الشيعة والتاريخ

طباعة

الشيعة والتاريخ

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ

إن أيّ حركة دينيّة أو سياسيّة تعرف تاريخ إنطلاقتها والأسس النظريّة التي أسست نفسها عليها ، وخلال مراحلها التاريخيّة تعرف تطوّراً سواءاً بإصلاح في نظريّتها وتطويرها أو عكسها ولا يمكن أن تكون هناك طائفة بدون إنطلاقة تأسيسيّة ، والشيء الذي يجب أن ننتبه إليه أنّه ممكن داخل أيّ حركة فكريّة ، أو دينيّة أن تنبثق مجموعة من التيارات التي تأخذ أرضيّتها من الحالة التأسيسيّة الأولىٰ ، كما الحال مثلاً بالنسبة للماركسيّة بحيث نلاحظ ماركسيّة ماو ـ ستي ـ تونغ والتي عرفت بالماوية ، أو الماركسيّة التروتسكيّة ، أو الغيفاريّة أو اللينينيّة ، لكن المشكل ، من منهم يمثّل الحقيقة التي حاول تجسيدها ماركس من خلال أفكاره. وهكذا في الفكر الإسلامي ، بحيث لا توجد ظاهرة دينيّة تنوعت مذاهبها كمثل الإسلام ، ولكن الملاحظ هو أن الإختلاف لم يصل إلىٰ حدّ إنكار المسلمات العامّة والتي هي محلّ اتّفاق المسلمين إلّا أنّ الإختلاف في مجموعة من الأمور والتي قد تكون تأسيسيّة حاولت مجموعة من الطوائف التنازل عنها فصارت بعد ذلك محلّ نقاش وجدال ، وحاولت بعدها كلّ فرقة أن تثبت أهليّتها ، وأنّها الحقيقة الصافية التي جاء بها الإسلام هي التي تمثلها. فإلىٰ أيّ حدّ كان التشيّع يمثّل هذه الحقيقة ؟ وهل هو نتاج لتطوّر خلال المراحل التاريخيّة ؟

إنّ الشيعة كمصطلح لغوي يقصد بها جماعة من المتعاونين علىٰ أمر واحد ، ويقال تشايع القوم إذا تعاونوا ، وربّما يطلق علىٰ مطلق التابع (1) وقد استعمل الله هذا اللفظ في عدّة مواضع من كتابه تعالىٰ وذلك في قوله :

( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (2).

وكذلك في قوله تعالىٰ : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (3).

وهذا دليل علىٰ أنّ الشيعة هي جماعة من الناس اتّخذت من شخص لها قائداً وأعطته المحبّة والموالات والتصديق المطلق.

إذن علىٰ هذا الإصطلاح هل هذه الطائفة تبلورت خلال المراحل الأولىٰ من الدعوة الإسلاميّة أم جاءت متأخّرة ؟

إن الرجوع لكتب التاريخ يظهر تبايناً واضحاً في تحديد تاريخ تأسيس المذهب الشيعي. فبعضهم يرىٰ أن التشيّع ظهر بعد وفاة الرسول من قبل بعض أنصار الإمام علي عليه السلام الذين اجتمعوا في بيت فاطمة عليها السلام ، بحيث تخلّفوا عن بيعة أبي بكر وهم قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم العبّاس بن عبد المطلب ، والفضل بن العبّاس ، والزبير بن العوام وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب وأبي بن كعب (4). ويرىٰ أصحاب هذا الرأي أنّ المرحلة التأسيسيّة قد ظهرت خلال هذه الفترة وقد عبر عنها أحمد أمين بأن هذه المعارضة لبيعة أبي بكر كانت البذرة الأولىٰ للشيعة ، وهم الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ أهل بيته أولىٰ الناس أن يخلفوه (5). وكذلك عبّر عنها المستشرق جولدتيسهر (6) بكون النشوء بدأ مع الخلاف الحاصل حول مشكلة الخلافة ونقمة مجموعة من الناس علىٰ طريقة إنتخاب الخليفة.

والرأي الثاني هو الذي يقول كون التشيّع وليد الفتنة التي وقعت في عهد عثمان ، وآخرين يرون أنّ التشيّع وليد زمن علي لمّا تسلم اُمور الخلافة بحيث كانت الأرضيّة السياسيّة ملائمة ، وقد أشار الشهيد الصدر في كتابه بحث حول الولاية إلى هذا الرأي قائلاً : « ومنهم من يرد ظاهرة التشيّع إلىٰ عهد خلافة الإمام علي عليه السلام وما هيّأه ذلك العهد من مقام سياسي وإجتماعي علىٰ مسرح الأحداث (7).

إن هذا التضارب في تحديد تاريخ التشيّع ينم في داخله عن شيء معين ، إذ كلّ الطوائف الإسلاميّة الأخرىٰ معروف تاريخ تأسيسها ، وأصحاب الملل والنحل يبيّنون تاريخ ومؤسّس كلّ فرقة بصورة واضحة لم يختلف عليها أحد من عامّة المسلمين ، إلّا التشيّع فإنّه ظلّ ولا يزال محلّ خلاف ، ومن شدّة التيه التحقيقي في هذه المسألة ظهرت نظريّات حاولت إعطاء رؤىٰ تقريبيّة لهذه المدرسة ، فظهر تقسيم عجيب تداولته الألسن ، وهو تقسيم إلىٰ تشيّع السياسي ، وتشيّع مذهبي.

إنّ هذا التقسيم لم يكن موضوعيّاً ، وإنّما قصد منه ضربة التشيّع في الصميم. وقصد بالتشيّع السياسي هو حالة المشايعة التي عرفها آل البيت من أجل الحصول علىٰ السلطة السياسيّة وخصوصاً بعد إستشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، ممّا أدّىٰ إلىٰ تشكيل طائفة سياسيّة تعلن الولاء السياسي لآل البيت.

ويرىٰ الدكتور كامل مصطفىٰ الشيبي أنّ التشيّع السياسي ، وإن ظهر في الفترة التي افترضها الباحثون السابقون ، إلّا أنّ دلالة الإصطلاح « شيعة » علىٰ الكتلة التي ندرسها من المسلمين وإنصرافه إليهم دون غيرهم ، قد بدأت مع حركة التوّابين التي ظهرت سنة ٦١ ، وانتهت بالفشل سنة ٦٥ وكان قائد الحركة يلقّب بشيخ الشيعة (8).

والأغرب من ذلك هو نسبة التشيّع لليهود ، والقول بأنّ التشيّع ذات اُسس يهوديّة تأسّست علىٰ يد عبد الله بن سبأ رغم ما لهذا القول من ضعف. بحيث ثبت ضعفه من جانب التحقيق التاريخي ، وكذلك في مجموعة من العقائد التي حاولوا نسبتها إلىٰ اليهود وأنّها دخيلة علىٰ الإسلام ، في حين أنّ هذه العقائد أصلاً غير موجودة عند اليهود ! فقالوا أنّ العصمة مأخوذة من عندهم مع العلم أنّ الكتاب المقدّس يذكر الأنبياء بأبشع صور فها نحن نقرأ في سفر التكوين الإصحاح كيف أنّ النبي لوط لما صعد من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، وبات ليلتين في جماع ابنتيه بعد أن سقي خمراً وأنّ البنت البكر ولدت منه ابنا اسمه موآب والصغرىٰ ولد سمته ابن عمّي. وكذلك قالوا أنّ الولاية والوصيّة أصل يهودي في حين انّهم هم أنفسهم يقولون أنّ الوصاية لم تكن لهارون كي تكون لعلي. إذن من أين جاءت هذه الوصاية وبنو إسرائيل أنفسهم في القرآن الكريم يقول الله علىٰ لسانهم ( ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي ) فلو كان مبدأ الوصاية ذا أصول يهوديّة لوجد الوصي دون أن يلجأوا إلىٰ طلب ملك يقاتلون فيه.

ونعود إلىٰ قسمي التشيّع المختلفين ونقول أن قصدهم بالتشيع المذهبي هو المرحلة التي وضعت فيها الأسس العقائديّة والتأسيسيّة لهذا المذهب. وكان قصد المخالفين من هذا التقسيم ما يلي :

إن التشيّع السياسي هي مرحلة انطلقت بدون أصول معرفيّة وإنّما هي حالة عاطفيّة ، وانجذاب سياسي لأشخاص معيّنين. إذن تغيب في هذه المرحلة كلّ العلائق الدينيّة ، لكن بعد مرور مرحلة زمنيّة معيّنة لاحظ هؤلاء الأشخاص أنّه لا طائل من بقائهم علىٰ هذا الحال بدون موجّه ديني فيبقىٰ أمامهم خيارين :

الإلتحاق بالركب العام أو تأسيس قاعدة دينيّة ذات أصول حتّىٰ يتمّ لهم الإستمرار ، والنظر في كلا الإحتمالين غير وارد علىٰ اعتبار أنّ الشيعة عاشوا علىٰ قطيعة مع نظام السلطة منذ تأزم الوضع بشكل كلّي خصوصاً مع قيام الدولة الأمويّة. بحيث أنّ تاريخ الدولة الأمويّة لم يهدأ باله قطّ من الثورات الشيعيّة ، وثاني شيء هو أنّ القاعدة الفكريّة قد تأسّست مع أقوال الرسول وخطب الإمام علي عليه السلام ، وما الأئمّة إلّا صورة واحدة تتّخذ أشكال معيّنة وما قول أحد الأئمّة إلّا قول الأئمّة الآخرين ، إذن مرحلة التأسيس المذهبي التي حاولوا ربطها بالإمام الصادق عليه السلام ما هي إلّا محاولة لفكّ الشرعيّة عن تتابع الأئمّة ، والوصول في الأخير بطريقة غير مباشرة لخلع الشرعيّة الدينيّة لولاية الامام علي عليه السلام ، وجعلها سياسيّة ويصبح الحسين عليه السلام مثله مثل الخارجين عن السلطة المطالبين بها بدون أسس دينيّة ، ولا موجبات شرعيّة ، فتصير فتوىٰ شريح القاضي في حقّ الإمام الحسين عليه السلام لها مصوّغ ديني بعد ما رفع التكليف الشرعي للإمام ، وواجب الولاية الشرعيّة ، ومنه يصير الإمام الحسين عليه السلام خارج عن الشرع. إذن يبقىٰ سؤالاً جوهريّاً ، وهو ما حقيقة التشيّع في ظلّ هذا الخليط من التحليلات ؟

إن الوقوف علىٰ حقيقة هذا المصطلح أو بالأحرىٰ حقيقة المذهب يلزمنا الرجوع إلىٰ الموروث التاريخي القديم ، وتفحصه بدقّة لأن الإختلاف في تحديد تاريخ طائفة معيّنة ـ علىٰ أنّ تاريخ كلّ الطوائف الإسلاميّة محدّد بالتدقيق ـ يخفي وراءه حقيقة تعمد المؤرّخون إخفائها حتّىٰ يتسنىٰ لهم إبداء آرائهم ووجهات نظرهم ، والأهمّ من ذلك هو : تمديد موقعهم داخل خريطة العقيدة الإسلاميّة.

إن أغلب القرائن التاريخيّة تثبت أن مصطلح الشيعة ظهر في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد كان مجموعة من الصحابة معروفين بهذا المصطلح نتيجة علاقتهم بالإمام علي عليه السلام بحيث لما نزل قوله تعالىٰ :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حول خير البريّة : هم أنت يا علي وشيعتك (9).

وقد تعدّد ذكر هذا الخبر عند الكثير من العلماء ، فقد ذكره السيوطي في الدرّ المنثور قائلاً لما نزلت الآية ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم « أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرّاً محجلين » (10).

وقد تعدّدت الألفاظ في ذكر سبب نزول هذه الآية والدالّة علىٰ تخصيص التشيّع بالموالين ، والمشايعين لعلي ابن أبي طالب عليه السلام وكان من بين الأشخاص الذين عرفوا بهذا الإسم من خيرة الصحابة وهم أبو ذر ، وعمّار ومقداد ، وسلمان الفارسي.

فالمرحلة التأسيسيّة للتشيّع لم تكن شيئاً مفصولاً عن مرحلة تأسيس الدولة الإسلاميّة التي باشرها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. إذ نلاحظ أنّ أوّل عمل قام به الرسول خلال الدعوة السرّية هو ربط الإسلام بالإمام علي عليه السلام ، وكان ذلك في حديث الدار حيث جعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً وصيّاً له وخليفة من بعده.

ومن المحال عادة أن يعيّن قائد نهضة أحد أصحابه ووزيراً وخليفة له ويعلنه علىٰ الملأ فيما يبقى الأمر مخفيّاً علىٰ الخلص من أنصاره والثلّة المضحية (11). إذن طرح الإسلام كان مربوطاً بشخص ، وإظهار مكانته حتّىٰ يتمّ الإرتباط به من طرف عموم المسلمين.

والمواقع متعدّدة لإثبات مكانته من الدار إلىٰ الغدير ، لذلك نرىٰ أوّل ما عمله هؤلاء الأشخاص هو الإعتراض علىٰ بيعة أبي بكر ، والإجتماع في منزل فاطمة عليها السلام ، وهذا الرفض لم يكن وليد صدفة أو اللحظة ذاتها ، لأنّه لمجرّد الإنتهاء من تغسيل الرسول ودفنه احتجوا علىٰ المنفذين لهذا الأمر ـ أيّ البيعة ـ ، وهذا دليل علىٰ أنّ هناك أرضيّة مشتركة يعملون من خلالها ، فيصير مصطلح الشيعة إذن هم أولئك الذين يشايعون عليّاً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمّة الناس بعده ، نصبهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه وتعالىٰ وذكر أسمائهم. وقد قال الإمام علي عليه السلام في هذا المقام : « لا يقاس بآل محمّد من هذه الأمّة أحد ولا يسوىٰ بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصيّة والوراثة ».

فلهذا لا يصحّ ربط التشيع بحالات متأخّرة عن التشريع الإلهي والزمن النبوي المبارك ، ونعود هنا إلىٰ نقطة سابقة وهي قولنا في الإختلاف في تحديد تاريخ التشيّع بأنّه ينم عن شيء مخزون في نفوس المؤرّخين ، فهم يحاولون سلب مشروعيّة التشيّع ، في حين هم غافلين بأنّ السنّة والجماعة هي وليدة حالة السيطرة لمعاوية ومحاولته أدلجة المجتمع الإسلامي في قالب خاضع له فسمي عامه عام الجماعة وخلقت أحاديث كثيرة تستعمل هذا المصطلح كلفظ نبوي ، حتّىٰ يكتسب شرعيّته الدينيّة ، والتاريخيّة علماً أن التحقيق التاريخي يثبت أنّه من المصطلحات المتأخّرة عن أيّام حياة النبوي ، ممّا يفقدها هذه الشرعيّة ، ويبقىٰ المنافس القوي لهذه المدرسة هو التشيّع وذلك للشرعيّة التاريخيّة والدينيّة التي اكتسبها من أيّام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

إذن يبقىٰ التخلص من هذه الفكرة هو التشويش علىٰ أصلها حتّىٰ تصير صعبة الإستقبال من طرف الناس ، وتظل مدرسة بني أميّة هي المكتسبة لهذه الشرعيّة المحرفة التي تبلورت لها من قبل السلطة والمال وعلماء السوء.

الهوامش

1. جعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل ص ٧.

2. القصص : ١٥.

3. الصافات : ٨٣ ـ ٨٤.

4. اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٢٤.

5. أحمد أمين فجر الإسلام ص ٢٦٦ ط بيروت.

6. جولد تيسهر العقيدة والشريعة في الإسلام ١٦٩ ط القاهرة.

7. بحث في الولاية ـ الشهيد الصدر ص ٢٥ ط بيروت.

8. الشيبي : الصلة بين التصوّف والتشيّع : ١ / ١٢٢ ، ط بيروت.

9. الطبري : تفسير الطبري ٣ / ٣١٥ ، ط بيروت.

10. السيوطي : الدر المنثور ٦ / ٣٧٩ ، ط بيروت.

11. السيّد محمّد حسين الطباطبائي مقالات تأسيسيّة في الفكر الإسلامي ص ٢٠٨ تعريب خالد توفيق.

مقتبس من كتاب : تاريخ الشيعة بين المؤرخ والحقيقة / الصفحة : 181 ـ 190