كيف نال النبي صلّى الله عليه وآله مقاماته قبل أن يعمل ؟

طباعة

السؤال :

1. إنّكم تقولون : إنّ النبي محمّداً صلّى الله عليه وآله كان نبيّاً منذ صغره ، وتقدمون النبي عيسى عليه السلام كمثال على صحّة ذلك ، حيث قال عن نفسه حين ولادته ، كما أخبر الله تعالى عنه : ( إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ..

فكيف استحقّ هذا المقام ، وهو بعد لم يعمل أيّ عمل ؟!

2. كيف صار هذا من الأخيار ، بل ومن الأصفياء والأولياء ، والأنبياء ، وروحه نور من الأنوار ؟! وصار ذاك من الأشرار وروحه ظلمات ، تمرد ولؤم وعناد ، وخباثة وفساد ؟!

الجواب :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد ..

أمّا بالنسبة للسؤال الأوّل ، فنقول :

إنّ الله سبحانه حينما أفاض الوجود على تلك الأرواح النورانيّة ، أعني أرواح الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، فإنّها بمجرّد أن وجدت ألهمها فجورها وتقواها ، فبدأت تسعى نحو تحصيل فيوضات أسمى ، وأرقى ، من خلال معرفتها بخالقها ، وخضوعها لإرادته ، والتزام تأدية فروض الشكر له ..

فهي إذن قد وجدت عابدة له سبحانه ، لا تفتر عن التسبيح ، والتحميد ، والتمجيد ، وهذا يدعو إلى أن تشملها عناياته تعالى ، وأن يعود عليها بمنحه وعطاياه ، وبألطافه وهداياه ..

وهذا يعني : أنّ استحقاقها لتلك العنايات كان قد بدأ منذ أن خلقها الله تعالى .. فإنّها حين وجدت ، إنّما وجدت على صفة الطهر ، والخلوص لله سبحانه ، وكان نفس وجودها وجود انقياد ، وخضوع ، وتسليم ، وتعظيم ، وتكريم ، وتسبيح ، وعبادة ، وعبوديّة له تعالى. فبذلك استحقّت منازل الكرامة منذ تلك اللحظة ..

أمّا الوجود الإبليسي ، فقد وجد متمرّداً على الله منذ اللحظة الأولى لوجوده ، فاستحقّ الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى ، منذ تلك اللحظة بالذات أيضاً.

ولتوضيح هذه الإجابة ، ثمّ الإجابة على السؤال الثاني ، نقول :

إنّ الله سبحانه ، قد أوجد هذا الكون ، وحدّد له مسيرته وفق نظام ، وقرّر أن تحكمه ، وتستبدّ به ، وتهيمن على مختلف حالاته وشؤونه سنن إلهيّة ، وضوابط واقعيّة ، تعطي لمن يريد أن يستفيد من كوامن هذا الكون القدرة على التخطيط ، وتجعل سعيه منتظماً وواعياً ، وبعيداً عن العفويّة ، والارتجال ، والعشوائيّة.

ثمّ إنّ من الواضح : أنّ في هذا الكون حقائق ، وأنواعاً ومستويات مختلفة ومتفاوتة في اقتضاءاتها ، وفي تأثيراتها : المعنويّة والماديّة ..

بل إن كل ذرّة من ذرّاته تميل إلى ما يسانخ واقعها وتتطلب وتسعى للتمازج ، أو الاندماج فيه وذلك معناه : أن لكلّ جسد وطينة ، استحقاقه الاستعدادي لجوهر مجرّد بخصوصه ، يدبّره ، ويتعلّق به ، ويتصرّف فيه ، ويهيمن عليه ..

ومن الواضح أيضاً : أنّ لهذا الإنسان في امتداد مسيره إلى الله ، تدرج ، وانتقال من حال إلى حال ، في ضمن نشآت لها نظم وأحكام ، وله فيها حالات ودرجات.

فإذا نظرنا ـ على سبيل المثال ـ إلى نشأته في الحياة الدنيا فإنّه يتدرّج فيها من النطفة إلى العلقة إلى المضغة .. وهكذا .. إلى أن ينتهي الأمر بولادته من أبويه ، ثمّ تحوّله من حال إلى حال إلى أن ينتهي إلى الحياة البرزخيّة ، ثمّ إلى الحياة الآخرة ، ثمّ إنّه له قبل ذلك كلّه نشآت أيضاً وتحوّلات ، سنتحدّث عنها.

ونشأته في هذه الحياة الدنيا ، إنّما تبدأ من حين بداية ظهور التمايز بين الأفراد في الأحوال والأعمال ، مقترنة بالزمان ، وموزّعة على قطعاته .. وفيها يكون التكليف والطلب ، والأمر والنهي .. وتكون فيها الطاعات والمعاصي ..

وأمّا بالنسبة للنشأة التي تسبق ذلك كلّه .. فهي تلك التي تكون في عالم الملكوت ، وهي تعني حضور حقائق الأشياء بين يدي الله تعالى ، حضوراً مختاراً مدركاًً لألوهيّته والحاجة إليه سبحانه ، وهو حضور لديه تعالى حيث خزائن الحقائق ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (1) .. إنّه واقعي فعلي مجرّد عن الزمان.

قال العلامة الطباطبائي : فالإنسان في أيّ منزل من منازل الإنسانيّة نزل .. يشاهد من نفسه أنّ له ربّاً يملكه ويدبّره. وكيف لا يشاهد ربّه وهو يشاهد حاجته الذاتيّة ، وكيف يتصوّر وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه ، وهذه المعرفة فطريّة تنطبع في النفس انطباعاً أوليّاً ، ثمّ يتفرّع عليها الفروع (2) ..

ففي عالم الملكوت ، تدرك حقيقة الألوهيّة ، ولوازمها وما يرتبط بها ، وحين الخروج من هذا العالم إلى عالم الكينونة ، فإنّ الله سبحانه يفيض على تلك الحقائق من خزائنه ، وفقاً لاقتضاء ذواتها ، في النشآت التالية ، وفق السنن التي أراد الله لها أن تحكم حركة الموجودات فإذا أخذنا الحقيقة الإنسانيّة الخارجة من عالم الملكوت كنموذج ، فإنّنا نجد أن الروايات تقول : إن عالم الظلال ـ إن صحّ التعبير ـ هو الذي يحتضن تلك الحقائق الوافدة ، ويؤخذ ميثاق العبوديّة ، والطاعة منها. إذ يصبحون مطالبين بالخضوع والخشوع والطاعة لله ، وطاعة أنبيائه وأوليائه ، وغير ذلك ، فمنهم من يسرع في الإجابة ، ومنهم من يبطئ بها .. ومنهم من يأباها ويمتنع عنها ، كلّ ذلك باختيار وبإرادة منهم تتناسب مع واقع وجودهم ..

وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقة ، وأن الله يأخذ في عالم الذر ميثاق الخلائق ، ( .. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (3) ..

فالإشهاد دليل الإدراك ، والاختيار ، كما قلنا ..

وقد دلّت الأحاديث الشريفة أيضاً على أن الله تعالى قد ميّز في عالم الذرّ ، الرسل ، والأنبياء ، والأوصياء ، وأمر الخلق بطاعتهم ، فأقرّوا بذلك في الميثاق (4) ..

وفي بعض الروايات ، عن أبي عبد الله عليه السلام : أنّ الله أخذ على العباد ميثاقهم ، وهم أظلّة قبل الميلاد.

وثمة روايات أخرى تشير إلى عالم الظلال أيضاً ، فراجع (5).

وتحدّثت روايات أخرى أيضاً ، عن أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قد قال للإمام علي عليه السلام :

أنت الذي احتجّ الله بك في ابتداء الخلق ، حيث أقامهم أشباحاً ، فقال لهم : ألست بربّكم ؟

قالوا : بلى.

قال : ومحمّد رسولي ؟

قالوا : بلى.

قال : وعلي أمير المؤمنين ؟ (6) ..

وهناك رواية صحيحة السند ، رواها زرارة ، عن الإمام الباقر عليه السلام ، تفيد أنّ الله سبحانه كلّفهم في عالم الذرّ بدخول النار ، فدخلها أصحاب اليمين ، وأبى ذلك أصحاب الشمال (7).

والظاهر : أنّ المراد بهذه الروايات هو أن حضور الحقائق لدى العزة الإلهيّة ، فعل مجرّد عن الزمان .. فهو تعالى يبعثها في ظلال أو أشباح تناسب ما تنتهي إليه حين تتنزل في نشأتها الزمانيّة المختلفة فيكلّفها بالطاعة لأنبيائه ، وأوليائه ، وأصفيائه ، ويكلّفها بدخول النار ونحو ذلك.

هذا .. وقد ورد في دعاء الندبة :

اللهمّ لك الحمد على ما جرى فيه قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك ، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم ، الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت لهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة ، وزخرفها وزبرجها ، فشرطوا لك ذلك ، وعلمت منهم الوفاء به ، فقبلتهم ، وقربتهم ، وقدمت لهم الذكر العلي ، والثناء الجلي ، وأهبطت عليهم ملائكتك ، وكرمتهم بوحيك ، ورفدتهم بعلمك ، وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك ..

وعلى كلّ حال ، فإن كلّ ذلك يدلّ على أن لدى المخلوقات في تلك النشآت ، إدراكاً واختياراً يتناسب مع طبيعة تلك النشآت ، وسنذكر بعض الآيات التي تثبت ذلك بصورة قاطعة ..

وحين لا بد من اقتران تلك الحقائق بالزمان وإفراغها في وعائه ، في عالم الكينونة ، وفق سنة التدرج في الوجود ، حيث تلحقها الفيوضات الإلهيّة بصورة تتناسب مع ما هي عليه من هذا الاقتران .. فإن هذه النشآت تأتي متوافقة مع ما كان في عالم الذر ، أو فقل : مع ما كان حين أخذ الميثاق ، حين كانت الظلال ، أو الأشباح حسبما تقدم.

وطبيعي أن يأتي ما يختاره هذا الكائن هنا متوافقاً مع ما كان منه هناك ، ويصبح هذا الواقع انعكاساً لتلك الصورة التي ظهر بها في تلك النشآت ..

فيستمرّ المطيع الخاضع لله تعالى على خطّ الخضوع والطاعة له تعالى ، ويواصل العاصي والمتمرّد تمرّده وعصيانه .. ويبقى المذبذب المتردد يعيش حالة التذبذب والتمرّد ، فيطيع تارة ويعصي أخرى ..

والله سبحانه الوهّاب الكريم ، يواصل فيضه على هؤلاء وهؤلاء ، بحسب ما تتطلبه ذواتهم ، وتميل إليه طبائعهم ، وتنشده حقائقهم. وهو سبحانه الذي ( أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (8) .. ( كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) (9) ..

ولكن الله سبحانه ، وهو الرؤوف الرحيم ، والكريم الحكيم .. لم يزل ولا يزال منذ أن بدأ خلق الإنسان وفي كلّ نشآته ، وجميع تحوّلاته .. يدعو من يعرف أنّه يميل إلى سلوك طريق الشرّ ، إلى الابتعاد عن ذلك الطريق ، مع مزيد من التحذير منه ، والترغيب بطريق الخير .. كما أنّه لم يزل يرغِّب سالك طريق الخير ، بالثبات عليه والالتزام به ويحذره من التخلّي عنه ، كما أنّه تعالى قد هيأ لهم كلّ أسباب الهداية والصلاح ، ولكن بصورة تحفظ لهم اختيارهم ، وحريّتهم ، ( وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) (10) حيث إنّه لم يزل يساعدهم في جميع النشآت بالأمر والنهي .. وبالفعل ، وباللطف بهم والتوفيق لهم ـ يساعدهم ـ على الإنابة إليه ، والتخلّص من الكدورات التي عرضت على فطرتهم بسوء اختيارهم ويفتح لهم أبواب رحمته لجلاء تلك النفوس ممّا علق بها ، وإعادة الرونق والصفاء والطهر لها ..

وقد فتح الله تعالى هذا الباب وأبقاه مفتوحاً ، والمجال مفسوحاً منذ النشأة الأولى ، وإلى أن تقوم الساعة ..

ويبقى القرار بيد من له الاختيار ، وهو هذا الكائن بالذات ، وهذا ما يفسّر لنا ما نشاهده من أن ثمة من يعيش حالة الطهر والإيمان طيلة حياته ، ثمّ هو يكفر في آخر يوم منها .. وقد نجد من يعيش حالة الكفر والعناد عمره كلّه ، ثمّ ينتقل إلى الإيمان في اللحظات الأخيرة منه ، ويكون له بذلك الفوز والنجاة ..

ولكي لا يبقى أيّ غموض ، فيما نرمي إليه ، في حديثنا عن تعاقب النشآت المختلفة مع امتلاك عنصر الإدراك في جميعها ، نقدم مثالاً تقريبيّاً للقارئ الكريم ، وهو : أن الانتقال من نشأة إلى نشأة ، ومن حال إلى حال لا بدّ أن يتمّ وفق نظم وسنن إلهيّة ، فقطرة الماء في البحر تسعى للتمازج مع تلك الروح الملائكيّة الطاهرة، ولكن لا بدّ لقطرة الماء ـ مثلاً ـ من أن يحملها السحاب ، لتصبح مطراً ، يتلقاه مؤمن ، فيتوضّأ به ، فتكون تلك القطرة بعض ذلك الوضوء ، فيكون منها ملك يستغفر لذلك المؤمن ..

وذرّة التراب تختزن في داخلها مبدأ تكوين الأبدان التي تحلّ فيها الأرواح الملائمة لها ، تحتاج إلى الماء ليثير الأرض ، ولينبت الزرع ، فتكون في جملة عناصره ، ثمّ يكون طعاماً لولي من أولياء الله ، فيصبح جزءاً من كيانه ، دماً ، ثمّ نطفة ، تستقرّ تلك النطفة في رحم يحتضنها ، لتمرّ في مراحل نشوء مختلفة ، لتصبح قادرة على استقبال تلك الروح الملائمة لها. وتتنامى معها في ظلّ التربية والرعاية الإلهيّة ، وتكون الولادة ، فالنشأة ، واكتساب الملكات ، والتحلي بالميزات التي تجعل هذا الكائن من الأبرار والأخيار ، وربّما من الأصفياء والأنبياء الأطهار.

وخلاصة القول :

إن عالم الملكوت يعني حضور الحقائق كلّها لدى مقام العزّة الإلهيّة .. غير مضافة إلى الزمان ، إذ إن الزمان إنّما يقاس بالنسبة إلينا ، في خارج دائرة ذلك العالم ، وذلك بسبب محدوديّتنا به ..

وفي هذا العالم وفي جميع العوالم التالية ، تدرك تلك الحقائق ربوبيّته سبحانه ، وحاجتها إليه ، وما يرتبط بذلك من خصوصيّات ولوازم ، وهي بكامل اختيارها أيضاً ..

ويأتي بعد عالم الملكوت ، العالم الذي أخذ الله فيه الميثاق على الخلائق فيما يرتبط بالاعتراف بالأنبياء ، والأولياء ، وطاعتهم ، وغير ذلك ..

وقد أشارت بعض الروايات إلى أن هذا هو عالم الظلال أو الأشباح. وفيه كان أمر ونهي وتكليف ومسؤوليّة ..

ثمّ هناك عالم النشوء للأرواح ، ثمّ تلاقيها وتمازجها مع الأبدان ، حيث تشدّ إلى ما يلائمها ويسانخها منها ، وتطلب منه تعالى أن يفيض بحسب استعدادات مناشئها .. وهي مدركة لما تطلب ، ومختارة له .. فيعطيها الله سبحانه وفق ما أودعه الله في هذا الوجود من سنن ..

ثمّ تتابع مسيرتها باختيارها أيضاً ، ويبقى لطف الله سبحانه شاملاً لها من حيث أنّه يبقي أمامها الفرصة متاحة لاختيار طريق الخير والفلاح والصلاح .. ويهيّء لها جميع ما يساعدها على اختيار هذا الطريق ، من أوامر وزواجر ، ومحفزات ومرغبات ، ودوافع للهدى ، ومن منفرات وروادع عن الشرّ والردى ..

وكلّ ذرّة في هذا الوجود لها سعيها وانشدادها لما يلائمها ، وقد روي : أنّ أبدان المؤمنين من طينة الجنّة (11) .. ومن نور الله عزّ وجلّ (12) .. فهي إذن أبدان طاهرة وصافية ، لا بدّ أن تتطلب باستحقاقها الاستعدادي جوهراً على درجة من الطهر والصفاء ، فيدبّرها ، ويهيمن عليها ، ولا يستجيب لكلّ الإغراءات التي تُلْحِقُ بذلك الجسد تلوّثات من شأنها إحداث التشويه والكدورة في تلك الروح ..

وإذا كانت الطينة غاية في الرداءة ، فإنّها سوف تتطلب وتسعى إلى ما يلائمها من أرواح رديئة : شيطانيّة ، وفرعونيّة ، وما إلى ذلك .. فتجتذبها إليها ، لتتعلّق بها ، وتهيمن عليها .. ثمّ هي تختار من موقع الإدراك ، الممانعة والرفض لكلّ دواعي الخير ، ومحاولة خنقها وقهرها ، وإبعادها عن دائرة التأثير في الموقف والحركة والسلوك ، رغم توفّر القدرة على الاستجابة لها ، والتفاعل معها ، ورغم الدعوة الإلهيّة ، ورغم كلّ ألطافه ، وكلّ المناخات المساعدة على ذلك والتي هيّأها الله سبحانه من خلال التوفيقات ، ومن خلال الأوامر والزواجر ، وغير ذلك حسبما أوضحناه.

فاتّضح ممّا تقدّم : أنّ أرواح الأبرار من أوّل ما خلقها الله ، هي موجودات كريمة ، تتطلب الخير ، والهدى وتسعى إليه ، وقد لبَّت بمجرّد أن شعرت بوجودها ، وبوجود خالقها ، نداء ربّها وأطاعت ، وخشعت له ، فلا غرو أن يوفقها الله لما طلبته ، وأن ينيلها ما سعت إليه .. لتستحق بذلك منازل الكرامة والاصطفاء ..

وقد ورد في بعض الأخبار : أنّها أشدّ اتّصالاً بالله سبحانه من شعاع الشمس بها ..

فهي لم تزل في غمرات الرحمات الإلهيّة ، حيث يفيض الله عليها آناً فآناً ، الهدايات والبركات ، والعلم ، والحكمة ، والكمالات ..

أمّا أرواح الأشرار ، فإنّها موجودات شيطانيّة رديئة مظلمة ، لا تنسجم مع عالم الأنوار ، بل هي تستحقّ الطرد ، والإبعاد ، من أوّل ما وجدت ، لأنّها بمجرّد أن شعرت بذاتها ، تمرّدت وطغت ، ورفضت الخضوع ، ونأت بنفسها عن عبادة خالقها ..

والخلاصة :

أن كلّ ما في هذا الوجود ، من هياكل وأبدان ، منذ أن خلقها الله تعالى ، له أدراك واختيار ، للطاعة وللمعصية .. ولذلك فإنّها وهي تمرّ بمراحل الخلق والتكوين ، إنّما تكون تعلّقاتها بالجواهر المجرّدة الملائمة لها ، وتنشد وتسعى إليها ، وإن كانت لا تستطيع التمازج معها إلّا بعد صيرورتها نطفة ، تستقرّ في الأرحام ، وتتدرج في مراحل التكوين ، إلى أن ينشئها الله خلقاً آخر ببعث الروح فيها ..

وممّا يدلّ على حقيقة : أن كلّ ما في الوجود له طاعة ، وانقياد ، وتمرّد ، وابتعاد ، هو قوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (13) ..

وقد ذكر الله في كتابه الكريم تسبيح الجبال ، والطير ، والرعد ، والسماوات والأرض ، ومن فيهنّ : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (14) ..

وذكر أيضاً : سجود النجم ، والشجر ، والشمس ، والقمر ، والجبال ، والدوابّ ، ومن في السماوات والأرض (15) ..

وذكر أيضاً : أنّ الجبال يعتريها الخشوع والخشية ، وتصاب بالتصدع بسبب تلك الخشية (16) ..

ثمّ هو تعالى قد ذكر إشفاق الجبال ، والسماوات والأرض من حمل الأمانة (17) ..

غير أنّه برغم ذلك كلّه ، فإن هذا الطهر والخلوص والصفاء في النفس والروح ، وفي الأبدان أيضاً ، لا يجعل الإنسان مجبراً على الطاعات ، ولا عاجزاً عن ارتكاب المعاصي ..

ولذلك تجد أن الكافر قد يؤمن ، وأن المؤمن قد يكفر ، حسبما أوضحناه.

ومن جهة أخرى ، فإن من الممكن أن تكون النطفة جزءاً من حقيقة الحامل لها ، ومسانخة له في الطهارات المادية والمعنويّة ، فيكون طهراً طاهراً مطهراً ، من طهر طاهر مطهر .. وفق ما أشير إليه في الزيارة : أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة ، والأرحام المطهّرة .. ومن الممكن أن يكون الحامل لها ، مجرّد مستودع لنطفة خبيثة ، كما كان الحال بالنسبة لابن النبي نوح عليه السلام ، وبعض أولاد الأئمّة ، مثل جعفر ابن الإمام الهادي عليه السلام ، وغيره ..

كما أن ممّا لا شكّ فيه : أن تعلّقات الأرواح بالأبدان تجعل من الاتّصال بالأجساد سبباً في الاتّصال بالروح المهيمنة على الجسد والمدبّرة له .. فما يؤذيه يؤذيها وما يؤذيها يؤذيه ..

وما يصلحه يصلحها وكذلك العكس ولذلك نجد : أنّ ارتكاب ، أو فعل بعض المعاصي ، أو الخيرات يترك آثاراً على النطفة أو الجنين ، تتناسب مع ذلك الذي صدر منه ، أو حدث له ..

وربّما يكون في ذلك بعض الإعداد إلى اختيار هذا الطريق أو ذاك بمحض إرادته ، ولكنّنا قد قلنا : إنّه برغم ذلك كلّه ، فإنّ الله تعالى قد أبقى الفرصة متاحة أمام أهل الزيغ ، ليصلحوا شأنهم ، وليبادروا إلى تزكية نفوسهم ، وتصفية أرواحهم ..

فمن قصَّر في ذلك ، فيكون قد قصّر في حقّ نفسه : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (18) ..

والحمد لله رب العالمين ..

الهوامش

1. سورة الحجر ، الآية 21.

2. تفسير الميزان ج 8 ص 307.

3. سورة الأعراف ، الآية 172.

4. راجع : تفسير الميزان ج 8 ص 324 عن العيّاشي وخصائص السيّد الرضي.

5. البحار ج 65 ص 206 وراجع : ج 58 ص 139 و 140 ، وراجع : ج 64 ص 98 و 99 عن بصائر الدرجات ص 80 وعن علل الشرائع ج 2 ص 80 وراجع الكافي ج 2 ص 10 وتفسير الميزان ج 9 ص 326.

6. البحار ج 64 ص 127 وفي هامشه عن بشارة المصطفى ص 144.

7. راجع تفسير الميزان ج 8 ص 325.

8. سورة طه ، الآية 50.

9. سورة الإسراء ، الآية 20.

10. سورة غافر ، الآية 31.

11. راجع البحار ج 58 ص 147.

12. راجع البحار ج 58 ص 145.

13. سورة فصلت ، الآية 11.

14. ورد ذلك في سورة ص ، الآيتان 18 و 19 وسورة الرعد ، الآية 13 وسورة الإسراء ، الآية 5 وسورة النور ، الآية 41 وسورة الأنبياء ، الآية 41 و 81 و 82.

15. سورة الحج ، الآية 18 وسورة الرحمن ، الآية 6.

16. سورة الحشر ، الآية 21.

17. سورة الأحزاب ، الآية 72.

18. سورة الزلزلة ، الآيتان 7 / 8.