هل الإجتهاد مختصّ بزمن الغيبة الكبرى أم أنّه جائز حتّى مع حضور الإمام عليه‌ السلام ؟

طباعة

السؤال :

هل الإجتهاد مختصّ بزمن الغيبة الكبرى أم أنّه جائز حتّى مع حضور الإمام عليه‌ السلام ؟

وبعبارة اُخرى : أليس الإجتهاد مختصّاً بزمن الغَيبة ؟ فكيف نجمع بين هذا الأمر وبين ما ذكرتموه في هذا الدرس من تربية الأئمّة الطاهرين عليهم‌ السلام للمجتهدين ، ووضع قواعد للإجتهاد ، وأمر الشيعة بالرجوع إليهم ، ممّا يدلّ بالضرورة على فتح باب الإجتهاد منذ العصور الاُولى لظهور الإسلام ، ويدلّ على جواز الإجتهاد والتقليد حتّى في عهد الإمام عليه‌ السلام ؟!

الجواب :

أظنّ أنّ هذا السؤال نابع من المقارنة الطبيعيّة ، والإقتران التلقائي الذي ارتكز في أذهان الشيعة الإماميّة بين الإجتهاد وعصر الغَيبة ، حيث عُدّ المجتهد بديلاً للإمام عليه‌ السلام ، أيّ قائماً مقامه الشريف على نحو الجزئيّة وفي حدود بيان الأحكام فقط ، أو على نحو الإطلاق كما هو عند القائلين بولاية الفقيه المطلقة ، أو على نحو الولاية المتوسطة ، وهو كونها أمراً بين الأمرين السابقين ، كما عُدّ الإجتهاد ـ وهو استنباط الحكم الشرعي الظاهري ـ بديلاً عن الحكم الواقعي ، وحجّةً على المجتهد ومقلّديه قائماً مقام حكم المعصوم عليه‌ السلام في كونه منجّزاً ومعذِّراً ، وقد أصبح المألوف في أذهاننا ، والمرتكز في نفوسنا ، ارتباط هذه الحقيقة بزمن الغَيبة ارتباطاً وثيقاً كاد أن ينفي وجود أيّ وجهٍ لجواز الإجتهاد في زمن حضور الإمام عليه‌ السلام ، وهو أمر ليس بصحيح ؛ ذلك أنّ الإسلام حاله حال سائر الأديان السماويّة لا ينمو إلّا في ظروف طبيعيّة بعيداً عن المعجزات وخوارق الطبيعة إلّا في النادر من الحالات ، حيث تكون المعجزة إثباتاً للحقّ ، وإتماماً للحجّة ، أو إبقاء لصلب الدين ، وحفظاً لبضة الإسلام ، إذا توقّف الإبقاء والحفظ للبيضة والأساس على عمليّة الإعجاز ولم يتحقّقا بالأسباب الطبيعة.

بعد هذه المقدّمة أقول : ومن الطبيعي المسلّم أنّ الإسلام حتّى في عهد المعصومين عليهم‌ السلام لم يقتصر على مكّة والمدينة ، ولم ينحصر وجود المسلمين في المنطقة أو المدينة التي كان يقيم فيها الإمام عليه‌ السلام ويقطنها ، بل كانوا ينتشرون في البلاد القريبة والبعيدة ، وفي أقصى البلاد وأدناها ، وكانوا يعلمون إجمالاً بوجود أحكام إلٰهيّة مطلوبة منهم في كلّ واقعة كلّية أو جزئيّة ، وصغيرة أو كبيرة ، فلا يخلو فعل من أفعالهم من حكم من الأحكام الخمسة ، إمّا يكون واجباً أو حراماً أو مستحبّاً أو مكروهاً أو مباحاً ، علاوة على علمهم بوجود عبادات وأفعال وموضوعات لها أحكام خاصّة بها لا تخلوا من أحد الأحكام الخمسة.

إذن فبُعد المسافة التي كانت بين المسلمين وبين إمامهم ، وصعوبة الاتّصال بينهم وبينه ، ولبدائيّة طرق وأساليب المواصلات ، بالإضافة إلى علم المسلمين إجمالاً بوجود أحكام شرعيّة وأعمال عباديّة خاصّة ، وحتّى معاملاتيّة ، لها أحكامها وموازينها الشرعيّة ، حتّمت على المسلمين التماس وتحديد الطرق والوسائل الكفيلة ببيان هذه الأحكام وسهولة التوصّل إليها من قِبل الشارع الحكيم ، وحتّمت على إمام المسلمين أن يبادر إلى تلبية هذه الحاجة وسدّها تارة ، وإلى الاستجابة لالتماسهم وطلبهم في ذلك تارة اُخرى ، وكانت الوسيلة الفضلى لسدّ هذه الحاجة وتلبية هذه الرغبة هي التمسّك بالسيرة العقلائيّة من لزوم رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والعلماء ، وهذا الأمر لا يختصّ بزمن دون زمن ـ أعني لا يختصّ بزمن الغَيبة الكبرى ـ ؛ لأنّ الحاجة إلى معرفة الأحكام الشرعيّة موجودة ومورد للإبتلاء في كلّ زمان وكلّ مكان ؛ إذ وجود الإمام عليه‌ السلام في المدينة المنوّرة أو في الكوفة مثلاً ، لا يمنع من وجود أحكام لأهل المدن والبلاد الاُخرى ، ولا يُسقط الأحكام عنهم ، وأمّا عجزهم عن الوصول إلى المعصوم عليه‌ السلام لتلقّي الأحكام منه مباشرة ، أو ممّن سمعها منه ؛ للظروف الطبيعيّة أو الظروف غير الطبيعيّة المصطنعة ، بل قد تفوت المصلحة من الحكم في حال التأخير للوصول إلى المعصوم عليه‌ السلام ، كلّ ذلك لم يُسقط التكليف عن المؤمنين ودفعهم إلى التماس طرق للخروج من هذا المأزق ، كما حمل المعصوم عليه‌ السلام على تربية جيل من المجتهدين يقومون بحمل أعباء استنباط الحكم الشرعي وبيانه للناس ، وسدّ هذه الحاجة لهم ، فلا اختصاص للإجتهاد بزمن الغيبة الكبرى ، وإن كان فيه أوسع دائرة وأشدّ ابتلاءً.

ولهذا رُوي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌ السلام قوله : « مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله ، الاُمناء على حلاله وحرامه » (1).

وقال الإمام الصادق عليه‌ السلام : « اُنظروا إلى مَنْ كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حاكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمٍ فلم يُقبلْ به فإنّه بحكم الله استخفّ ، وعلينا ردَّ ، والرادّ علينا كافرٌ ، رادٌ على الله ، وهو على حدّ مَنْ أشرك بالله » (2). وفي رواية اُخرى : « الرادّ عليهم كالرادّ علينا ، والرادّ علينا كافر » (3).

وقال عليه الصّلاة والسّلام أيضاً : « ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها ، والعمل لهم فرضٌ من الله ، وطاعتهم واجبة ، ولا يحلّ لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلّف عن أمرهم » (4).

وكما قال الإمام الحسن العسكري عليه‌ السلام في الخبر المروي عنه : « أمّا من كان الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه » (5).

وهكذا جاء في الخبر المروي عن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله » (6).

وعن الإمام الصادق عليه‌ السلام : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ ، وعلينا ردّ ، وهو رادٌّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله ، فإذا اختلفا فالحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » (7).

والحمد لله ربّ العالمين

الهوامش

1. مستدرك الشيعة ١٧ : ٢٠. تحف العقول : ٢٣٨. مستدرك الوسائل ١٧ : ٣١٦ ، ب ١١. بلغة الفقيه ٣ : ٢٣٠. بحار الأنوار ٩٧ : ٨٠.

2. السرائر ٣ : ٥٤٠. مختلف الشيعة ٤ : ٤٦٤.

3. وسائل الشيعة ١ : ٢٣. الاحتجاج ٢ : ١٠٦. بحار الأنوار ٢ : ٢٢١.

4. كشف اللثام ٢ : ٣٢١. مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٤٠ و ٣١٢.

5. عوائد الأيام ـ النراقي : ١٩١. حصر الاجتهاد ـ الطهراني : ٥١.

6. عوائد الأيام : ١٨٧. مستند الشيعة ١٠ : ٤١٩. وسائل الشيعة ١٢ : ٨٧.

7. رسائل الكركي ١ : ١٤٣. جامع المدارك ٥ : ٤١٢. تحرير الأحكام ٢ : ١٨١ و ٢٠٨. مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٩. الكافي ١ : ٦٨. تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ و ١٢٣.

مقتبس من كتاب : [ كيف نفهم الرسالة العمليّة ] / الجزء : 2 / الصفحة : 23 ـ 28