بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج6 ، ص 362 ـ 369
________________________________________(363)
المسألة السادسة:الرجعة
إنّ فكرة الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا يشنّع بها على الشيعة، فكأنّ من قال بها، رأى رأياً يوجب الخروج عن الدين، غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا انّ أوّل من أبدى نظرية الرجعة هو الخليفة عمر بن الخطاب فقد أعلن عندما شاعت رحلة النبىّ الأكرم بأنّه ما مات وليعودنّ فيقطعنّ ايدي وأرجل أقوام...
عن أبي هريرة قال: لمّا توفّي رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قام عمر بن الخطاب، فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون انّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ توفّي، وانّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ واللّه ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قدمات، واللّه ليرجعنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما رجع موسى، فليقطعنّ أيدي رجال و أرجلهم زعموا انّ
________________________________________
(364)
رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مات(1) .ولا يخفى أنّ كلام الخليفة لو كان كلاماً حقيقياً لابد أن يحمل على أنّ النبي ما مات موتاً لا رجوع فيه وإنّما يرجع فيقوم بما أخبر عنه الخليفة، ولو أراد من نفي موته أنّه ما زال حياً فهو خلاف رأي جميع الصحابة الذين اتفقوا على موته، ولم يكن موت النبي أمراً يدركه جميع الناس ولا يدركه الخليفة .
إنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيوية قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضاد اُصول الإسلام، وليس فيه انكار لأىّ حكم ضروري، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا ينفي بعثهم يوم القيامة، وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية، نظير:
1- إحياء جماعة من بني إسرائيل(2) .
2- إحياء قتيل بني إسرائيل(3) .
3- موت اُلوف من الناس وبعثهم من جديد(4) .
4- بعث عزير بعد مائة عام من موته(5) .
5- إحياء الموتى على يد عيسى ـ عليه السلام ـ (6) .
فلو كان الاعتقاد برجوع بعض الناس إلى الدنيا قبل القيامة أمراً محالاً، فما معنى هذه الآيات الصريحة في رجوع جماعة إليها؟
________________________________________
1 . السيرة النبوية لابن هشام 4 / 305 .
2 . البقرة / 55 ـ 56 .
3 . البقرة / 72 ـ 73 .
4 . البقرة / 243 .
5 . البقرة / 259 .
6 . آل عمران / 49 .
________________________________________
(365)
ولو كان الرجوع إلى الدنيا على وجه الاطلاق تناسخاً فكيف تفسّر هذه الآيات؟إنّ الاعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كل رجوع إلى الدنيا تناسخاً وانّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الانسان إلى الدنيا عن طريق النطفة والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ليصير انساناً مرّة اُخرى وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن الكامل من جميع الجهات من دون أن يكون فيها رجوع من القوّة إلى الفعلية، أو دخول روح في بدن آخر، إنساناً كان أو حيواناً؟!
اتّفقت الشيعة على بطلان التناسخ وامتناعه وقد كتبوا فيه مقالات ورسائل يقف عليها من كان له إلمام بكتبهم وعقائدهم، وقد ذكروا أنّ للتناسخ أنواعاً وأقساماً، غير انّ الرجوع إلى الدنيا من خلال دخول الروح إلى البدن الّذي فارقه عند الموت لا يعد تناسخا، وانّما هو إحياء للموتى،الّذي كان معجزة من معاجز المسيح.
كل ذلك يدل على أنّه ليس أمام القول بالرجعة عراقيل وموانع وانّما هو أمر ممكن لو دلّ عليه الدليل القطعي نأخذ به وإلاّ فنذره في سنبله، والحال انّ بعض الآيات والروايات تدل على أنّه سيتحقّق الرجوع إلى هذه الدنيا قبل يوم القيامة لبعض الناس على وجه الاجمال، وأمّا من هم؟. وفي أي وقت يرجعون؟. ولأىّ غرض يعودون إلى الدنيا؟ فليس هنا مقام بيانها، انّما نكتفي ببيان بعض الآيات الدالّة على وقوعه قبل البعث، وإليك الآيات .
قال سبحانه:
(و إذا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنونَ * وَ يَومَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ اُمَّة فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ )
________________________________________
(366)
يُوزَعُونَ))(1) .لا يشك من أمعن النظر في سياق الآيات وما ذكره المفسّرون حولها، في أنّ الآية الاُولى تتعلّق بالحوادث الّتي تقع قبل يوم القيامة، وعليه تكون الآية الثانية مكمّلة لها، وتدل على حشر فوج من كل جماعة قبل يوم القيامة، والحال أنّ الحشر في يوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض، يقول سبحانه (وَ يَومَ نُسَيِّرُ الجِبالَ و تَرى الأرضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أحدا)(2) .
أفبعد هذا التصريح يمكن تفسير الآية السابقة بيوم البعث والقيامة؟
وهذه الآية تعرب عن الرجعة الّتي تعتقد بها الشيعة في حقّ جماعة خاصّة وأمّا خصوصياتها فلم يحدّث عنها القرآن الكريم وجاء التفصيل في السنّة .
وقد سأل المأمون العباسي الامام الرضا ـ عليه السلام ـ عن الرجعة، فأجابه بقوله: إنّها حقّ قد كانت في الاُمم السالفة ونطق بها القرآن وقد قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : يكون في هذه الاُمّة كل ما كان في الاُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة(3) .
وأمّا من هم الراجعون؟ وما هو الهدف من إحيائهم؟ فيرجع فيه إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع، واجمال الجواب عن الأوّل أن الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين .
وقال المفيد ناقلا عن أئمّة أهل البيت: إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم، من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، وأمّا ما سوى هذين فلا رجوع
________________________________________
1 . النمل / 82 ـ 83 .
2 . الكهف / 47 .
3 . بحارالأنوار 53 / 59 الحديث 45 .
________________________________________
(367)
لهم إلى يوم المآب(1) .وقال أيضاً في المسائل السروية: والرجعة عندنا تختص بمن محض الإيمان، ومحض الكفر دون ما سوى هذين الفريقين(2) .
وإجمال الجواب عن الثاني ما ذكره السيّد المرتضى، قال: إنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي ـ عجل اللّه تعالى فرجه الشريف ـ قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم .
ذكر نكات:
1- إنّ الرجعة وإن كانت من مسلّمات عقائد الشيعة، ولكنّ التشيّع ليس منوطاً بالاعتقاد بها فمن أنكرها فقد أنكر عقيدة مسلّمة، بين أكثر الشيعة، ولكن لم ينكر ركناً من أركان التشيّع، ولأجل ذلك نرى انّ جماعة من الشيعة أوّلوا الأخبار الواردة في الرجعة إلى رجوع الدولة إلى شيعتهم وأخذهم بمجاري الاُمور دون رجوع أعيان الأشخاص، والباعث لهم على هذا التأويل هوعجزهم عن تصحيح القول بها نظراً واستدلالا، ولكن المحقّقين من الامامية، أخذوا بظواهرها وبيّنوا عدم لزوم استحالة عقلية على القول بها لعموم قدرة اللّه على كل مقدور، أجابوا عن الشبه الواردة عليها، وإلى هذا الاختلاف يشير الشيخ المفيد بقوله: واتّفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف .
________________________________________
1 . الشيخ المفيد: تصحيح الاعتقاد 40 .
2 . الشيخ المفيد: تصحيح الاعتقاد 40 .
________________________________________
(368)
ويشير إلى الاختلاف، تلميذه الجليل الشريف المرتضى في المسائل الّتي وردت عليه من الرىّ ومنها حقيقة الرجعة، فأجاب بأنّ الّذي تذهب إليه الشيعة الإمامية بأنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته، وقوماً من أعدائه، وأنّ من الشيعة، تأوّلوا الرجعة على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى شيعتهم، من دون رجوع الأشخاص واحياء الأموات(1) .2- كيف يجتمع اعادة الظالمين مع قوله سبحانه: (و حَرامٌ عَلى قَرْيَة أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(2) فإنّ هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتاً، وحشر لفيف من الظالمين، يخالفها .
والاجابة عن السؤال واضحة، فإنّ الآية مختصّة بالظالمين الذين اُهلكوا في هذه الدنيا ورأوا جزاء عملهم فيها، فالآية تحكم بأنّهم لا يرجعون، وأمّا الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة فيرجع لفيف منهم ليروا جزاء عملهم فيها ثمّ يردّون إلى أشدّ العذاب في الآخرة، فالآية تنفي رجوع لفيف من الظالمين الذين ماتوا حتف الأنف .
3- إنّ الظاهر من قوله تعالى: (حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أعْمَلَ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إنّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلها ومِن ورائِهمْ بَرْزَخٌ اِلى يَومِ يُبْعَثُونَ)(3) هو نفي الرجوع إلى الدنيا بعد مجيئ الموت لأي أحد .
والاجابة عنها واضحة. انّ الآية كسائر السنن الإلهية الواردة في حقّ الإنسان، فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع وهذا لا ينافي رجوع البعض
________________________________________
1 . بحارالانوار 53 / 138 .
2 . الأنبياء / 95 .
3 . المؤمنون / 100 ـ 101 .
________________________________________
(369)
استثناءً ولمصالح عليا، كما مرّت الآيات الواردة في هذا المضمار .أضف إلى ذلك أنّ عود بعض الظالمين إلى الدنيا ـ على القول بالرجعة ـ إنّما هو لأجل عقابهم والانتقام منهم، وأين هذا من طلب هؤلاء الكفار الرجوع لأجل تصحيح عملهم والقيام بما تركوه من الصالحات، وردّ هذا الفرع من الرجوع لا يكون دليلا على نفي النوع الأوّل منه