شهادة الإمام الجواد عليه السلام وما قيل فيه

طباعة

شهادته عليه السلام وما قيل فيه

استدعاء المعتصم :

برحيل المأمون في ١٣ رجب سنة « ٢١٨ ه‍ » بويع لأخيه أبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون في شعبان من نفس ذلك العام. ويبدو أن الأشهر الأخيرة من تلك السنة كانت حافلة بحدث البيعة للخليفة الجديد ، حيث إنّه لم يكن يومها في بغداد عاصمة الخلافة ، إذ كان خرج مع جيش المأمون لحرب الروم وكان قائداً لأحد فصائل الجيش.

ولما رجع إلىٰ بغداد في رمضان شغلته الأشهر الثلاثة الأخيرة في ترتيب القواد والوزراء وعمّال الولايات ، وبعض الثورات والتحركات المضادة. وما أن استتب له أمر الملك وانقادت البلاد له شرقاً وغرباً ، حتىٰ أخذ يتناهىٰ إلىٰ سمعه بروز نجم الإمام الجواد عليه‌السلام ، واستقطابه لجماهير الاُمّة ، وأخذه بزمام المبادرة شيئاً فشيئاً. وتتسارع التقارير إلىٰ الحاكم الجديد بتحرك الإمام أبي جعفر عليه‌السلام وسط الاُمّة الإسلامية.

عليه ، يقرر المعتصم العباسي وبمشورة مستشاريه ووزرائه ، ومنهم ابن أبي دؤاد الإيادي ، قاضي القضاة المعروف حاله الشخصي ، المبغض لأهل البيت النبوي عليهم‌السلام الذي كان يسيطر علىٰ المعتصم وقراراته وسياسته ، يقرر المعتصم بكتاب يبعثه إلىٰ واليه علىٰ المدينة محمد بن عبدالملك الزيّات (١) في عام « ٩١٢ ه‍ » بحمل الإمام أبي جعفر الجواد عليه‌السلام وزوجته أم الفضل بكل إكرام وإجلال وعلىٰ أحسن مركب إلىٰ بغداد.

لم يكن بد من قبل الإمام عليه السلام من الاستجابة لهذا الاستدعاء ، الذي يُشم منه الإجبار والإكراه ، وقد أحسّ الإمام عليه السلام بأن رحلته هذه هي الأخيرة التي لا عودة بعدها ؛ لذلك فقد خلّف ابنه أبا الحسن الثالث في المدينة بعد أن اصطحبه معه إلىٰ مكة لأداء موسم الحجّ ، وأوصىٰ له بوصاياه وسلّمه مواريث الإمامة ، وأشهد أصحابه بأنه إمامهم من بعده.. (٢) وتستمر الاستعدادات لترحيل الإمام إلىٰ بغداد ، ويستمهلهم الإمام عليه السلام لحين أداء الموسم ، وفعلاً يؤدي الإمام الجواد عليه السلام الموسم ، ويترك مكّة فور أداء المناسك معرجاً علىٰ مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليخلّف فيها ابنه الوصي الوريث ، ولكن يبدو أنه عليه السلام خرج من المدينة متجهاً إلىٰ بغداد ولم يزر جده المصطفىٰ صلى الله عليه وآله وسلم ، وكأنه أراد بهذه العملية التعبير عن احتجاجه علىٰ هذا الاستدعاء ، وأن خروجه من مدينة جده إنّما هو مكره عليه.

ويواصل الإمام عليه السلام رحلته إلىٰ المصير المحتوم وقد أخبر أحد أصحابه بأنّه غير عائد من رحلته هذه مرة اُخرىٰ (٣). كما روىٰ محمد بن القاسم ، عن أبيه ، وروىٰ غيره أيضاً ، قال : لمّا خرج ـ الإمام الجواد عليه السلام ـ من المدينة في المرة الأخيرة ، قال : « ما أطيبك يا طيبة ! فلست بعائد إليك » (4) ، وبُعيد هذا فقد أخبر الإمام عليه السلام أصحابه في السنة التي توفي فيها بأنّه راحل عنهم هذا العام. فعن محمد بن الفرج الرخجي ، قال : ( كتب إليَّ أبو جعفر عليه السلام : « احملوا إليَّ الخمس فإنّي لست آخذه منكم سوىٰ عامي هذا ». فقُبض في تلك السنة ) (5).

وأخيراً ينتهي به المسير إلىٰ بغداد عاصمة الدولة العباسية ، مقرّه ومثواه الأخير الأبدي ، ويدخلها لليلتين بقيتا من المحرم من سنة « ٢٢٠ ه‍ » (6). وما أن وصل إليها وحطّ فيها رحاله حتىٰ أخذ المعتصم يدبّر ويعمل الحيلة في قتل الإمام عليه السلام بشكل سرّي ؛ ولذلك فقد شكّل مثلثاً لتدبير عملية الاغتيال بكلِّ هدوء..

مثلث الاغتيال :

على الرغم من تعدد الروايات في كيفية شهادة الإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام ، فإنّ أغلبها يجمع علىٰ أن الإمام اغتيل مسموماً ـ ولو أن البعض توقف في أن يشهد بذلك ؛ لعدم ثبوت خبر لديه (7) ـ وأنّ مثلث الاغتيال قد تمثّل في زوجته أم الفضل زينب بنت المأمون ، وهي المباشر الأول التي قدّمت للإمام عنباً مسموماً ، ثم في أخيها جعفر ، يدبّرهم ويساعدهم علىٰ هذا الأمر المعتصم بن هارون.

فقد ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين ومنهم المؤرخ الشهير المسعودي فقال : ( فلما انصرف أبو جعفر إلىٰ العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبّرون ويعملون الحيلة في قتله ، فقال جعفر لاُخته أم الفضل ـ وكانت لاُمّه وأبيه ـ في ذلك ؛ لأنّه وقف علىٰ انحرافها عنه وغيرتها عليه لتفضيله أُم أبي الحسن ابنه عليها ، مع شدّة محبتها له ؛ ولأنّها لم ترزق منه ولد ، فأجابت أخاها جعفراً ) (8).

وقال غيره : ( ثم إنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه السلام وأشار إلىٰ ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه ؛ لأنّه وقف علىٰ انحرافها عن أبي جعفر عليه السلام وشدة غيرتها عليه ؛ لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها ؛ ولأنّه لم يرزق منها ولد ، فأجابته إلىٰ ذلك ) (9).

أما ابن شهر آشوب فقد نقل في مناقبه أنّه : ( لما بويع المعتصم جعل يتفقد أحواله ، فكتب إلىٰ عبدالملك الزيّات أن ينفذ إليه التقي وأم الفضل ) (10).

وحان الرحيل :

كما تضاربت الآراء واختلفت في تعيين تاريخ مولده ، كذلك وقع الاختلاف في تعيين يوم شهادته عليه السلام. ولا يمكن الترجيح علىٰ نحو الجزم بأحد تلك الأقوال سواء في المولد أو الوفاة ، لكننا نستطيع أن نستقرب أحد التواريخ المنقولة في المصادر من خلال الاستئناس ببعض القرائن أو الدلائل التي تساعد علىٰ ذلك.

وبناءً علىٰ كون عمر الإمام الجواد عليه السلام عند وفاته قد ضبط في بعض المصادر بخمس وعشرين سنة ، وشهرين ، وثمانية عشر يوماً (11) ، ولو رجّح تاريخ مولده في ١٧ رمضان سنة ( ١٩٥ ه‍ ) (12) ، فإنّ وفاته عليه السلام ستكون وفق ذلك البناء يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة سنة ( ٢٢٠ ه‍ ) (13).

ومما يعضد هذا الرأي وجود رواية في الكافي في باب الإشارة والنصّ علىٰ أبي الحسن الثالث عليه السلام : « شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أنّ أبا جعفر محمد بن علي بن موسىٰ بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، أشهده أنه أوصىٰ إلىٰ عليّ ابنه بنفسه وأخواته.. إلىٰ أن ينتهي من بعض وصاياه ويؤرخ الوصية بقوله : وذلك يوم الأحد لثلاث ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومئتين .. » (14).

من هذا يتبيّن أن الإمام عليه السلام حي يرزق في يوم الأحد ، حيث كتب وصيته وأشهد عليها ثلاثة من أصحابه المقربين إليه : خادمه ، ومولاه ، وأحد أبناء عمومته ، ثم كانت بعد ذلك شهادته عليه السلام يوم الثلاثاء.

وقيل : يوم الثلاثاء لست ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين (15).

أما كيفية وفاته عليه السلام فإنّه اختُلف فيها أيضاً ، فمن قائل بشهادته مسموماً بعنب رازقي ، ومن قائل بمسموميته في منديل ، وهناك من قال إنّه سُمَّ بشراب ، أو من قال إنّ المعتصم أشار إلىٰ أعوانه بدعوته إلىٰ مأدبة فقُدِّم له طعام مسموم فأكل منه ، ومنهم من صرّح بعدم ثبوت خبر موته بالسم ، وسكت البعض الآخر عن كيفية موته واكتفىٰ بكلمة ( قُبض ).

ولعلَّ أقدم نصٍّ توفّرنا عليه الخبر الذي أورده العياشي المتوفّىٰ سنة « ٣٢٠ ه‍ » في تفسيره.

قال العياشي : ( ... قال زرقان : إنّ ابن أبي دؤاد قال : صرت إلىٰ المعتصم بعد ثلاثة ، فقلت : إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة ، وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار.

قال : وما هو ؟

قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من اُمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الاُمّة بإمامته ، ويدّعون أنّه أولىٰ منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء !!

قال : فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيراً ، قال : فأمر ( المعتصم ) يوم الرابع فلاناً من كتّاب وزرائه بأن يدعوه إلىٰ منزله ، فدعاه. فأبىٰ أن يجيبه وقال : « قد علمت أني لا أحضر مجالسكم ». فقال : إنّي إنّما أدعوك إلىٰ الطعام ، وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ، فقد أحب فلان بن فلان ( من وزراء الخليفة ) لقاءك.

فصار إليه ، فلما أُطعم منها أحسَّ السم ، فدعا بدابته ، فسأله ربّ المنزل أن يُقيم ، قال : « خروجي من دارك خير لك ».

فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفة حتىٰ قُبض عليه السلام ) (16).

أما الشيخ المفيد رحمه الله فقد نقل في إرشاده بأنّه عليه السلام : ( قُبض ببغداد ، وكان سبب وروده إليها إشخاص المعتصم له من المدينة ، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم من سنة عشرين ومئتين ، وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة.

وقيل : إنّه مضىٰ مسموماً ، ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به ) (17).

في حين نجد أن المؤرخ علي بن الحسين المسعودي المتوفّى سنة « ٤٣٦ ه‍ » يقول : ( وقيل : إنّ أُم الفضل بنت المأمون لمّا قدمت معه من المدينة إلىٰ المعتصم سمّته ) (18).

وفي موضع آخر ذكر أن مثلث الاغتيال ( المعتصم ـ جعفر ـ أم الفضل ) كانوا قد تشاوروا وتعاونوا علىٰ قتل الإمام والتخلّص منه بعد قدومه إلىٰ بغداد ، بل ما استدعي إلّا للغرض ذاته. فقال : ( .. وجعلوا ـ المعتصم بن هارون وجعفر بن المأمون وأخته أم الفضل ـ سمّاً في شيء من عنب رازقي وكان يعجبه العنب الرازقي ، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي. فقال لها : « ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر ، وبلاء لا ينستر » ، فبليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناسوراً ينتقض عليها في كلِّ وقت. فأنفقت مالها وجميع ملكها علىٰ تلك العلّة حتىٰ احتاجت إلىٰ رفد الناس. وتردّىٰ جعفر في بئر فأُخرج ميتاً ، وكان سكراناً..

ولما حضرت الإمام عليه السلام الوفاة نصّ علىٰ أبي الحسن وأوصىٰ إليه ، وكان قد سلّم المواريث والسلاح إليه بالمدينة ) (19).

وأضاف ابن شهرآشوب السروي المازندراني ( ت / ٥٨٨ ه‍ ) ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري الإمامي ( من أعلام القرن الخامس الهجري ) ، « إنّ امرأته أم الفضل بنت المأمون سمّته في فرجه بمنديل ، فلمّا أحس بذلك قال لها : « أبلاك الله بداء لا دواء له » ، فوقعت الأكلة في فرجها ، وكانت تنصب للطبيب فينظرون إليها ويسرون ـ أو يشيرون ـ بالدواء عليها فلا ينفع ذلك حتىٰ ماتت من علّتها ) (20).

وقال ابن شهرآشوب قبل ذلك أن الإمام عليه السلام لمّا تجهّز ( وخرج إلىٰ بغداد فأكرمه ـ أي المعتصم ـ وعظّمه ، وأنفذ أشناس (21) بالتحف إليه وإلىٰ أم الفضل ، ثم أنفذ إليه شراب حُمّاض الأُترُجّ (22) تحت ختمه علىٰ يدي أشناس ، وقال : إنّ أمير المؤمنين ذاقه قبل أحمد بن أبي دؤاد ، وسعد بن الخضيب وجماعة من المعروفين ، ويأمرك أن تشرب منها بماء الثلج ، وصُنع في الحال. فقال ـ أي الإمام عليه السلام ـ : « أشربها بالليل ». قال : إنّها تنفع بارداً ، وقد ذاب الثلج ، وأصر علىٰ ذلك ، فشربها عالماً بفعلهم ) (23).

وبعد ، فهذا إجمال لما ورد في شأن وفاته وكيفيتها ، والذي يبدو راجحاً هو أن الإمام عليه السلام قُضي عليه بالسم ، وأن المشاركين في عملية الاغتيال قد عرفتهم ، وعرفت تدبيرهم. مع العلم أن محاولات سبقت كانت تدّبر لاغتيال الإمام ؛ لكنّه عليه السلام كان يعلم بها ، وكان حذراً وقد أخذ بالاحتياط في التعامل سواء مع زوجته أو مع أعوان السلطان في مأكله ومشربه. ولقد كان متوقعاً هذا الأمر قبل وقت غير قليل ، فيوم دخل عليه محمد بن علي الهاشمي صبيحة عرسه في بغداد كان يتوقع هذا أن يأتوا للإمام بماء مسموم حين طلب ماءً للشرب.

كما أفلت عليه السلام من محاولة استهدفت سمّه في طعام قدّم له ، فقد نقل أبو جعفر المشهدي باسناده : ( عن محمد بن القاسم ، عن أبيه ، وعن غير واحد من أصحابنا أنّه قد سمع عمر بن الفرج أنّه قال : سمعتُ من أبي جعفر عليه السلام شيئاً لو رآه محمداً أخي لكفر.

فقلت : وما هو أصلحك الله ؟

قال : إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قرب الطعام ، فقال : « أمسكوا ».

فقلت : فداك أبي ، قد جاءكم الغيب !

فقال : « عليَّ بالخباز ». فجيء به ، فعاتبه وقال : « من أمرك أن تسمّني في هذا الطعام ؟ ». فقال له : جُعلت فداك ( فلان ) ، ثم أمر بالطعام فرُفع وأُتي بغيره ) (24).

وعلىٰ أي حال فقد نجح مثلث الاغتيال في تدبيرهم الأخير ، وأطفأوا نور الإمام ، وحرموا أنفسهم والاُمّة من بركاته ، وما أطفأوا إلّا نوراً من أنوار النبوّة ، لو كانوا رعوه حق رعايته لسُقوا ماءً غدقاً ، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولكنّهم :

عجبتُ لقوم أضلّوا السبيــل * ولم يبتغوا اتّبــاع الهـــــــــدىٰ

فما عرفوا الحق حين استنار * ولا أبصروا الفجر لمّا بــــــــــــدا

وسرعان ما يلتحق الإمام عليه السلام إلىٰ بارئه فينال هناك كأسه الأوفىٰ ، وهو لم يخسر الدنيا ؛ لأنّه لم يكن يملك منها شيئاً ، ولا رجا وأمّل يوماً من حطامها شيئاً ، لكنّ الاُمّة خسرته ابناً من أبناء الرسالة ، وعلماً من أعلام النبوّة ، وطوداً شامخاً كان يفيض علىٰ هذا الوجود كلّ أسباب العلم والمعرفة ، والتقىٰ والصلاح ، ولو قدروه حقّ قدره ؛ لأكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم ، ولوجدوا به خيراً كثيراً.

وروي أن ابنه علي الهادي عليه السلام قام في جهازه وغسله وتحنيطه وتكفينه كما أمره وأوصاه ، فغسّله وحنّطه وأدرجه في أكفانه وصلّىٰ عليه في جماعة من شيعته ومواليه (25).

وجاء في الأخبار أن الواثق صلّىٰ عليه بحضور جماهير غفيرة من الناس ، ثم حُمل جثمانه في موكب مهيب تشيعه عشرات الآلاف من الناس إلىٰ مقابر قريش حيث مثوىٰ جدّه الإمام الكاظم موسىٰ بن جعفر عليهما السلام ، فأُقبر إلىٰ جواره في ملحودة أصبحت اليوم عمارة شامخة تناطح السماء بمآذنها الذهبية ، وقبلة يؤمها آلاف المسلمين يومياً للتبرك بأعتابها ، وطلب الحوائج من ساكنيها. ولطالما انقلب الملمّون والمستغيثون إلىٰ أهلهم فرحين بما وجدوا من إنجاز طلباتهم التي تعسّر حلّ مشكلها ، بل وإن البعض منها كان في حكم المحال حلّ معضله.

الإشادة بشخصية الإمام عليه السلام :

الإمام الجواد عليه السلام ما رآه أحد إلّا أُعجب به ودُهش ، وما سمع به أحد إلّا أشاد به وأطراه ، فقد ملكت هيبة الإمام ومواهبه ونبوغه المبكر عقول وعواطف العلماء والمؤرخين ، فراحوا يسجلون إعظامهم وإكبارهم عبر كلمات المديح والإطراء عندما يصلون إلىٰ ساحة قدس الإمام الجواد عليه السلام ليكتبوا عن حياته الشريفة. وقد انتخبنا هذه المجموعة من الانطباعات لعدد من العلماء وكبار المؤرخين ـ من غير الإمامية غالباً ـ عن شخصية الإمام الجواد عليه السلام ومواهبه الخلّاقة ، وعبقريته المنقطعة النظير ، وما اتصف به من نزعات وأخلاق كانت تحكي خلق وصفات جده الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وآبائه الميامين الأطهار ، نردفها وفق تسلسل سني وفيات أصحابها ، وهي كما يلي :

١ ـ ابن طلحة الشافعي ( ت / ٦٥٢ ه‍ ) ، قال في كتابه « مطالب السؤول في مناقب آل الرسول » عند تعرّضه لترجمة الإمام الجواد عليه السلام :

( وأما ) مناقب أبي جعفر محمد الجواد .. فما اتسعت له حلبات مجالها ، ولا امتدت له أوقات آجاله ، بل قضت عليه الأقدار الإلهية بقلة بقائه في الدنيا بحكمها وسجالها ، فقلّ في الدنيا مقامه ، وعجّل عليه فيها حمامه ، فلم تطل لياليه ، ولا امتدت أيامه..

فإنّه قد تقدّم في آبائه عليهم السلام أبو جعفر محمد الباقر بن علي ، فجاء هذا باسمه وكنيته واسم أبيه ، فعُرف بأبي جعفر الثاني. وإن كان صغير السن فهو كبير القدر ، رفيع الذكر ، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة.. (26).

٢ ـ سبط ابن الجوزي ( ت / ٦٥٤ ه‍ ) ، قال في « تذكرة الخواص » :

محمد بن علي بن موسىٰ بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.. وكان علىٰ منهاج أبيه في العلم والتقىٰ والزهد والجود. ولما مات أبوه قدم علىٰ المأمون فأكرمه وأعطاه ما كان يعطي أباه.. وكان يلقّب بالمرتضىٰ والقانع ، وكانت وفاته خامس ذي الحجة.. وقبره يُزار ، وكان له أولاد المشهور منهم علي الإمام (27).

٣ ـ علي بن عيسىٰ الإربلي ( ت / ٦٩٣ ه‍ ) ، قال في « كشف الغمة » :

الجواد عليه السلام في كلِّ أحواله جواد ، وفيه يصدق قول اللغوي جواد من الجودة من أجواد ، فاق الناس بطهارة العنصر ، وزكاء الميلاد ، فما قاربه أحد.. ومكانته الرفيعة تسمو علىٰ الكواكب ، ومنصبه يشرق علىٰ المناصب. له إلىٰ المعالي سموّ ، وإلى الشرف رواح وغدوّ ، وفي السيادة إغراق وعلوّ. تتأرّج المكارم من أعطافه ، ويقطر المجد من أطرافه. إذا اقتسمت غنائم المجد والمعالي والمفاخر كان له صفاياها ، وإذا امتطيت غوارب السؤدد كان له أعلاها وأسماها. يباري الغيث جوداً وعطية ، ويجاري الليث نجدة وحمية. فمن له أب كأبيه أو جدّ كجدّه ؟ فهو شريكهم في مجدهم وهم شركاؤه في مجده ، وكما ملأوا أيدي العفاة برفدهم ، ملأ أيديهم برفده (28).

٤ ـ أبو الفداء ( ت / ٧٣٢ ه‍ ) ، في تاريخه المسمّىٰ « المختصر في أخبار البشر » أو « تأريخ أبي الفداء » :

محمد بن علي بن موسىٰ بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو أحد الأئمة الاثني عشر عند الإمامية.. ومحمد الجواد المذكور ، هو تاسع الأئمة الاثني عشر ، وقد تقدم ذكر أبيه علي الرضا (29).

٥ ـ الحافظ الذهبي ( ت / ٧٤٨ ه‍ ) ، قال في « تاريخ الإسلام » :

محمد بن الرضا علي بن الكاظم موسىٰ بن الصادق جعفر بن الباقر محمد بن زين العابدين علي بن الشهيد الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، أبو جعفر الهاشمي الحسيني.

كان يلقّب بالجواد ، وبالقانع ، وبالمرتضىٰ. كان من سروات آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. توفّي ببغداد في آخر سنة عشرين شاباً طريّاً.. وكان أحد الموصوفين بالسخاء ؛ ولذلك لقّب بالجواد.. رحمه الله ورضي عنه (30).

٦ ـ ابن تيميّة الحنبلي ( ت / ٧٥٨ ه‍ ) ، قال في كتابه « منهاج السُنّة » مانصّه :

محمد بن علي الجواد ، كان من أعيان بني هاشم ، وهو معروف بالسخاء والسؤدد ، ولهذا سمّي ( الجواد ). ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة (31).

٧ ـ اليافعي ( ت / ٧٦٨ ه‍ ) ، قال في كتابه « مرآة الجنان » :

أبو جعفر محمد الجواد بن علي الرضا بن موسىٰ الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ، أحد الاثني عشر إماماً الذين يدّعي الرافضة فيهم العصمة. وكان المأمون قد نوّه بذكره..

وكان الجواد يروي مسنداً عن آبائه إلىٰ علي بن أبي طالب رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين. وكان يقول : « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة » (32).

٨ ـ الغزّي ( ت / ١١٦٧ ه‍ ) ، ذكر ترجمة مقتضبة للإمام الجواد عليه السلام في كتابه « ديوان الإسلام » ، فقال :

الجواد : محمد بن علي بن موسىٰ ، السيد الشريف أبو جعفر الهاشمي الحسيني ، أحد الأئمة الاثني عشر عند الإمامية (33).

٩ ـ الزِرِكلي ( ت / ١٣٩٦ ه‍ ) ، قال في « الأعلام » :

محمد بن علي الرضا بن موسىٰ الكاظم الطالبي الهاشمي القُرشي ، أبو جعفر الملقّب بالجواد ( ١٩٥ ـ ٢٢٠ ه‍ / ٨١١ ـ ٨٣٥ م ) : تاسع الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. كان رفيع القدر كأسلافه ، ذكياً ، طلق اللسان ، قوي البديهة (34).

 

الهوامش

1. راجع : مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٤ : ٣٨٤.

2. راجع : إثبات الوصية / المسعودي : ١٩٢. وعيون المعجزات : ١٣١. وعنه في بحار الأنوار ٥٠ : ١٦ واُصول الكافي ١ : ٣٢٣ / ١.

3. اُصول الكافي ١ : ٣٢٣ / ١ باب الاشارة والنص علىٰ أبي الحسن الثالث عليه السلام.

 4. الثاقب في المناقب / ابن حمزة الطوسي : ٥١٦.

5. مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨٩.

6. الإرشاد ٢ : ٢٩٥. وروضة الواعظين ١ : ٢٤٣.

7. راجع الإرشاد ٢ : ٢٩٥ ، والسبب في ذلك أن الشيخ المفيد لا يعمل ولا يأخذ إلّا بالأخبار المتواترة.

8. إثبات الوصية : ١٩٢. وراجع : دلائل الإمامة : ٣٩٥.

9. عيون المعجزات : ١٣٢.

10. مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨٤.

11. اُصول الكافي ١ : ٤٩٢.

12. إعلام الورى ٢ : ٩١.

13. إثبات الوصية : ١٩٢.

14. اُصول الكافي ١ : ٣٢٥ / ٣.

15. تاريخ أهل البيت عليه السلام : ٨٥ ، بتحقيق السيد محمد رضا الجلالي ، نشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام ١٤١٠ ه‍ ـ قم.

16. تفسير العياشي ١ : ٣٢٠ / ١٠٩ وعنه بحار الأنوار ٥٠ : ٥ / ٧.

والخَلْفَة : ذهاب شهوة الطعام من المرض ، أو الإسهال والتقيؤ نتيجة التسمم.

17. الإرشاد ٢ : ٢٩٥.

18. مروج الذهب ٤ : ٦٠ الطبعة الاُولىٰ ١٤١١ ه‍ ، تحقيق عبد الأمير علي مهنا.

19. دلائل الإمامة : ٣٩٥. وعيون المعجزات : ١٣١ وعنه بحار الأنوار ٥٠ : ١٦ / ٢٦.

20. مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٩١. ودلائل الإمامة : ٣٩٥.

21. أشناس : من كبار قواد جيش المعتصم ، تركي الأصل. اشترك في فتح عمورية سنة « ٢٢٣ ه‍ ». عهد إليه المعتصم بناء مدينة سامراء لتكون ثكنة للجيش التركي الذي ضاقت به بغداد. تولىٰ إمرة دمشق في عهد الواثق. مات سنة « ٢٣٠ ه‍ » ، وقيل سنة « ٢٥٢ ه‍‍ ».

22. الأُترُوج أو الأُترُنج : ثمر من جنس الحمضيات ويقال له ( التُرُنج ) أيضاً والحُمّاض : ما في جوف الأُترُجّ من اللب.

23. مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨٤.

24. الثاقب في المناقب : ٥١٧ / ٤٤٦.

25. مجموعة وفيات الأئمة : ٣٤٢.

26. مطالب السؤول ٢ : ٧٤.

27. تذكرة الخواص : ٣٥٢.

28. كشف الغمة ٣ : ١٦٢.

29. تأريخ أبي الفداء ١ : ٣٤٣.

30. تاريخ الإسلام ١٥ : ٣٨٥ رقم ٣٧٢ وفيات سنة ( ٢١١ ـ ٢٢٠ ه‍ ).

31. منهاج السنّة ٢ : ١٢٧.

32. مرآة الجنان ٢ : ٨٠.

33. ديوان الإسلام ٢ : ٦٧ رقم ٦٥١.

34. الأعلام ٦ : ٢٧١.

 

مقتبس من كتاب الامام محمّد الجواد عليه السلام .. سيرة وتاريخ