في أي قسم من أقسام التشريع ورد فيها النهي في أفعال الأنبياء

طباعة

في أي قسم من أقسام التشريع ورد فيها النهي في أفعال الأنبياء
 

السؤال : في أي قسم من أقسام التشريع ـ أحكام التشريع ( واجب ، حرمة ، مستحب ، مكروه ، ومباح ) يمكن وضع تصرفات ( أفعال ) الأنبياء التي ورد فيها النهي من قبل الله تعالى .
من قبيل : { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ  } (البقرة/35). (الأعراف/19).لآدم عليه السلام .
{ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا } (هود/37). (المؤمنون/27). لنوح عليه السلام .
{ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ }(القلم/48). للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله،  وغيرها ....

 


الجواب : من سماحة الشيخ حسن الجواهري

 


أقول : إنّ السائل يسأل عن معنى قول الله تعالى لنبيّه الكريم :{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ }(غافر/55).
وعن معنى قول الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ...}(محمّد/19).
وعن معنى غضب الله على نبي الله يونس الذي غضب لله على الاُمّة الكافرة حيث دعا عليهم ، فسجنه الله في بطن الحوت ، وثمّ قال تعالى :{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (الصافات/143 ـ 144).
وعن معنى بكاء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على ذنوبه وبثه شكواه وقوله : « الهي أفكر في علوك فتهون عليّ خطيئتي ، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي ...».
وعن معنى قول الإمام زين العابدين عليه السلام : « ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أبك ، أمّا آن لي أن استحي من ربي ... » .
وعن معنى قول الإمام الكاظم عليه السلام : « عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك » .
وكان يقول : « اللهم إنّي اسألك الرحمة عند الموت والعفو عند الحساب » .
وعن معنى قول الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفه : « ... أنا الذي أسأت ، وأنا الذي أخطأت ، أنا الذي هممت ، أنا الذي جهلت ... أنا الذي اعترفت بنعمتك عليّ وعندي ، وأبوء بذنوبي فاغفرها لي ... ».
الجواب :
إنّ الأعمال التي يقوم بها الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة سلام الله عليهم هي أعمال صالحة حسنة ، ولكن بعض أعمالهم الصالحة والحسنة يوجد أحسن وأصلح منها ، وهم سلام الله عليهم يعدّون فعل الصالح مع ترك الأصلح سيئة وذنباً ، فالشريعة التي اُمرنا بها هي الأمر الصالح . ويوجد روح بهذه الشريعة وهو الأصلح والأحسن الذي لم يمكن أمر الناس به ، وهذا الأصلح والأحسن قد لا يعمله النبي أو الإمام في بعض الاحيان فيعدّ الإمام أو النبي ذلك ذنباً قد ارتكبه فيستغفر الله سبحانه وتعالى  .
وعلى هذا نستفيد قانوناً عاماً ألا وهو : « حسناتُ الأبرار سيئات المقربين » أي إنّ الأبرار من بني البشر الذين يعملون الحسنات تكون هذه الحسنات عند المقربين سيئة ؛ لأنّ الصالح يكون له أصلح ، فإن عمل المعصوم الصالح وترك الأصلح ، فهو سيئة وإن فعل الحسن وترك الأحسن فهو سيئة .
وبهذا اتضح إنّ الأفعال التي نهي عنها الأنبياء إمّا مستحبة أو مباحة يوجد أفضل منها ، ولهذا يتضح إنّ ما أمرنا به الله تعالى هو القانون العام على جميع البشر ، إلا أنّ هناك مضماراً وسباقاً للصالحين يتسابقون في الوصول إلى الله ، فبعض يصل إلى بعض درجاته ، وبعض يصل إلى درجاته العليا ، فمن يصل إلى درجات القرب إلى الله يرى نفسه مقصّراً في عدم الوصول إلى الدرجات العليا من الطاعة والاتصال بالله والفناء فيه .
فالمعصومون حينما يرتقون في صفاء نفوسهم من مرتبة إلى مرتبة عالية يستغفرون ربهم عن المرتبة السابقة الدنيا ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال
: « انه ليهان على قلبي حتى استغفر الله تعالى في اليوم والليلة سبعين مرة » .
وقد قيل في تفسيره : إنّ النبي صلى الله عليه وآله لما كان قلبه أتم القلوب صفاءً ، وأكثرها ضيّاءً ، وكان مع ذلك مبيّناً لشرائع الإسلام ، ومؤسساً لسُنة الدين ، ميسّراً غير معسّر ، فلم يكن له بدّ من النزول إلى بعض الرخص ، والالتفات إلى حضّ النفس البشرية ، فكان إذا تعاطى شيئاً من ذلك أسرعت كدورة ما إلى قلبه لكمال رقته ونورانيته ، فكان صلى الله عليه وآله إذا أحسّ بذلك عدّه على النفس ذنباً فاستغفر منه .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد صدر منه الإذن عن الحرب لبعض المسلمين الضعيفي الإيمان ؛ لأجل جلبهم إلى الإسلام وعدم تنفيرهم من الإسلام ، وهذا هو مصلحة للدين ، ولكن كان هناك مصلحة أكبر وهي امتحان المسلمين الضعيفي الإيمان ، لمعرفة من هو مؤمن حقاً من الكاذب ، وقد كان الرسول قد ترك هذه المصلحة الأكبر فعاتبه الله تعالى ؛ إذ قال له
: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة/43). وهذا العمل من الرسول صلى الله عليه وآله يعدّ ذنباً فيستغفر الله فيه « لا أنّه ذنب كذنوبنا ، ومعصية من معاصينا » .
وكذلك يونس عندما غضب على قومه لله فتركهم لعدم إيمانهم به وبالخالق ؛ فقد غضب الله عليه مع أنّه لم يفعل إلا ما هو حسن حيث غضب لله ، ولكن الله تعالى يقول له : هناك طريق آخر وهو الصبر وتحمل الأذى قد تركه يونس ، فسجنه الله في بطن الحوت ، ثمّ أنجاه ؛ لأنّه كان من المسبّحين.
وهكذا الفرق : إنّ الذنب والاستغفار الذي يحصل من الأنبياء ، أو الأئمة إنّما هو لأجل ترك الأحسن والأصلح والأولى ، لا من باب المعصية التي نقترفها نحن العاصون .
كل هذا واضح لعصمة الأنبياء والأئمة الذّين جعلهم الله مبلغين للرسالة الإسلامية ، فلو كان النبي أو الإمام يخطأ ويعصي لما حصل الغرض من إرسالهم أنبياء وأئمة ، ولما تبعهم الناس في أعمالهم ، ولما كان يمكن لله تعالى أن يقول في كتابه :
{ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء/59).
  ولما تمكن الله سبحانه أن يقول : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }( الأحزاب/33).
فعصمة الأئمة والأنبياء الواضحة بالعقل والنص والسيرة الواضحة والنصوص المتقدمة كلها تؤكد أن استغفار الأئمة والرسول كله من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين .