شئ منه العلم بأن الجزم والثبات معتبر في التصديق الذي هو الإيمان إنما يفيد الظن باعتبارهما ، لأن الآيات قابلة للتأويل وغيرها كذلك ، مع كونها من الآحاد.

ومن الآيات أيضاً قوله تعالى : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ. واعترض على هذا الدليل بأنه أخص من المدعى ، فإنه إنما يدل على اعتبار اليقين في بعض المعارف ، وهو التوحيد دون غيره ، والمدعى اعتبار اليقين في كل ما التصديق به شرط في تحقق الإيمان ، كالعدل والنبوة والمعاد وغيرها.

وأجيب بأنه لا قائل بالفرق ، فإن كل من اعتبر اليقين اعتبره في الجميع ، ومن لم يعتبره لم يعتبره في شئ منها . واعلم أن ما ذكرناه على ما تقدم وارد هاهنا أيضاً.

واعترض أيضاً بأن الآية الكريمة خطاب للرسول صلّى الله عليه وآله فهي إنما تدل على وجوب العلم عليه وحده دون غيره.

وأجيب بأن ذلك ليس من خصوصياته صلّى الله عليه وآله بالإجماع ، وقد دل دليل وجوب التأسي به على وجوب اتباعه ، فيجب على باقي المكلفين تحصيل العلم بالعقائد الأصولية.

وأيضاً أورد أنه إنما يفيد الوجوب لو ثبت أن الأمر للوجوب ، وفيه منع لاحتماله غيره ، وكذا يتوقف على كون المراد من العلم هاهنا القطعي ، وهو غير معلوم ، إذ يحتمل أن يراد به الظن الغالب ، وهو يحصل بالتقليد . وبالجملة فهو دليل ظني.

وأما المقالة الثانية وهو أن الأعمال ليست جزء من الإيمان ولا نفسه فالدليل عليه من الكتاب العزيز ، والسنة المطهرة ، والإجماع.

أما الكتاب ، فمنه قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، فإن العطف يقتضي المغايرة ، وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه ، فلو كان عمل الصالحات جزء من الإيمان أو نفسه لزم خلو العطف عن الفائدة لكونه تكراراً.

وَرُدَّ ذلك بأن الصالحات جمع معرف يشمل الفرض والنفل ، والقائل بكون الطاعات جزء من الإيمان يريد بها فعل الواجبات واجتناب المحرمات ، وحينئذ فيصح العطف لحصول المغايرة المفيدة لعموم المعطوف ، فلم يدخل كله في المعطوف عليه ، نعم ذلك يصلح دليلاً على إبطال مذهب القائلين بكون المندوب داخلاً في حقيقة الإيمان كالخوارج.

ومنه قوله تعالى : وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، أي حالة إيمانه ، فإن عمل الصالحات في حالة الإيمان يقتضي المغايرة لما أضيف إلى تلك الحالة وقارنه فيها ، وإلا لصار المعنى : ومن يعمل بعض الإيمان حال حصول ذلك البعض ، أو ومن يعمل من الإيمان حال حصوله ، وحينئذ فيلزم تقدم الشئ على نفسه وتحصيل الحاصل.

إن قلت : الآية الكريمة إنما تدل على المغايرة في الجملة ، لكن لا يلزم من ذلك أن لا تكون الأعمال جزءاً ، فإن المعنى والله أعلم : ومن يعمل من الصالحات حال إيمانه ، أي تصديقه بالمعارف الإلۤهية ، وحينئذ فيجوز أن يكون الإيمان الشرعي بمجموع الجزئين ، أي عمل الصالحات والتصديق المذكور ، فالمغايرة إنما هي بين جزئي الإيمان ولا محذور فيه ، بل لا بد منه وإلا لما تحقق الكل ، بل لا بد لنفي ذلك من دليل.

قلت : من المعلوم أن الإيمان قد غير عن معناه لغة ، فأما التصديق بالمعارف فقط فيكون تخصيصاً ، أو مع الأعمال فيكون نقلاً ، لكن الأول أولى ، لأن التخصيص خير من النقل.

ووجه الإستدلال بالآية أيضاً بأن ظاهرها كون الإيمان الشرعي شرطاً لصحة الأعمال ، حيث جعل سعيه مقبولاً إذا وقع حال الإيمان ، فلا بد أن يكون الإيمان غير الأعمال ، وإلا لزم إشتراط الشئ بنفسه.

ويرد على هذا ما ورد على الأول بعينه ، نعم اللازم هنا أن يكون أحد جزئي المركب شرطاً لصحة الآخر ولا محذور فيه.

والجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك فتأمل.

ومنه قوله تعالى : وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ، فإنه أثبت الإيمان لمن ارتكب بعض المعاصي ، فلو كان ترك المنهيات جزء من الإيمان لزم تحقق الإيمان وعدم تحققه في موضع واحد في حالة واحدة وهو محال.

ولهم أن يجيبوا عن ذلك بمنع تحقق الإيمان حالة ارتكاب المنهي ، وكون تسميتهم بالمؤمنين باعتبار ما كانوا عليه وخصوصاً على مذهب المعتزلة ، فإنهم لا يشترطون في صدق المشتق على حقيقة بقاء المعنى المشتق منه.

ويمكن دفعه بأن الشارع قد منع من جواز إطلاق المؤمن على من تحقق كفره وعكسه ، والكلام في خطاب الشارع ، فلا نسلم لهم الجواب.

ومنه قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، فإن أمرهم بالتقوى التي لا تحصل إلا بفعل الطاعات والإنزجار عن المنهيات مع وصفهم بالإيمان ، يدل على عدم حصول التقوى لهم ، وإلا لما أمروا بها مع حصول الإيمان لوصفهم به ، فلا تكون الأعمال نفس الإيمان ولا جزء منه ، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل.

ويرد عليه ، جواز أن يراد من الإيمان الذي وصفوا به اللغوي ، ويكون المأمور به هو الشرعي وهو الطاعات ، أو جزؤه عند من يقول بالجزئية . ويجاب عنه بنحو ما أجيب عما أورد على الدليل الثاني ، فليتأمل.

ومنه أيضاً الآيات الدالة على كون القلب محلاً للإيمان من دون ضميمة شئ آخر كقوله تعالى : أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ، أي جمعه وأثبته فيها والله أعلم . ولو كان الإقرار غيره من الأعمال نفس الإيمان أو جزءه ، لما كان القلب محل جمعه ، بل هو مع اللسان وحده ، أو مع بقية الجوارح على اختلاف الآراء.

وقوله تعالى : وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ، ولو كان غير القلب من أعمال الجوارح نفس الإيمان أو جزءه ، لما جعل كله محل القلب ، كما هو ظاهر الآية الكريمة.

وقوله تعالى : وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، فإن اطمئنانه بالإيمان يقتضي تعلقه كله به ، وإلا لكان مطمئناً ببعضه لا كله.

أقول : يرد على الأخير أنه لا يلزم من اطمئنانه بالإيمان كونه محلاً له ، إذ من الجائز كونه عبارة عن الطاعات وحدها ، أو مع شئ آخر واطمئنان القلب لاطلاعه على حصول ذلك ، فإن القلب يطلع على الأعمال.

ويرد على الأولين أن الإيمان المكتوب والداخل في القلب إنما هو العقائد الأصوليه ، ولا يدل على حصر الإيمان في ذلك ، ونحن لا نمنع ذلك بل نقول باعتبار ذلك في الإيمان إما على طريق الشرطية لصحته ، أو الجزئية له ، إذ من يزعم أنه الطاعات فقط لا بد من حصول ذلك التصديق عنده أيضاً لتصح تلك الأعمال ، غاية الأمر أنه شرط للإيمان أو جزؤه لا نفسه ، كما تقدمت الإشارة إليه.

نعم هما يدلان على بطلان مذهب الكرامية ، حيث يكتفون في تحققه بلفظ الشهادتين من غير شئ آخر أصلاً لا شرطاً ولا جزءاً.

قيل : وكذا آيات الطبع والختم تشعر بأن محل الإيمان القلب ، كقوله تعالى :

اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون ، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله . وفيه ما تقدم.

وأما السنة المطهرة ، فكقوله عليه السلام : يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ، وجه الدلالة فيه أن المراد من الدين هنا الإيمان ، لأن طلب تثبيت القلب عليه يدل على أنه متعلق بالإعتقاد ، وليس هناك شئ آخر غير الإيمان من الإعتقاد يصلح لثبات القلب عليه بحيث يسمى ديناً ، فتعين أن يكون هو الإيمان ، وحيث لم يطلب غيره في حصول الإيمان علم أن الإيمان يتعلق بالقلب لا بغيره.

وكذا ما روي أن جبرئيل عليه السلام أتى النبي صلّى الله عليه وآله فسأله عن الإيمان ؟ فقال : أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر . ومعنى ذلك : أن تصدق بالله ورسله واليوم الآخر ، فلو كان فعل الجوارح أو غيره من الإيمان لذكره له ، حيث سأله الرسول صلّى الله عليه وآله عما هو الإيمان المطلوب للشارع.

وإن قيل : ظاهر الحديث فيه مناقشة ، وذلك أن الرسول عليه السلام سأله عن حقيقة الإيمان ، فكان من حق الجواب في شرح معناه أن يقال : أن تصدق بالله لا أن تؤمن لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر ، فيصير حاصله الإيمان هو الإيمان بالله ، فيلزم منه تعريف الشئ بنفسه في الجملة ، وذلك لا يليق بنفس الأمر.

والجواب أن المراد من قوله : أن تؤمن بالله ، أن تصدق ، وقد كان التصديق معلوماً له عليه السلام لغة ، فلم يكن تعريف الشئ بنفسه ، فهذا إنما يكون بالقياس إلى غيرهما عليهما السلام وإلا فالسائل والمسؤول غنيان عن معرفة المعاني من الألفاظ.

وأما الإجماع ، فهو أن الأمة أجمعت على أن الإيمان شرط لسائر العبادات ، والشئ لا يكون شرطاً لنفسه ، فلا يكون الإيمان هو العبادات.

أقول : على تقدير تسليم دعوى الإجماع ، فللخصوم أن يقولوا : نحن نقول بكون التصديق بمسائل الأصول شرطاً لصحة العبادات التي هي الإيمان ، ولا يلزمنا بذلك أن يكون تلك المسائل هي الإيمان ، فإن سميتموها إيماناً بالمعنى اللغوي فلا مشاحة فِي ذلك ، وإن قلتم بل هي الإيمان الشرعي ، فهو محل النزاع ودليلكم لا يدل عليه.

وأجمعت أيضاً على أن فساد العبادات لا يوجب فساد الإيمان ، وذلك يقتضي كون الإيمان غير أعمال الجوارح.

أقول : إن صح نقل الإجماع ، فلا ريب في دلالته على المدعى ، وسلامته عن المطاعن المتقدمة.

مقتبس من كتاب : العقائد الإسلاميّة / المجلّد : 1 / الصفحة : 236 ـ 247

 

أضف تعليق

الإيمان والكفر

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية