الفرضيّة الثانية: التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ

البريد الإلكتروني طباعة

المصدر : أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ص 54 ـ 71


(54)


الفرضيّة الثانية: التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ


لنقرأ ما كتبه الطبري حول هذا الوهم المصطنع:
قال: «إنّ يهودياً باسم عبد الله بن سبأ المكنّى بابن السوداء في صنعاء أظهر الاِسلام في عصر عثمان، واندسّ بين المسلمين، وأخذ يتنقّل في حواضرهم وعواصم بلادهم: الشام، والكوفة، والبصرة، ومصر، مبشّراً بأنّ للنبيّ الاَكرم رجعة كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة، وأنّ عليّاً هو وصي محمّد_ صلى الله عليه وآله وسلم _ كما كان لكل نبيّ وصي، وأنّ عليّاً خاتم الاَوصياء كما أنّ محمّداً خاتم الاَنبياء، وأنّ عثمان غاصب
________________________________________


(55)


حقّ هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لاِرجاع الحقّ إلى أهله» .
« إنّ عبد الله بن سبأ بثّ في البلاد الاِسلامية دعاته، وأشار عليهم أن يظهروا الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الاَُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح من أمثال أبي ذر، وعمّـار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الاَشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئية تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطّة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الاَُمراء وترسل إلى غير مصرهم من الاَمصار. فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين ـ بتحريض السبئيين ـ وقدومهم إلى المدينة وحصرهم عثمان في داره، حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم».
«إنّ المسلمين بعد ما بايعوا عليّاً، ونكث طلحة والزبير بيعته وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إنّ تمّ ذلك سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرّروا أنّ يندسّوا بين الجيشين ويثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم، وأنّهم استطاعوا أنّ ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السياسيين في جيش عليّ من كان بأزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثمّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم».
روى الطبري عن هذا الوهم في موضع آخر من كتابه:
« فيما كتب به إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعسي، قال: كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء أُمّه سوداء، فأسلم
________________________________________


(56)


زمان عثمان، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثمّ البصرة، ثمّ الكوفة، ثمّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتّى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: العجب فيمن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأنّ محمداً يرجع، وقد قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}(1) ، فمحمّد أحقّ بالرجوع من عيسى. قال: فَقُبِل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها، ثمّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصي محمّد. ثمّ قال: محمّد خاتم الاَنبياء وعليّ خاتم الاَوصياء. ثمّ قال بعد ذلك: من أظلم ممّن لم يجز وصية رسول الله_ صلى الله عليه وآله وسلم _ ووثب على وصيّ رسول الله_ صلى الله عليه وآله وسلم _ وتناول أمر الاَُمّة. ثمّ قال لهم بعد ذلك: إنّ عثمان أخذها بغير حق وهذا وصيّ رسول الله_ صلى الله عليه وآله وسلم _ فانهضوا في هذا الاَمر فحرّكوه، وابدأوا بالطعن على أُمرائكم، وأظهروا الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الاَمر. فبثّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الاَمصار وكاتبوه، ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الاَمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أُولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتّى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الاَرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرّون غير ما يبدون... إلى آخر ما يذكره الطبري في المقام» حتّى يتوقّف عن إيراد هذه الاَحداث بعد حرب الجمل ولا يأتي بعد ذلك بشيء عن السبئية(2).
وهكذا فقد تبيّن لك ممّا أوردناه عن الطبري إنّ جلّة من فضلاء الصحابة قد
____________
(1) القصص: 85.
(2) الطبري 3: 378.

________________________________________


(57)


عُدّوا من كبار السبئية وقادتها، وهم الذين كانوا يعرفون بالزهد والتقى والصدق والصفاء:
فأمّا عبد الرحمن بن عديس البلوي فهو ممّن بايع النبي تحت الشجرة وشهد فتح مصر، وكان رئيساً على من سار إلى عثمان من مصر(1).
وأمّا محمّد بن أبي بكر: فأُمّه أسماء بنت عميس الخثعمية، تزوّجها أبو بكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب، فولدت له محمّداً في حجّة الوداع بطريق مكّة، ثم نشأ في حجر عليّ بعد أبيه، وشهد معه حرب الجمل، كما شهد صفّين، ثمّ ولي مصر عن عليّ إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها(2).
وأمّا صعصعة بن صوحان العبدي: فقد أسلم على عهد رسول الله وكان خطيباً مفوّهاً، شهد صفّين مع علي. ولما استشهد عليّ واستولى معاوية على العراق نفاه إلى البحرين ومات فيها(3).
وأمّا الاَشتر: فهو مالك بن الحرث النخعي، وهو من ثقات التابعين، شهد وقعة اليرموك، وصحب عليّاً في الجمل وصفّين، ولاّه على مصر سنة (38هـ) ولمّا وصل إلى القلزم دسّ إليه معاوية السمّ بواسطة أحد عملائه فتوفّي مسموماً» (4).
هذا هو الذي ذكره الطبري، وقد أخذه من جاء بعده من المؤرّخين وكتّاب
____________
(1) أُسد الغابة 3: 309 قال: وشهد بيعة الرضوان وبايع فيها وكان أمير الجيش القادم من مصر لحصر عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ لمّا قتلوه، روى عنه جماعة من التابعين بمصر....
(2) كان أحد من توثّب على عثمان حتّى قتل ثمّ انضمّ إلى عليّ. أُسد الغابة 4: 324، الاستيعاب 3: 328، الجرح والتعديل 7: 301.
(3) أُسد الغابة 3: 320 قال: تقدّم نسبه في أخيه زيد، وكان صعصعة مسلماً على عهد رسول الله_ صلى الله عليه وآله وسلم _ ولم يره، وصغر عن ذلك وكان سيّداً من سادات قومه عبد القيس وكان فصيحاً بليغاً لسناً ديّناً فاضلاً يعد في أصحاب علي ـ رضي الله عنه ـ وشهد معه حروبه.
(4) ملك العرب، أحد الاَشراف والاَبطال. الطبقات الكبرى 6: 213، الاِصابة 3: 459، سيرأعلام النبلاء 4: 34.

________________________________________


(58)


المقالات حقيقة راهنة، وبنوا عليه ما بنوا من الاَفكار والآراء، فصارت الشيعة وليدة السبئية في زعم هؤلاء عبر القرون والاَجيال.
ومن الذين وقعوا في هذا الخطأ الفاحش دون فحص وتأمل في حقائق الاَُمور:
1ـ ابن الاَثير (ت 630هـ)، فقد أورد القصّة منبثّة بين حوادث (30 ـ 36هـ) وهو وإن لم يذكر المصدر في المقام، لكنّه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاثة الاَُول(1).
2 ـ ابن كثير الشامي (ت 774هـ) فقد ذكر القصّة في تأريخه «البداية والنهاية» وأسندها عندما انتهى من سرد واقعة الجمل إلى تاريخ الطبري، وقال: هذا ملخّص ما ذكره أبو جعفر بن جرير(2).
3 ـ ابن خلدون (ت 808هـ)، في تأريخه «المبتدأ والخبر» أورد القصّة في حادثة الدار والجمل وقال: هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبرى(3).
وأمّا من جاء بعد أُولئك المؤرّخين وأخذوا ما أورده السابقون مأخذ التسليم
____________
(1) لاحظ مقدّمة تاريخ الكامل يقول فيه: فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الاِمام أبو جعفر الطبري؛ إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافّة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه جميع تراجمه، لم أخل بترجمة واحدة منها. لاحظ 1: 3 ط دار صادر.
(2) البداية والنهاية 7: 246 ط دار الفكر ـ بيروت.
(3) تاريخ ابن خلدون يقول: « و بعث (عثمان) إلى الاَمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأُسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام وعمار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه، فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامّهم إلاّ عماراً فإنّه استماله قوم من الاَشرار انقطعوا إليه، منهم عبد الله بن سبأ ويعرف بابن السوداء كان يهوديّاً وهاجر أيّام عثمان فلم يحسن إسلامه وأُخرج من البصرة ... » تاريخ ابن خلدون أو كتاب العبر 2: 139، وقال: 166: « هذا أمر الجمل ملخّص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الاَهواء» .

________________________________________


(59)


فنذكر منهم:
4 ـ محمّد رشيد رضا، مؤسس مجلة المنار (ت 1354هـ)، ذكره في كتابه «السنّة والشيعة» وقال: وكان مبتدع أُصوله (أي التشيّع) يهودي اسمه عبد الله بن سبأ، أظهر الاِسلام خداعاً، ودعا إلى الغلو في عليّ كرم الله وجهه، لاَجل تفريق هذه الاَُمّة، وإفساد دينها ودنياها عليها، ثمّ سرد القصّة وقال: ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الاَثير مثلاً يرى مبلغ تأثير إفساد السبئيين دون ما كاد يقع من الصلح(1).
5 ـ أحمد أمين (ت 1372هـ)، وهو الذي استبطل عبد الله بن سبأ في كتابه « فجر الاِسلام» وقال: إنّ ابن السوداء كان يهوديّاً من صنعاء، أظهر الاِسلام في عهد عثمان، وحاول أن يفسد على المسلمين دينهم، وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة، وقد طاف في بلاد كثيرة، في الحجاز، والبصرة، والكوفة، والشام، ومصر. ثمّ ذكر أنّ أبا ذر تلقّى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي، وهو تلقّى هذه الفكرة من مزدكيّي العراق أو اليمن.
وقد كان لكتاب « فجر الاِسلام» عام انتشاره (1952 م) دويّ واسع النطاق في الاَوساط الاِسلامية؛ فإنّه أوّل من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع، وقد ردّ عليه أعلام العصر بأنواع الردود، فألّف الشيخ المصلح كاشف الغطاء «أصل الشيعة وأُصولها »  ردّاً عليه، كما ردّ عليه العلامة الشيخ عبد الله السبيتي بكتاب أسماه « تحت راية الحق» .
5ـ فريد وجدي مؤلّف دائرة المعارف (ت 1370هـ) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الاِمام عليّ بن أبي طالب(2).

____________
(1) السنّة والشيعة: 4، 6، 45، 49 و 103.
(2) دائرة المعارف 6: 637.

________________________________________


(60)


7 ـ حسن إبراهيم حسن، وذكره في كتابه «تاريخ الاِسلام السياسي» في أُخريات خلافة عثمان بقوله: «فكان هذا الجوّ ملائماً تمام الملاءمة ومهيّأً لقبول دعوة (عبد الله بن سبأ) ومن لفّ لفّه والتأثّر بها إلى أبعد حدّ ـ وأضاف ـ وقد أذكى نيران هذه الثورة صحابي قديم اشتهر بالورع والتقوى ـ وكان من كبار أئمّة الحديث ـ وهو أبو ذر الغفاري الذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء وهو عبد الله بن سبأ، وكان يهوديّاً فأسلم، ثمّ أخذ ينتقل في البلاد الاِسلامية، فبدأ بالحجاز، ثمّ البصرة فالكوفة والشام ومصر... الخ(1).
هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين، وأمّا المستشرقون المتطفّلون على موائد المسلمين فحدّث عنهم ولا حرج، فقد ابتغوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية التي تؤلّف لغايات خاصّة، فمن أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألّفه الباحث الكبير السيّد مرتضى العسكري في ذلك المجال، فإنّه ـ دام ظلّه ـ حقّق المقال ولم يبق في القوس منزعاً(2).

نظر المحقّقين في الموضوع:
1 ـ إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصّة، على وجه لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الاَساطير ومردة الجنّ؛ إذ كيف يصحّ لاِنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء وأسلم في عصر عثمان، واستطاع أن يغري كبار الصحابة والتابعين ويخدعهم، ويطوف بين البلاد ناشراً دعواه، بل واستطاع أن يكوّن خلايا ضدّ عثمان ويستقدمهم على المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الاِسلامية، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شيء لايحتمله العقل وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب.

____________
(1) تاريخ الاِسلام السياسي: 347.
(2) عبد الله بن سبأ 1: 46 ـ 50.

________________________________________


(61)


بل إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين وتصوّرهم أُمّة ساذجة يغترّون بفكر يهودي، وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكّرون.

2 ـ إنّ القراءة الموضوعية للسيرة والتاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان؛ فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبو ذر الغفاري ـ رحمه الله ـ نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّه ضرب الصحابي الجليل عمّـار بن ياسر حتى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من أضلاعه(1) ، إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم التي يقف عليها المتتبّع، ومع ذلك نرى في الاَوهام التي عرضناها مسبقاً أنّ رجال الخلافة وعمالها يغضّون الطرف عمّن يؤلِّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجرّ الويل والويلات على كيانهم!! وهذا شيء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة وسيرة معاوية.

يقول العلاّمة الاَميني: لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن، وشقّ عصا المسلمين، وقد علم به وبعبثه أُمراء الاَُمّة وساستها في البلاد، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يبلغه القبض عليه، والاَخذ بتلكم الجنايات الخطرة والتأديب بالضرب والاِهانة، والزجّ إلى أعماق السجون؟ ولا آل أمره إلى الاِعدام المريح للاَُمّة من شرّه وفساده كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الاَبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهتاف القرآن الكريم يرنُّ في مسامع الملاَ الديني: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ

___________
(1) الاستيعاب 2: 422.

________________________________________


(62)


الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1) فهلاّ اجتاح الخليفة جرثومة تلك القلاقل بقتله؟ وهل كان تجهّمه وغلظته قصراً على الاَبرار من أُمّة محمّد_ صلى الله عليه وآله وسلم _ ففعل بهم ما فعل(2)!!
وهناك لفيف من الكتّاب ممّن حضر أو غبر، بدل أن يفتحوا عيونهم على الواقع المرير، ليقفوا على الاَسباب المؤدّية إلى قتل الخليفة، حاولوا التخلّص من أوزار الحقيقة بالبحث عن فروض وهميّة سبّبت قتل الخليفة وأودت به.
وفي حقّ هؤلاء يقول أحد الكتّاب المعاصرين:
« وفي الشرق كتَّابٌ لا يعنيهم من التاريخ واقعٌ ولا من الحياة حالٌ أو ظرف، فإذا بهم يعلّلون ثورة المظلومين على عثمان، ويحصرون أحداث عصر بل عصور بإرادة فرد يطوف في الاَمصار والاَقطار ويؤلّب الناس على خليفة ودولة!.
إنّ النتيجة العملية لمثل هذا الزعم وهذا الافتراء هي أنّ الدولة في عهد عثمان ووزيره مروان إنَّما كانت دولة مثاليّة، وأنّ الاَمويين والولاة والاَرستقراطيين إنَّما كانوا رُسُل العدالة الاجتماعية والاِخاء البشري في أرض العرب. غير أنّ رجلاً فرداً هو عبد الله بن سبأ أفسد على الاَمويين والولاة والاَرستقراطيين صلاحهم وبرّهم؛ إذ جعل يطوف الاَمصار والاَقطار مؤلّباً على عثمان وأُمرائه وولاته الصالحين المُصلحين، ولولا هذا الرجل الفرد وطوافه في الاَمصار والاَقطار لعاش الناس في نعيم مروان وعدل الوليد وحلم معاوية عيشاً هو الرغادة وهو الرخاء.
في مثل هذا الزعم افتراءٌ على الواقع، واعتداء على الخلق، ومسايرة ضئيلة الشأن لبعض الآراء، يغلّف ذلك جميعاً منطق ساذج وحجّة مصطنعة واهية. وفيه ما هو أخطر من ذلك؛ فيه تضليل عن حقائق أساسية في بناء التاريخ؛ إذ يحاول
____________
(1)  المائدة: 33.
(2)  الغدير 9: 219 ـ220

________________________________________


(63)


صاحب هذا المسعى الفاشل أن يحصر أحداث عصر بكامله، بل عصور كثيرة، بإرادة فردٍ يطوف في الاَمصار ويؤلّب الناس على دولة فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشىء إلاّ لاَنّ هذا الفرد طاف بهم وأثارهم!.
أمّا طبيعة الحكم، وسياسة الحاكم، وفساد النظام الاقتصادي والمالي والعمراني، وطغيان الاَثرة على ذوي السلطان، واستبداد الولاة بالاَرزاق، وحمل بني أُميّة على الاَعناق، والميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية، وإذلال من يضمر لهم الشعبُ التقدير والاحترام الكثيرين أمثال أبي ذرّ وعمّار بن ياسر وغيرهما، أمّا هذه الاَُمور وما إليها جميعاً من ظروف الحياة الاجتماعية، فليست بذات شأن في تحريك الاَمصار وإثارتها على الاَُسرة الاَمويّة الحاكمة ومن هم في ركابها، بل الشأن كلّ الشأن في الثورة على عثمان لعبدالله بن سبأ الذي يلفت الناس عن طاعة الاَئمّة ويلقي بينهم الشرّ.
أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق من يعلّلون الحوادث العامّة الكبرى المتّصلة اتّصالاً وثيقاً بطبيعة الجماعة وأُسس الاَنظمة الاقتصادية والاجتماعية بإرادة فرد من عامّة الناس يطوف في البلاد باذراً للضلالات والفساد في هذا المجتمع السليم.
أليس من الخطر على التفكير أن نعلّل الثورات الاِصلاحية في التاريخ تعليلاً صبيانياً نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن يحدثوا شغباً فطافوا الاَمصار وأحدثوه» (1).
3 ـ إنّ رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم:
أ ـ السري: إنّ السري الذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:
1 ـ السري بن إسماعيل الهمداني الذي كذّبه يحيي بن سعيد، وضعّفه غير واحد
____________
(1)  الاِمام على صوت العدالة الاِنسانية 4: 894 ـ 896 وللكلام صلة من أراد فليرجع إليه.

________________________________________


(64)


من الحفّاظ(1).
2 ـ السري بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفّى عام (258هـ) وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، و زاد ابن حبّان: ويرفع الموقوفات، لا يحلّ الاحتجاج به، وقال النقاش في حديث وضعه السري(2).
فالاسم مشترك بين كذّابين لا يهمّنا تعيين أحدهما.
احتمال كونه السري بن يحيى الثقة غير صحيح، لاَنّه توفّي عام (167هـ) مع أنّ الطبري من مواليد عام (234هـ) فالفرق بينهما (57) عاماً، فلا مناص أن يكون السري، أحد الرجلين الكذابين.
ب ـ شعيب: والمراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول، قال ابن عدي: ليس بالمعروف، وقال الذهبي: راوية، كتب سيف عنه: فيه جهالة(3).
ج ـ سيف بن عمر: قال ابن حبّان: كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاَثبات، وقال: قالوا: إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم: اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط، وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامّتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي: عامّة حديثه منكر. وقال البرقانيـ عن الدارقطني ـ: متروك. وقال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف، وقال السيوطي: وضّاع، وذكر حديثاً
____________
(1)  قال يحيى القطّان: استبان لي كذبه في مجلس واحد، وقال النسائي: متروك، وقال غيره: ليس بشيء، وقال أحمد: ترك الناس حديثه.لاحظ ميزان الاعتدال 2: 117.
(2)  تاريخ الخطيب: 993، ميزان الاعتدال 2: 117، لسان الميزان 3: 12.
(3)  ميزان الاعتدال 2: 275، لسان الميزان 3: 145.

________________________________________


(65)


من طريق السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال: موضوع، فيه ضعفاء أشدّهم سيف(1).
د ـ فإذا كان هذا حال السند، فكيف نعتمد في تحليل نشوء طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تؤلّف خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية، مع أنّ هذا هو حال سندها ومتنها، فالاعتماد عليها خداع وضلال لا يرتضيه العقل.
عبد الله بن سبأ أُسطورة تاريخية:
إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حقّ الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول بأنّ مثل عبد الله بن سبأ مثل مجنون بني عامر وبني هلال، وأمثال هؤلاء الرجال والاَبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصّاصون وأرباب السمر والمجون؛ فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين: الاَُمويّة والعباسيّة، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو اتّسع المجال للوضع وراج سوق الخيال، وجعلت القصص والاَمثال كي تأنس بها ربّات الحجال، وأبناء الترف والنعمة(2).
هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء، ولعلّ ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر، فذهبوا إلى أنّ عبد الله بن سبأ أقرب ما يكون إلى الاَُسطورة منه إلى الواقع. وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أُسطورة تاريخية عمد أعداء الشيعة إلى تضخيمها وتهويلها لاستغفال الناس نكاية بالشيعة ومحاولة خبيثة لاِلقاء التفرقة والتباغض بين عموم المسلمين، ولا بأس بالوقوف على كلامه حيث قال:

____________
(1) ميزان الاعتدال 1: 438، تهذيب التهذيب 4: 295، اللآلي المصنوعة 1: 157، 199 و 429.
(2)  أصل الشيعة وأُصولها: 73.

________________________________________


(66)


وأكبر الظنّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا ـ إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً ـ إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلّ الفتنة، ولم يثرها.
إنّ خصوم الشيعة أيّام الاَُمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشكّكوا في بعض ما نسب من الاَحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنّعوا على عليّ وشيعته من ناحية أُخرى، فيردّوا بعض أُمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة.
فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الاِسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهودياً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثمّ أسلم، لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثمّ أُتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبله شيعاً وأحزاباً.
هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أُمور التاريخ، وإنّما الشيء الواضح الذي ليس فيه شكّ هو أنّ ظروف الحياة الاِسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأى، وافتراق الاَهواء، ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنّة النبيّ وسيرة صاحبيه كانوا يرون أُموراً تطرأ، ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الاَُمور الجديدة بنفوس جديدة، فيها الطمع، وفيها الطموح، وفيها الاَثرة، وفيها الاَمل البعيد، وفيها الهَمّ الذي لا يعرف حدّاً يقف عنده، وفيها من أجل هذا كلّه التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها،
________________________________________


(67)


وهذه الاَُمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه، فهذه أقطار واسعة من الاَرض تفتح عليهم، وهذه الاَموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الاَقطار، فأيّ غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الاَقطار المفتوحة، والانتفاع بهذه الاَموال المجموعة؟ وهذه بلاد أُخرى لم تفتح، وكلّ شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاّب الدنيا، ومن الاَجر والمثوبة إن كانوا من طلاّب الآخرة؟ ثمّ ما لهم جميعاً لا يختلفون في سياسة هذا المُلك الضخم وهذا الثراء العريض؟ وأيّ غرابة في أن يندفع الطامحون الطامعون من شباب قريش من خلال هذه الاَبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ وأيّ غرابة في أن يهمّ بمنافستهم في ذلك شباب الاَنصار وشباب الاَحياء الاَُخرى من العرب؟ وفي أن تمتلىَ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظاً إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشاً بعظائم الاَُمور، ويؤثر بني أُميّة بأعظم هذه العظائم من الاَُمور خطراً وأجلّها شأناً؟
والشيء الذي ليس فيه شكّ هو أنّ عثمان قد ولّى الوليد و سعيداً على الكوفة بعد أن عزل سعداً، وولّى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلّها لمعاوية، وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حدّ ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب، وولّي عبد الله ابن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، وكلّ هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لاَُمّه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الاَدنى إلى أُميّة بن عبد شمس.
كلّ هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها، وما نعلم أنّ ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولّى وعزل من عزل، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك
________________________________________


(68)


والقياصرة والولاة والاَُمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم، وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعاً من الناس، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور(1).
هكذا نرى أنّ الموارد التي يستنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهميّة خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الاَُمور التالية:
1 ـ إنّ المؤرّخين الثقات لم يشيروا في مؤلّفاتهم إلى قصّة عبد الله بن سبأ، كابن سعد في طبقاته، والبلاذري في فتوحاته.
2 ـ إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنّه وضّاع.
3 ـ إنّ الاَُمور التي نسبت إلى عبد الله بن سبأ، تستلزم معجزات خارقة لاتتأتّى لبشر، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد الله بن سبأ، وسخّرهم لمآربه ـ وهم ينفّذون أهدافه بدون اعتراض ـ في منتهى البلاهة والسخف.
4 ـ عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّـاله عنه، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمّد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أبي بكر، وغيرهم.
5 ـ قصّة إحراق عليّ إيّاه وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاِحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة،ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.
6 ـ عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في وقعة صفّين وفي حرب النهروان.
وقد انتهى الدكتور بهذه الاَُمور إلى القول: بأنّه شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج(2).

____________
(1) الفتنة الكبرى: 134، ولاحظ الغدير أيضاً 9: 220 ـ 221.
(2)الفتنة الكبرى: فصل ابن سبأ، وقد لخّص ما ذكرنا من الاَُمور من ذلك الفصل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه هوية التشيّع: 146.

________________________________________


(69)


وقد تبعه غير واحد من المستشرقين، وقد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمود صبحي في نظرية الاِمامة(1).
إلى أن وصل الدور إلى المحقّق البارع السيّد مرتضى العسكري ـ دام ظلّه ـ فألّف كتابه «عبد الله بن سبأ» ودرس الموضوع دراسة عميقة، وهو الكتاب الذي يحلّل التاريخ على أساس العلم، وقد أدّى المؤلّف كما ذكر الشيخ محمّد جواد مغنية: إلى الدين والعلم وبخاصّة إلى مبدأ التشيّع خدمة لا يعادلها أيّ عمل في هذا العصر الذي كثرت فيه التهجّمات والافتراءات على الشيعة والتشيّع، وأقفل الباب في وجوه السماسرة والدسّاسين الذين يتشبّثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين وإضعاف قوّتهم(2).
ونحن وإن افترضنا أنّ لهذا الرجل وجوداً حقيقياً على أرض الواقع إلاّ أنّ ذلك لا يعني الاقتناع بما نُقل وروي عنه، لاَنّه لا يعدو كونه سوى سراب ووهم وخداع لا ينطلي على أحد. يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: وليس ما يمنع أن يستغل يهودي الاَحداث التي جرت في عهد عثمان ليحدث فتنة وليزيدها اشتعالاً، وليؤلّب الناس على عثمان، بل أن ينادي بأفكار غريبة، ولكن السابق لاَوانه أن يكون لابن سبأ هذا الاَثر الفكري العميق، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة من المسلمين(3).
وهكذا، فإن ما يبدو واضحاً للعيان بطلان ما ذهب إليه بعض المنحرفين والمنخدعين من اعتبار أنّ نشأة التشيع عن هذا الطريق، بل ويزيد الحقّ وضوحاً
____________
(1) نظرية الاِمامة: 37.
(2) عبد الله بن سبأ 1: 11، والكتاب يقع في جزأين وصل فيهما إلى النتيجة التي تقدّمت، وقد استفدنا من هذا الكتاب في هذا الفصل.
(3)نظرية الاِمامة: 37.

________________________________________


(70)


أنّنا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أنّ أئمّتهم وعلماءهم يتبرّأون منه أشدّ التبرّؤ.
1 ـ قال الكشّي، وهو من علماء القرن الرابع: عبد الله بن سبأ كان يدّعي النبوّة وأنّ عليّاً هو الله!! فاستتابه ثلاثة أيّام فلم يرجع، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلاً(1).
2ـ قال الشيخ الطوسي (385 ـ 460هـ) في رجاله في باب أصحاب أمير المؤمنين: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ(2).
3 ـ وقال العلاّمة الحلّي (648 ـ 726هـ): غالٍ ملعون، حرقه أمير المؤمنين بالنار، كان يزعم أنّ عليّاً إله وأنّه نبيّ، لعنه الله(3).
4 ـ وقال ابن داود (647 ـ 707هـ): عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ(4).
5 ـ وذكر الشيخ حسن بن زين الدين (ت 1011هـ) في التحرير الطاووسي: غالٍ ملعون حرقه أمير المؤمنين7 بالنار(5).
ومن أراد أن يقف على كلمات أئمّة الشيعة في حقّ الرجل، فعليه أن يرجع إلى رجال الكشّي، فقد روى في حقّه روايات كلّها ترجع إلى غلوّه في حقّ عليّ، وأمّا ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات، فأدنى ما يمكن التصديق به أنّ الرجل ظهر غالياً فقتل أو أُحرق، والقول بذلك لا يضرّ بشيء، وأمّا ما ذكره الطبري عن الطريق المتقدّم فلا يليق أن يؤمن ويعتقد به من يملك أدنى إلمام بالتاريخ والسير.

____________
(1) رجال الكشي: 98 | 48.
(2) رجال الطوسي: باب أصحاب علي: 51 | 76.
(3) الخلاصة للعلاّمة: القسم الثاني الباب الثاني: عبد الله: 236.
(4) رجال ابن داود: القسم الثاني: 254 | 278.
(5) التحرير الطاووسي: 173 | 234.

________________________________________


(71)


وأخيراً فقد تبين وبدون شك بطلان وفساد هذه النظرية المختلقة حول نشأة التشيّع، والتي لم تصمد أمام النقد والتمحيص، بل وتحمل بذور سقوطها في ذاتها، وفي ذلك الدليل البيّن على أصالة مذهب التشيع والذي أسلفنا القول بأصالة نشأته، وأنّه وليد العقيدة الاِسلامية الاَصيلة وامتدادها الحقيقي، وأمّا ما قام به ابن سبأـعلىفرضصحّةوقوعهـفإنّه يعبّرعنموقففرديوتصرّف شخصي خارج عن إطار المذهب، ومن تبعه فقد أدخل نفسه دار البوار، وأين هذا الاَفّاك وزمرته من أُولئك الذين لا يخالفون الله ورسوله وأُولي الاَمر ولا يتخلّفون عن أوامرهم قيد أُنملة، كالمقداد وسلمان وحجر بن عدي ورشيد الهجري ومالك الاَشتر وصعصعة وأخيه وعمرو بن الحمق، ممّن يُستدرّ بهم الغمام وتنزل بهم البركات.
إلى هنا تمّ تحليل النظرية الثانية في تكوّن الشيعة فلننـتقل إلى مناقشة النظرية الثالثة.

 

 

 

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية