كون أبي بكر مع النبي صلّى الله عليه وآله في الغار منقبة له لا منقصة

طباعة

السؤال :

قال الله تعالى : ( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ التوبة : 40 ].

ومن خلال الآيات الآنفة الذكر والتي ذكرها الله في سياق عاتب جميع أهل الأرض ما عدا أبي بكر ، كما روي في ذلك أخبار ، وبالنظر إلى هذه الآيات نستخرج بعض الفوائد الجمة التي ذكرت فيها ، والله الهادي ؛ وسوف يتمّ استخراجها عن طريق الاعتراض ، وهي كما يلي :

المسألة الاُولى : زعمت الشيعة أنّ هذه الآيات لم يكن فيها منقبة لأبي بكر الصدّيق ، بل هي على العكس من ذلك تحمل في ثناياها تأنيباً له وزجراً ، مستدلّين في ذلك بأدلّة نقليّة وعقليّة يأتي بيانها تباعاً على ما يأتي :

الوجه الأوّل : وردت روايات من طريق الشيعة تبيّن أنّ النبي صلّى الله عليه وآله لم يختر أبي بكر الصدّيق للهجرة معه وإنّما وقع ذلك له اتّفاقاً ، وأخذه النبيّ صلّى الله عليه وآله معه خوفاً منه ومن مكيدته ودخل وإيّاه الغار ، ولديهم روايات تبيّن ذلك تفصيلاً وإجمالاً.

الوجه الثاني : إنّهم تمسكوا بحجج عقليّة مستنبطة من ظاهر ألفاظ الآيات الآنفة الذكر ، ومنها على سبيل الإيجاز لا الحصر :

أوّلاً : إنّ الصحبة في الآية مبنية على الصحبة اللفظيّة والتي تحصل للمؤمن والكافر وحتّى بعض الحيوانات.

ثانياً : إنّ المعيّة في الآيات ليس فيها فضل لأحد ، واستدلّوا بعموم قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) [ الحديد : 4 ].

ثالثاً : إنّ المعية تنصرف إلى النبي صلّى الله عليه وآله دون أبي بكر ، وخرجت مخرج التعظيم.

رابعاً : إنّ حزن أبي بكر في الآيات دليل على خوفه على نفسه وجبنه.

خامساً : إنّ الأعمال إمّا أن تكون مباحة أو واجبة أو منهي عنها ، والنهي لا يكون إلّا عن فعل محرم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( لَا تَحْزَنْ ).

سادساً : إنّ السكينة في الآيات خاصّة بالنبي صلّى الله عليه وآله دون غيره ، وكذلك التأييد بالجنود التي لم يروها.

سابعاً : إنّ الضمائر لا يصحّ الفصل بينها ، بل إنّ الفصل بينها خروج عن الظاهر.

المسألة الثانية : وفيها نجمل الردّ عليهم وردّ قولهم من وجوه ، وإليك الاعتراضات ، وهي كما يلي :

الإعتراض الأوّل : إن لقيا النبي صلّى الله عليه وآله لأبي بكر ووقوع ذلك اتّفاقاً له ليس فيه اثارة من علم أو فهم ، فلا يصحّ في ذلك أثر ، ولا يؤيده نظر ، فلو أنّ عدوّاً تفرّ منه ورأيته فمن غير المعقول أن تأخذه معك ، بل أنّك تحاول الخلاص منه أو تغيير وجهتك.

وقد ذكرني هذا بقصّة رويت عن ملك المغول : أنّه أتاه أحد الإماميّة وزعم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يأخذ أبي بكر معه إلّا تجنّباً لشرّه ، فقال : إذا فنبيّكم أحمق !

الإعتراض الثاني : فقد ثبت في أحاديث الهجرة أنّ أبي بكر سخّر كلّ امكانيّاته لكي لا يعرف المشركون بمكان النبي صلّى الله عليه وآله ؛ فقد كانت أسماء تأتيهم بالطعام والشراب ، وكان عبدالله بن أبي بكر يأتيهم بخبر قريش ، وعامر بن فهيرة يأتيهم بالغنم يحتلبون ويشربون ويمحي آثارهم عن قريش. وهذه أدلّة ترجع للنقول وليست حجّتنا في الاعتراض عليهم ، بل حجّتنا هو ذات الآيات.

الإعتراض الثالث : إنّ الآية اشتملت على عدّة فوائد ؛ فقد ساقها الله عزّ وجلّ في سياق العتاب لجميع أهل الأرض ، وهذا ظاهر في قوله : ( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ) ، كما روي ذلك عن الشعبي ، وعن علي ، وجمع من الصحابة بأسانيد مختلفة ، في كثير منها نظر.

الإعتراض الرابع : أن معنى قوله : ( أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) دلّ على أنّ الّذين خرجوا معه لم يكونوا من الذين كفروا ؛ لأنّهم لو كانوا كذلك لما صحّ أن يقال : ( أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ). كما أنّ كلمة أخرجه تدلّ على أنّه خرج مجبراً على الخروج ، وعلى هذه القاعدة لم يكن في اللذين خرجوا معه من الذين كفروا.

الإعتراض الخامس : إنّ قول النبي صلّى الله عليه وآله لصاحبه : ( لَا تَحْزَنْ ) قول فيه تفصيل دقيق ، وهو أنّ الحزن من المسائل الجبليّة الغريزيّة التي لا يملك المرء التصرّف فيها. وكذلك ليس الحزن في مقام التكليف ، وحاشا الشارع الحكيم أن ينهى عن شيء خارج عن إرادة المرء وسلطانه ؛ فالحزن سلوك جبلّي يختلف من شخص لآخر ومن مقام لآخر. وهو أنواع ، منه : « حزن على شيء قد وقع وإنتهى ، وحزن على أمر محتمل الوقوع وهو الخوف ». والشرع المطهّر لا ينهى عن الحزن نهي تحريم ؛ لأنّه خارج عن سلطان المرء ، والشرع لا يكلّف ما لا يطاق.

والحزن على ضروب كثيرة ، منه : المحمود ، ومنه المذموم ؛ فالحزن المحمود ، مثل الحزن على فوات الطاعة ، والحزن على فعل المعصية. والحزن المذموم كالحزن على فوات المعصية ، والحزن على فعل الطاعة ، بمعنى أنّ الحزن لا يكون منهياً لذاته بل لآثاره ؛ فإذا حصل أثر محرم على هذا الحزن نهى الشرع عنه ، مثل اللطم عند المصيبة ، والتسخّط عند الحزن.

ولو نظرنا هنا لوجدنا أنّ حزن أبي بكر رضي الله تعالى عنه لم يكن لأجله بل كان لأجل رسول الله ، وحتّى لو كان لأجله لَماَ سمّي ذلك جبناً ؛ لأنّ الإختباء لم يكن جبناً ، فأيضاً الحزن لم يكن كذلك جبناً منه.

ونهي النبي صلّى الله عليه وآله قال له عن الحزن هو من باب التسلية وإذهاب حزنه ، لا من أجل النهي المطلق ، وكأنّه صلى الله عليه وآله جعل كلمة : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) سبب لنهيه عن الحزن.

أنّنا لو سلّمنا جدلاً أنّ الحزن نهي عنه نهي تحريم ؛ فهذا يجعلنا أمام مسألة اُخرى : هل يأثم المنهي عن الذنب على ذنبه قبل أن ينزل النهي ؟

الجواب واضح : إنّ الإنسان لا يؤاخذ إلّا بعد ورود النهي لا قبل ورود النهي ، فمن فعل محظوراً غير عالماً به لم يأثم ؛ لأنّ هذا قبل التشريع والتحريم ، ولو فرضنا أنّ أبي بكر كان منافقاً أو غير معني بالآية لما صحّ النهي مطلقاً ؛ لأنّ النهي لا يتعلّق إلّا بالمخاطب ، والمخاطب أبي بكر الصدّيق ، فلم ينهاه عن الحزن ما دام غير مؤمن أصلاً.

وكذلك فالنهي قد ورد في عدّة آيات للتسلية ، منها قوله تعالى : ( فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ) [ يس : 76 ]. وقوله عزّ وجلّ : ( لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ) [ طه : 46 ].

والتفريق بين الآيتين في الدلالة من المستبعد المحال ، بل قد تتبعت موارد النهي عن الحزن في القرآن فما وجدت أنّ الله نهى عن الحزن إلّا اُناساً صالحين ، فإخراج أبي بكر منهم بدون مرجّح وقرينة صالحة تعنت وخروج عن الحقّ ، والشيعة في هذا الباب دائماً يذكرون الخوف والجبن ، رغم أنّ الحزن والخوف يجتمعان ويفترقان ، فالحزن غالباً يدلّ على انكسار في القلب وميل إلى السكون والدعة ، والخوف يكون فيه خفقان في القلب يجلب على المرء الارتباك ، والآية ذكرت الحزن ولم تذكر الخوف.

الاعتراض السادس : إنّ المعية في الآيات هي معية نصرة ومعية حماية ومعية عصمة ، على خلاف بين أهل السنّة في معناها. ولكن هناك قاعدة ذهبيّة وهي إنّ المعية المخصوصة السبب واللفظ لا تكون إلّا للمدح. ألا ترى في عرفنا عندما يذهب أخاك للقاء عدوّ فتقول له : اذهب وإلقه وأنا معك. المعية هنا بالنصرة والتثبيت ، ولم يكن لنهيك له أدنى أثر ، وخصوص السبب واللفظ يعني أنّ هذه الآية فيه لا تنطبق على غيره من كان في مثل حاله ، أيّ أنّ فيها خصوصين : خصوص لفظ ، وخصوص سبب ، وهذه معية مدح قطعاً.

الاعتراض السابع : إنّ أبي بكر هو الرجل الوحيد من بني آدم بعد الرسل الذي ذكر بمعية الله عزّ وجلّ ؛ وهذا يدلّ على أنّه خير الناس بعد الرسل والأنبياء.

الاعتراض الثامن : إنّ المعية لو كانت خاصّة بالنبي لكان قوله : « إنّ الله معي » أكثر دلالة من قوله : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) ، وكذلك جعل المعية تعليقاً على نهيه عن الحزن يقول له : ( لَا تَحْزَنْ ) ؛ لأن كأنّه الله معنا.

الاعتراض التاسع : اختلف أهل السنّة في ما بينهم في مَن المقصود بقوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) ، فمنهم من جعل الهاء في سكينته تعود على أبي بكر الصدّيق ، وآخرون قالوا بل تعود على رسول الله ، وبعضهم جعلها تعود على رسول الله وتشمل أبي بكر الصدّيق عن طريق الانعكاس ؛ وذلك لأنّ أبي بكر الصدّيق لا يتحمّل نزول السكينة عليه ، ولكلّ قول أدلّته من اللغة.

وأقوى الأدلّة هي : أنّ « الهاء » تعود على أبي بكر في قوله : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ) بدليل القرينة السابقة ، وهي قوله : ( لَا تَحْزَنْ ) ؛ لأنّ من يحزن يكون بحاجة إلى السكينة.

وهذا له نظائر في القرآن ، أقصد التفكيك بين الضمائر لقرينة أخرى ، كقوله تعالى : ( لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) [ الفتح : 9 ]. فالهاء في قوله : ( وَتُسَبِّحُوهُ ) ترجع إلى الذات الإلهيّة لدلالة العقل ، كيف وإذا كانت هناك قرينة بيّنة كهذه الآيات ؟!

وعلى أيّ حال فإنّ كلّ حرف يرد إلى الأليق به ، والسكينة إنّما يحتاج إليها المنزعج ، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وآله منزعجاً ؛ فأمّا التأييد بالملائكة فهذا لم يكن إلّا للنبي صلّى الله عليه وآله.

وأمّا على قول من قال بأنّ الهاء تعود على الإثنين فقد قدر لفظ الآية : « فأنزل الله سكينته عليهما » ، فاكتفى بإعادة الذكر لأحدهما من إعادته عليهما ؛ كقوله تعالى : ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ) [ التوبة : 62 ].

الجواب :

في آية الغار ودلالتها على فضيلة ومنقبة لأبي بكر بحوث منذ صدر الإسلام ؛ وقد كتب العلماء من الفريقين في هذا المسألة رسائل كثيرة ، وما ذكر هنا طرف من تلك البحوث المطروحة من الجانبين.

ولعلّ من الأفضل الرجوع إلى مناظرة الخليفة المأمون مع علماء عصره بشأن هذه الآية ومدلولها ؛ وذلك لأنّ المأمون « أمير المؤمنين » عند القوم ، والراوي للمناظرة هو العالم السنّي الأندلسي « ابن عبد ربّه » رواها في كتابه المشهور « العقد الفريد » ، وقد أذعن العلماء الحاضرون في المجلس ـ وهم أئمّة القوم ـ بما قاله الخليفة ... هذا أوّلاً. (1)

ثانياً : قول الإماميّة بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أخذ أبابكر معه لئلّا يطّلع المشركون عن طريقه على مكان النبي ، يدعمه ما جاء في صحاح القوم وغيرها من كتبهم من وصف أبي بكر بأنّه : « كان رجلاً رقيق القلب » و « ضعيف الحال » ... ، أيّ في الحقيقة « كان رجلاً جباناً » ، ومن كان هذا حاله فإنّه يخشى أن يكشف عن السرّ بأقلّ تهديد وأخفّ إكراه ... ، فلا يبقى لاصطحاب النبي إيّاه دلالة على فضيلة له إن لم يكن العكس. (2)

وثالثاً : ولو أصرّ أحد على دلالة الآية على شأن لأبي بكر ـ وبغضّ النظر عن الإيرادات والانتقادات ـ ، فلا ريب في أنّه قد استولى عليه الخوف والحزن هناك ، لكنّ عليّاً الشجاع المقدام والبطل الهمام نزل في مبيته على فراش أخيه ما لم ينزل في حقّ غيره ، ووصف بأنّه قد باع نفسه لله ولحماية الإسلام وحفظ رسول الله ، وكم فرق بين الأمرين يا أهل العلم والانصاف.

الهوامش

1. العقد الفريد « للقرطبي » / المجلّد : 5 / الصفحة : 92 ـ 102 / الناشر : دار الكتاب العربي ـ بيروت.

2. راجع : صحيح البخاري / المجلّد : 1 / الصفحة : 268 ـ 279 / الناشر : عالم الكتب ـ بيروت / الطبعة : 5.