العامل الثاني المكوّنة للفرق : سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق

البريد الإلكتروني طباعة

العامل الثاني المكوّنة للفرق : سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق

إذا كانت الدعايات الحزبيّة أوّل عامل لتكوّن الفرق ، فهناك عامل ثان لتفريق المسلمين وتبديدهم إلى فرق متباعدة ، وهو سوء الفهم ـ عن تقصير ـ في تحديد العقائد الدينيّة من بعضهم ، وقلّة العقل وخفّته في بعض آخر منهم ، وقد كان هذا عاملاً قويّاً لتكوّن الخوارج التي كانت من أخطر الفرق على الإسلام والمسلمين ، لولا أنّ الإمام عليّاً عليه السلام استأصلهم وبدد شملهم ، ومع ذلك بقيت منهم حشاشات تنجم تارة وتخفق أُخرى في الأجيال والقرون ، وإليك شرحه :

لقد ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتيجة الأحداث المؤلمة التي ارتكبها عمّاله في هذه البلاد وانتهى الأمر إلى قتله وتنصيب علي عليه السلام مكانه لما عرفت الأُمّة من علمه وفضله وسابقته وجهاده المنقطع النظير ، وقام علي عليه السلام بعزل الولاة والعمّال الذين نصبهم عثمان على رقاب الناس ، وقد انتهت أعمالهم الإضراريّة من جانب ، وإصرار الخليفة على إبقائهم من جانب آخر ، إلى قتله.

قام علي عليه السلام بعزل الولاة آنذاك ، ونصب العمّال الأتقياء الزهّاد الكفاة مكانهم ، وعند ذلك طمع الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه في العراقين ، وطلبا منه أن يولي أحدهما على الكوفة والآخر على البصرة ، والمألوف من طريقة علي عليه السلام في تنصيب العمال اشتراط شروط ، تخالف ما كان عليه الرجلان وقد قال في حقّهما كلمة : « وإنّي أخاف شرّهما على الأُمّة وهما معي ، فكيف إذا فرقتهم في البلاد ». (1)

فعند ذلك ثارا على الإمام علي عليه السلام وخرجا عليه واتّهماه لتبرير موقفهما ـ بقتل عثمان أو إيواء قتلته ، وكانت نتيجة ذلك اشتعال نار الحرب بين الإمام والرجلين في نواحي البصرة « حرب الجمل » وقتل الرجلين بعد أن أُريقت دماء الأبرياء.

ثمّ إنّ معاوية قد عرف موقف علي عليه السلام بالنسبة إلى عمال الخليفة « عثمان » ، ومع هذا طلب من الإمام إبقاءه والياً على الشام ، فرفض الإمام ذلك لما يعرف من نفسيّة معاوية وانحرافه ، ونشبت من ذلك « حرب صفين » ولما ظهرت بوادر الفتح المبين لعلي وجيشه ، التجأ معاوية وحزبه إلى خديعة رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن بين الطرفين ، فصار ذلك نواة لحدوث الاختلاف في جبهة علي عليه السلام. فمن قائل : نستمر في الحرب وهذه خدعة ومكر ، ومن قائل : نجيبهم إلى ما دعونا إليه. وقد أمر الإمام بمواصلة الحرب ، وقام بتبيين الخدعة ، غير أنّ الظروف الحاكمة السائدة على جيش الإمام ألجأته إلى قبول وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحكمين وإعلان الهدنة ، وكتب هناك كتاباً حول هذا.

ومن العجيب أنّ الذين كانوا يصرّون على إيقاف الحرب ندموا على ما فعلوا فجاءوا إلى الإمام يصرّون على نقض العهد ، والهجوم على جيش معاوية من جديد ، غير أنّ الإمام وقف في وجههم بصمود لما يتضمّن من نقض العهد ( وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ). (2)

وعند ذلك نجمت فرقة باسم الإسلام من جيش علي عليه السلام وطلع قرن الشيطان ، فعادت تلك الجماعة خارجة عن إطاعة إمامهم ، رافضة لحكومته ، ومبغضة إيّاه كما أبغضت عثمان وعمّاله ، وهذه الفرقة هي فرقة الخوارج وما زالوا مبدأ أحداث وعقائد في التاريخ. وكان الحافز القوي على تكوّن هذه الفرقة هو سوء الفهم واعوجاج السليقة ، وقد عرّفهم الإمام بقوله ـ عندما شهروا سيوفهم عليه في النهروان ـ : « فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط على غير بيّنة من ربّكم ولا سلطان مبين معكم ، قد طوّحت بكم الدار واحتبلكم المقدار ، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين ، حتّى صرفت رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفّاء الهام ، سفهاء الأحلام ».(3)

وللإمام كلمة أُخرى يشير فيها إلى السبب الذي فارقوا به عن الحقّ قال صلوات اللّه عليه : « لا تقتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » ـ يعني معاوية وأصحابه ـ.

قال الإمام عبده : والخوارج من بعده وإن كانوا قد ضلّوا بسوء عقيدتهم فيه إلّا أنّ ضلّتهم لشبهة تمكّنت في نفوسهم ، فاعتقدوا أنّ الخروج عن طاعة الإمام ممّا يوجبه الدين عليهم ، فقد طلبوا حقّاً وأرادوا تقريره شرعاً ، فأخطأوا الصواب فيه.(4)

وقد زعموا أنّ مسألة التحكيم تخالف قوله سبحانه : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ). (5)

وسيوافيك مفاد الآية ومقالة المحتجين بها ـ عند البحث عن عقائد تلك الفرقة ـ كي يظهر مدى اعوجاج فهم القوم.

ظهور المرجئة

قد كان لظهور الخوارج أثر بارز في حدوث الفتن وظهور الحوادث الأُخر في المجتمع الإسلامي ، وقد نجمت المرجئة من تلك الناحية حيث إنّ الإرجاء بمعنى التأخير قال سبحانه : ( أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ). (6)

ولهذه الفرقة « المرجئة » آراء خاصة نشير إليها في محلّها ، غير أنّ اللبنة الأُولى لظهورها هي اختلافهم في أمر علي وعثمان ، فهؤلاء « الخوارج » كانوا يحترمون الخليفتين أبا بكر وعمر ويبغضون عليّاً وعثمان ، على خلاف أكثريّة المسلمين ، ولكن المرجئة الأُولى لما لم يوفقوا لحلّ هذه المشكلة التجأوا إلى القول بالإرجاء فقالوا : نحن نقدّم أمر أبي بكر وعمر ، ونؤخّر أمر الآخرين إلى يوم القيامة ، فصارت المرجئة فرقة نابتة من خلاف الخوارج في أمر الخليفتين ، مع فوارق بينهم وبين المرجئة التي تأتي في محلّها ، والعامل لتكوّنها كأصلها ، هو سوء الفهم واعوجاج التفكير.

هذا هو أصل الإرجاء ، ولبنته الأُولى ، ولكنّه قد نسي في الآونة الأخيرة ; وأخذ الأصل الآخر مكانه ، وهو كون العمل داخلاً في الإيمان أو لا ؟ وبعبارة أُخرى : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو لا ؟

ذهبت الخوارج إلى دخول العمل في صميم الإيمان ، فصار مرتكب الكبيرة كافراً.

واختارت المعتزلة كون مرتكب الكبيرة غير مؤمن ولكنّه ليس بكافر ، بل هو في منزلة بين المنزلتين.

وذهبت المرجئة الأُولى إلى خروج العمل من الإيمان ، وأنّ إيمان مرتكب الكبيرة ، كإيمان الملائكة والأنبياء بحجّة عدم دخالة العمل في الإيمان. فاشتهروا بالقول : « قدّموا الإيمان وأخّروا العمل » فصار هذا أصلاً وأساساً ثانوياً للمرجئة. فكلّما أطلقت المرجئة لا يتبادر منها إلّا هؤلاء.

إنّ الاكتفاء في تفسير الإيمان بالشهادة اللفظية أو المعرفة القلبية ، وأنّ عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً ، وانّ النار للكافرين (7) واقتحام الكبائر لا يضرّ أبداً ، فكرة خاطئة تسير بالمجتمع وخصوصاً الشباب فيه إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم.

وعلى كلّ تقدير إنّ نظرية الإرجاء في كلا الموضعين نظرية باطلة نشأت من الاعوجاج في فهم المعارف والانحراف في تفسير الذكر الحكيم ، والحديث المأثور عن النبي الأكرم (ص).

ولما كان مذهب الإرجاء لصالح السلطة الأموية أخذت تروّجه وتسانده حتى لم يلبث أن فشا في الإرجاء ، ولم تبق كورة إلّا وفيها مرجئي ، كما سيوافيك ذلك عند البحث عن عقائد هذه الفرقة.

وليس ظهور الخوارج أو المرجئة وحدهما نتاج الإعوجاج الفكري ، بل هناك مذاهب أُخرى نجمت من هذا المنشأ. عصمنا اللّه جميعاً من الزلل في القول والعمل.

* * *

( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).

[ النحل : الآية ١٢٥ ]

الهوامش

1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١١ ص ١٦.

2. الأحزاب : الآية ١٥.

3. نهج البلاغة شرح محمد عبده : ج ١ ص ٨٢ ، الخطبة ٣٥.

4. نهج البلاغة شرح محمد عبده : ج ١ ص ١٠٣ الخطبة ٥٨.

5. سورة يوسف : الآية ٤٠.

6. سورة الأعراف : الآية ١١١.

7. شرح المقاصد للتفتازاني : ج ٢ص ٢٢٩ ولاحظ أيضاً ص ٢٣٨.

مقتبس من كتاب : [ بحوث في الملل والنحل ] ، الجزء : 1 ، الصفحة : 55 إلى 59

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية