أسباب اعتناق الفرس للإسلام و لمذهب التشيّع

طباعة

المصدر : أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ص 88 ـ 95

 


(88)

أسباب اعتناق الفرس للإسلام و لمذهب التشيّع :


ثمّ إنّ هنا أُموراً لا محيص عن طرحها وتحليلها: لأنّها من المواضيع التي كثر فيها اللغط ، وقد أكثر المستشرقون وغيرهم فيها الصخب والهياج وهي :
1 ـ ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام؟
2 ـ ما هو السبب الحقيقي لجنوحهم إلى آل البيت؟
3 ـ سببان مزعومان : الأصهار ، وإرادة هدم الإسلام .
وإليك تحليل تلك النقاط :
1 ـ ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام؟
إنّ الفرس دخلوا في الإسلام كدخول سائر الشعوب ، والعلّة في الجميع واحدة أو متقاربة ، وحاصلها : أنّهم وقفوا على أنّ في هذه الشريعة الغرّاء من سمات العدل والمساواة ، ورفض التمييز العنصري ، والنظام الطبقي ، وأنّ الناس فيه كأسنان المشط لا فضل لأعجمي على عربي ولا لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى ، وكانت الثورة الإسلامية تحمل يوم تفجّرها رايات العدل العظيمة ، فكان ذلك هو الدافع المهمّ للشعوب للدخول في الإسلام ، والانضواء تحت رايته ، من غير فرق بين قوم دون قوم وشعب دون شعب .
________________________________________


(89)


2 ـ ما هو السبب الحقيقي لولائهم آل البيت  ـ عليهم السلام ـ ؟
إنّ السبب الحقيقي لولائهم وجنوحهم إلى أهل البيت هو أنّهم شاهدوا أنّ علياً وأهل بيته ـ خلافاً للخلفاء عامّتهم ـ يكافحون فكرة القومية ويطبّقون المساواة ، فأخذوا يتحنّنون إليهم حيناً بعد حين ، وشبراً بعد شبر ، فكان ذلك نواة لبذر الولاء في قلوب بعضهم ، يرثه الأبناء من الآباء ، وإن لم يكن الحبّ ـ يوم ذاك ـ ملازماً للقـول بخلافتهم عن الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _وإمامتهم بعده ، بل كان حبّاً وودّاً خالصاً لأسباب نفسية لا قيادية ، وتدلّ على ذلك عشرات من القضايا نذكر بعضها :
1 ـ روى الفضل بن أبي قرة عن الإمام الصادق _ عليه السلام _ قال : « أتت الموالي أمير المؤمنين _ عليه السلام _ فقالوا : نشكو إليك هؤلاء العرب ، إنّ رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _كان يعطينا معهم العطايا بالسويّة ، وزوّج سلمان ، وبلالا ، وصهيباً ، وأبوا علينا هؤلاء ، فقالوا : لا نفعل ، فذهب إليهم أمير المؤمنين _ عليه السلام _ فكلّمهم فيهم ، فصاح الأعاريب : أبينا ذلك يا أبا الحسن ، أبينا ذلك ، فخرج وهو مغضب يجرّ رداءه وهو يقول : يا معشر الموالي إنّ هؤلاء قد صيّـروكم بمنزلة اليهود والنصارى ، يتزوّجون إليكم ولا يزوّجونكم ، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون ، فاتَّـجروا بــارك الله لكم ; فانّي قد سمعـت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة وواحد في غيرها» (1).
2 ـ وروى أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي في غاراته : عن عبّاد ابن عبد الله الأسدي ، قال : كنت جالساً يوم الجمعة ، وعليّ _ عليه السلام _ يخطب على منبر من آجر ، وابن صوحان جالس ، فجاء الأشعث ، فجعل يتخطى الناس فقال : يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على وجهك ، فغضب ، فقال ابن صوحان : ليبين

____________
(1)الكليني ، الكافي 5 : 318 .
________________________________________


(90)


اليوم من أمر العرب ما كان يخفى ، فقال عليّ _ عليه السلام _ : « من يعذرني من هؤلاء الضياطرة ، يقبل أحدهم يتقلّب على حشاياه ، ويهجّد قوم لذكر الله ، فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت محمّداً ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : ليضربنّكم والله على الدين عَوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً» .
قال المغيرة : كان عليّ _ عليه السلام _ أميل إلى الموالي وألطف بهم ، وكان عمر أشدّ تباعداً منهم(1) .
3 ـ روى ابن شهر آشوب : لما ورد بِسبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بيع النساء ، وأن يجعل الرجال عبيد العرب ، وعزم على أن يحملوا العليل والضعيف ، والشيخ الكبير في الطواف وحول البيت على ظهورهم ، فقال أمير المؤمنين _ عليه السلام _ : « إنّ النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : أكرموا كريم قوم وإن خالفوكم ، وهؤلاء الفرس حكماء كرماء ، فقد ألقوا إلينا بالسلام ، ورغبوا في الإسلام ، وقد أعتقت منهم لوجه الله حقّي وحقّ بني هاشم» فقالت المهاجرون والأنصار : قد وهبنا حقّنا لك يا أخا رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _فقال : « اللّهمّ فاشهد أنّهم قد وهبوا ، وقبلت وأعتقت» ، فقال عمر : سبق إليها عليّ ابن أبي طالب _ عليه السلام _ ونقض عزمي في الأعاجم(2) .
4 ـ روى الصدوق عن الإمام الصادق _ عليه السلام _ : قال : قال رجل له : إنّ الناس يقولون : من لم يكن عربياً صلباً ، أو مولى صريحاً ، فهو سفلي ، فقال : «وأيّ شيء المولى الصريح»؟! فقال له الرجل : من ملك أبواه ، فقال : « ولِـمَ قالوا هذا» ؟! قال : يقول رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ : مولى القوم من أنفسهم ، فقال : « سبحان الله ، أما بلغك أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : أنا مولى من لا مولى له ، أنا مولى كلّ مسلم ،

____________
(1) الثقفي ، الغارات : 340 ط بيروت ، الحمراء : الموالي ، الضياطرة جمع الضياطر : الضخام الذين لا عناد عندهم .
(2) ابن شهر آشوب ، مناقب آل أبي طالب 4 : 48 .
________________________________________


(91)


عربيّها وعجميّها ، فمن والى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أليس يكون من نفس رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ » ثمّ قال : «أيّهما أشرف ، من كان من نفس رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو من كان من نفس أعرابي جلف بائل على عقبيه؟ ثمّ قال : من دخل في الإسلام رغبة ، خير ممّن دخل رهبة ، ودخل المنافقون رهبة ، والموالي دخلوا رغبة» (1).
5 ـ روى الفضل بن شاذان (ت 260هـ ) : أنّ عمـر بن الخطاب نهى عن أن يتزوّج العجم في العرب وقال : لأمنعنّ فروجهنّ إلاّ من الأكفاء(2).
6 ـ روى المفيد : أنّ سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ دخل مجلس رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ذات يوم فعظّموه وقدّموه وصدّروه إجلالا لحقّه ، وإعظاماً لشيبته ، واختصاصه بالمصطفى _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وآله فدخل عمر فنظر إليه ، فقال : من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب؟ فصعد رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _المنبر فخطب ، فقال : «إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمى ، ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى ، سلمان بحر لا ينزف ، وكنز لا ينفد ، سلمان منّا أهل البيت ، سلسل يمنح الحكمة ويؤتي البرهان» (3).
7 ـ روى الثقفي في الغارات : أنّ امرأتين أتتا علياً _ عليه السلام _ عند القسمة ، إحداهما من العرب ، والأُخرى من الموالي ، فأعطى كلّ واحدة خمسة وعشرين درهماً ، وكرّاً من الطعام ، فقالت العربية : يا أمير المؤمنين ، إنّي امرأة من العرب ، وهذه امرأة من العجم ، فقال عليّ _ عليه السلام _ : «إنّي لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني إسحاق»(4).

____________
(1) الصدوق ، معاني الأخبار : 405 .
(2)الفضل بن شاذان ، الإيضاح : 280 .
(3)المفيد ، الاختصاص : 341 .
(4) الغارات : 341 .
________________________________________


(92)


8 ـ روى المفيد عن ربيعة وعمارة وغيرهما : أنّ طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مشوا إليه عند تفرّق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية ، طلباً لما في يديه من الدنيا ، فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، أعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريشاً على الموالي والعجم ، ومن يخاف خلافه عليك من الناس وفراره إلى معاوية .
فقال لهم أمير المؤمنين _ عليه السلام _ : « أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم ، ولو كانت أموالهم لي لواسيت بينهم ، فكيف وإنّما هي أموالهم» (1).
9 ـ روى المبّرد : قال الأشعث بن قيس لعليّ بن أبي طالب _ عليه السلام _ وأتاه يتخطّى رقاب الناس وعليّ على المنبر ، فقال : يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك ، قال : فركض على المنبر برجله ، فقال صعصعة بن صوحان العبدي : ما لنا ولهذا؟ ـ يعني الأشعث ـ ليقولنّ أمير المؤمنين اليوم في العرب قولا لا يزال يذكر ، فقال عليّ : «من يعذرني من هذه الضياطرة ، يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرّغ الحمار ، ويهجر قوم للذكر ، فيأمرني أن أطردهم ، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين ، والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ليضربنّكم على الدين عَوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً»(2).
هذه الشواهد الكثيرة توقفنا على السبب الحقيقي لتوجّه الفرس والموالي إلى آل البيت ، وأنّه لم يكن إلاّ لصمودهم في طريق تحقيق العدل والمساواة ، والمكافحة ضد العنصرية والتعصّب .

____________
(1)المفيد ، المجالس : 57 طبعة النجف .
(2)الكامل 2 : 53 ، ط مصر سنة 1339هـ .
________________________________________


(93)


3 ـ سببان مزعومان : الإصهار ، وإرادة هدم الإسلام :
أوّلاً : هل الإصهار كان سبباً للولاء :
روى الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره : أنّ الصحابة جاءوا بسبي فارس في خلافة الخليفة الثاني كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد ، فباعوا السبايا ، وأمر الخليفة ببيع بنات يزدجرد فقال الإمام عليّ : «إنّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن» فقال الخليفة : كيف الطريق إلى العمل معهنّ؟ فقال : «يقوَّمن ومهما بلغ ثمنهنَّ قام به من يختارهنَّ» فقوِّمن فأخذهنَّ عليّ فدفع واحدة لعبد الله بن عمر ، وأُخرى لولده الحسين ، وأُخرى لمحمّد بن أبي بكر ، فأولد عبد الله بن عمر : ولده سالماً ، وأولد الحسين : زين العابدين ، وأولد محمّد : ولده القاسم ، فهؤلاء أولاد خالة ، وأُمّهاتهم بنات يزدجرد(1) .
وقد استند إلى هذه القصّة أحمد أمين في فجر الإسلام ، والدكتور حسن إبراهيم في التاريخ السياسي للإسلام(2) ، وذهبا إلى أنّ الاصهار صار سبباً لتشيّع الفرس .
لن ندخل في نقاش مع هذه القصّة وأنّها هل هي صادقة أو ممّا وضعه أصحاب الأساطير ، وكفانا في هذا الأمر ما ألّفه زميلنا العزيز الدكتور السيد جعفر شهيدي(3) ، ولو وقفنا إلى جانب هذه القصّة وسلّمنا بها ، فإنّا نسأل أيّ صلة بين دخول الفرس في التشيّع ومصاهرة الإمام الحسين يزدجرد ، فلو كانت تلك علّة فليكن تسنّن الفرس لأصهار عبد الله بن عمر ومحمّد بن أبي بكر لهم ، فإنّ الرجلين من أبناء الخليفتين ، على أنّ هذا التفسير يدلّ على سطحية في التفكير وسقم في المنطق لا يقرّ به العقلاء .

____________
(1) ربيع الأبرار 3 : 19 .
(2)تاريخ الإسلام السياسي 2 : 7 .
(3)الإمام علي بن الحسين ، باللغة الفارسية .
________________________________________


(94)


ثانياً : إرادة هدم الإسلام :
أثار بعض أعداء الإسلام ، ومن أعماه الحقد وخبث السريرة ، الكثير من الشبهات حول تمسّك الفرس بالمذهب الشيعي ، وولائهم العميق لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ  ، ومن هذه الشبهات السقيمة التي وجدت من يطبّل لها ويزمّر ، هي أنّ الفرس ما دخلوا في المذهب الشيعي إلاّ للتستّر من أجل هدم الإسلام تحت هذا الغطاء .
وإلى هذا الرأي السقيم يذهب ضمناً أحمد أمين في تخرّصاته دون أن يحاسب نفسه على تقوّلاته التي هي أشدّ المعاول هدماً في صرح الإسلام لا الفرس الذين يتّهمهم ظلماً وجوراً ، حيث قال : والحقّ أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كلّ من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد ، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية ، ومن يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته ، كلّ هؤلاء كانوا يتّخذون حبّ أهل البيت ستاراً!! (1).
وقد استغل هذه الأُطروحة الخبيثة الكاتب الأمريكي «لو تروب ستودارد» في كتابه «حاضر العالم الإسلامي» الذي نقله إلى العربية الأمير شكيب أرسلان ، وتجد الفكرة أيضاً عند صاحب المنار ، ومحبّ الدين الخطيب ، وغيرهم من كتّاب العصر .
وهذا الكلام أشبه بكلام من أعمى الله بصره وبصيرته ; فإنّ من نظر إلى تاريخ الفرس يجد أنّهم خدموا الإسلام بنفسهم ونفيسهم وأقلامهم وآرائهم من غير فرق بين الشيعي والسنّي ، وخدمات المذهب الشيعي للإسلام أعظم من أن تحصى ، وأوضح من أن تخفيها إرهاصات الحاقدين ، وقد تقدّم منّا في الصفحات الأُولى وما بعدها دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية ، وما شيعة الفرس إلاّ جزءاً من

____________
(1) فجر الإسلام : فصل الشيعة .
________________________________________


(95)


عموم الشيعة المسلمين ، ولهم أياد بيضاء مشكورة في خدمة الإسلام ، ولن يضرّهم نفث السموم وتخرّص المتخرّصين .د أُخته السيدة
زينب ـ رضوان الله عليها ـ .